التكييف الفقهي للخطبة:
ذهب جمهور الفقهاء الى ان الخطبة وعد بالزواج وليست عقدا مستقلا بنفسه، ولهذا فلا الزام فيها قضاء، لان الوعود كذلك عند الجمهور، واما ديانة فهي ملزمة ما لم يطرا عليها ما يغير قناعة الخطيبين ببعضهما، او يجعلهما غير صالحين للزواج، فعندها ينتفي اللزوم عنها ديانة ايضا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين ثم راى خيرا منها فليات الذي هو خير) رواه مسلم. هذا في الوعد المؤكد اليمين، فكيف بالوعد بغير يمين، فانه مثله على الاقل، الا انه لا كفارة فيه، لان الكفارة خاصة باليمين، وعلى هذا، فان لكل من الخاطب والخطيبة ان يعدلا عنها قضاء في اي وقت، لسبب ولغير سبب، سواء وافق على ذلك الطرف الثاني للخطبة ام لا.
وذهب ابن شبرمة الى ان الخطبة عقد لازم، وعلى هذا فليس لاحد الخطيبين ان يفسخ الخطوبة بارادته المنفردة ما لم يوافقه الطرف الاخر على ذلك، فاذا وافق جاز، واذا لم يوافق لزم اتمام الزواج، الا ان يحدث بعد الخطبة ما يجعل العقد مستحيلا، كالموت، او طرو سبب من اسباب التحريم، كالرضاع او المصاهرة، وذلك استدلالا بقوله تعالى: (واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولا) (الاسراء:34).
الا ان مذهب الجمهور عندي هو الاقوى، لاسباب، منها:
1- جعل الخطبة عقدا لازما يخرجها عن طبيعتها، فهي فترة ترو وتعرف، فاذا كانت ملزمة لم تكن كذلك.
2- عقد الزواج من العقود الرضائية التي لا تتم الا بالرضا التام من الزوجين، حقيقة ان كانا بالغين، او حكما ان كانا قاصرين، وذلك بموافقة ورضا ولييها، فاذا جعلنا الخطبة عقدا لازما يجب الزواج بعده، كان الزواج هذا زواجا بالاكراه لا بالرضا، وهو ممنوع.
اثر العدول عن الخطبة على المهر:
قد تستمر الخطوبة فترة طويلة قبل ان تنتهي بعقد الزواج، وربما سلم الخاطب الى خطيبته المهر او بعضه في خلال ذلك، ثم طرا ما حدا بالخاطب او الخطيبة الى العدول عن الخطبة، فما اثر هذا العدول على ما سلمه الخاطب من المهر؟
اتفق الفقهاء على انه ليس للخطيبة مطالبة الخاطب بشيء من المهر قبل عقد الزواج، سواء كانا على خطبتهما او عدلا عنها باتفاقهما، او كان العدول من الخاطب وحده، او من الخطيبة وحدها، وذلك لان المهر لا يستحق للمراة الا بالعقد، فما لم يتم العقد فلا حق للمراة في المهر اصلا.
ولكن ان سلم الخاطب المهر او جزءا منه للخطيبة، فهل له ان يسترد ما سلمه اليها بعد ذلك مع استمرار الخطبة وبعد فسخها؟
لا خلاف بين الفقهاء في ان للخاطب استرداد ما سلمه للخطيبة من المهر مع استمرار الخطبة وبعد فسخها على سواء، لان المهر ملكه، ولا ينتقل الى المراة الا بعقد الزواج، فما دام العقد لم يتم فهو ملكه وله استرداده، ولا يختلف الحال بعد فسخ الخطبة عنه قبل فسخها، فان كان قائما على حاله استرده كما سلمه، وان هلك او استهلك او ضاع او سرق او باعته استرد مثله ان كان مثليا، وقيمته يوم سلمه لها ان كان قيميا.
الا ان الخطيبة اذا اشترت به اشياء خاصة بها، ثم طلبه الخاطب، فهل لها ان تسلمه ما اشترته به، او ان عليها ان تسلمه المهر الذي قبضته عينا، ومثله او قيمته ان هلك.
لم ار من الفقهاء من بحث في هذا الموضوع بتفصيل، وربما كان اغفالهم له بسبب ان عادة القوم كانت ان لا يتصرفوا بالمهر الا بعد العقد، الا ان القواعد العامة تقضي بوجوب رده عينا اذا طلبه الخاطب، سواء كان ذلك في اثناء الخطبة او بعد فسخها، وسواء كان فسخ الخطبة من جهته او من جهتها، لان المهر حقه، فيكون له استرداده في اي حال، وليس لها التصرف فيه الا بامره، لعدم تعلق حقها فيه قبل العقد.
الا ان الخاطب اذا سلم المهر او بعضا منه للخطيبة واذن لها بالتصرف فيه صراحة او دلالة، كشراء الجهاز وما اليه على نحو معين، فتصرفت فيه على نحو ما اذن لها الخاطب، ثم طلب رده اليه في اثناء الخطبة او بعد فسخها، فانه ينبغي ان يكون للخطيبة ان ترد اليه ما اشترته به من الجهاز ونحوه، مادام ذلك في حدود اذنه، لانها وكيلة عنه في ذلك، وتصرفات الوكيل لازمة للموكل، بل ان هذا واجب عليها وليس حقا فقط، وانه ليس لها الاحتفاظ بالمشتريات ودفع المهر عينا، لان المشتريات ملك الخاطب، لانها بماله ووكالته، الا ان تكون اشترتها لنفسها من مالها، فانها تكون لها وترد له مهره عينا، فاذا تجاوزت الخطيبة اذن الخاطب في اثناء الشراء بالمهر، كان الخاطب مخيرا بين استرداد المهر عينا، او اخذ المشتريات، لان شراءها موقوف على اجازته، فان اجازه نفذ عليه، والا نفذ عليها هي، ويستوي في هذا عندي ان يكون ذلك في اثناء الخطبة او بعد فسخها، باتفاقهما، او من جهة الخاطب وحده، او من جهة الخطيبة وحدها، لعدم الفارق في ذلك كله، فاذا سلمها المهر او بعضا منه دون ان ياذن لها بالتصرف فيه لا صراحة ولا دلالة، فتصرفت فيه بشراء جهاز وما اليه، فان كانت اشترت به ما لم تجر العادة على شرائه، كدار او غيرها، لزمها ما اشترته، وردت الى الخاطب مهره عينا، لعدم الاذن بالتصرف، وان اشترت به ما جرت عادة الناس على شرائه بالمهر كالجهاز، فالاقوى عندي ان يكون ما اشترته للخاطب، تدفعه اليه عند طلب المهر، ولا تجبر على دفع المهر عينا، وذلك اقامة للعرف مقام الاذن، للقاعدة الفقهية الكلية: (المعروف عرفا كالمشروط شرطا)[1]، هذا اذا لم يمنعها من التصرف فيه بنص صريح، والا منعت من ذلك للنص، لان النص اقوى من العرف، للقاعدة الفقهية الكلية: (لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح) [2].
هذا وقد ذهب قانون الاحوال الشخصية السوري في المادة الرابعة منه مذهبا مشابها لذلك، الا انه خالفه في بعض الجزئيات الاخيرة، حيث نص على ان فسخ الخطوبة اذا كان من جهة الخاطب خيرت الخطيبة بين رد المشتريات ورد عين المهر المقبوض، وان كان من جهة الخطيبة ردت عين المهر وجوبا، وهو اتجاه وجيه ايضا، حيث عد الخطيبة مفوضة من الخاطب ضمنا بالشراء بالمهر بشرط اتمام الخطوبة، فاذا لم تتمها وفسختها هي لغا التفويض، فكان الشراء لها، اما اذا فسخها الخاطب فالتفويض صحيح والمشتريات له.
الا انني ارى ان الاتجاه الذي اشرت اليه اولا هو الاقوى، وان اتجاه القانون فيه بعض الضعف، ذلك اننا اذا عددنا الخطيبة مفوضة من الخاطب بالتصرف بما قبضته من مهر، ترتب علينا عد المشتريات للخاطب، فاذا عدل كان الواجب عليها تسليم المشتريات اليه عند طلب المهر، وليس الخيار بين تسليم المشتريات او المهر عينا، الا ان يرضى الخاطب بعين المهر.
وكذلك اذا عدلت الخطيبة، فانه ينبغي ان يخير الخاطب بين اخذ المشتريات او المهر عينا، لانها اشترتها بتفويضه الضمني مع الاخلال بشرط هذا التفويض، فيكون الشراء موقوفا على اجازته، فان اجازه نفذ ووجب تسليمه اليه، والا بطل، فكان لها واسترد مهره عينا، الا ان القانون لم يقل بذلك.
وهذا كله اذا كان المشترى بالمهر جهازا معتادا، فاذا اشترت به عقارا مثلا، وكان ذلك غير معتاد، لم ينفذ الشراء على الخاطب، ويكون له استرداد عين المهر حتما بالاتفاق، الا ان يكون قد فوضها بذلك، فيكون العقار له.
اثر العدول عن الخطبة على الهدايا:
كثيرا ما يتبادل الخطيبان الهدايا بينهما اثناء الخطبة، وربما كانت اكثر الهدايا من قبل الخاطب لخطيبته، وهذه الهدايا تختلف احوالها وقيمتها وانواعها وطريقة اهدائها باختلاف الاعراف والازمنة وحال الخطيبين، فاذا عدل الخطيبان او احدهما عن الخطبة، فما هو مصير هذه الهدايا بعد العدول، ايكون للمهدي في هذه الحال ان يعود في الهدايا، ام تكون الهدايا ملكا للمهدى اليه، ولا رجوع للمهدي فيها مطلقا؟
اتفق الفقهاء على ان للهدايا بين الزوجين حكم الهبة، الا ان بعض الفقهاء عدها هبة مشروطة باتمام الزواج حكما، فامضى عليها حكم الهبة المشروطة، ولم يعتد فقهاء اخرون بهذا الشرط الضمني، فعدوها هبة مطلقة، واطلقوا عليها حكم الهبة المطلقة، وتفصيل ذلك في الاتي:
1) ذهب الحنفية[3] الى ان الهدايا بين الزوجين هبة مطلقة، وحكم الهبة المطلقة عندهم بعد قبضها جواز استردادها قضاء، الا لمانع، وان كره ذلك ديانة، لما رواه ابن عباس رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) رواه البخاري.
وموانع الرجوع في الهبة عند الحنفية سبعة هي:
1- زيادة عين الموهوب زيادة متصلة به: كالشاة اذا سمنت، والقماش اذا خيط ثوبا، فان هذه الزيادة تمنع الرجوع بالهبة، سواء كانت متولدة من الاصل، او لا، شرط ان تكون زيادة معتبرة، فان كانت قليلة، فلا حكم لها، ولم تمنع الرجوع في الهبة، ومرد تقدير ذلك الى القضاء.
2- موت الخاطب او المخطوبة: لان موت الواهب او الموهوب يمنع الرجوع في الهبة عندهم.
3- قبض الواهب من الموهوب له عوضا عن الهبة: فاذا اهدى الخاطب خطيبته شيئا ثم قبل منها عوضا عنها، سقط حقه في الرجوع عليها بما وهبها، وكذلك الخطيبة اذا اهدت خطيبها شيئا ثم قبلت منه بدلا عنه، لان العقد اصبح معاوضة لا هبة، والمعاوضات عقود لازمة على خلاف الهبات، هذا اذا قبض الواهب العوض مع النص على انه عوض هبة، فاذا قبضه على انه هبة مبتدا لا عوض عن هبة سابقة، كان هبة مطلقة، وجاز الرجوع فيه.
4- خروج الموهوب عن ملك الموهوب له باي طريق كان: كان باعها او وهبها لغيره، فان ذلك يمنع الواهب من الرجوع فيها، لتعلق حق غيره بها.
5- القرابة: وهي هنا القرابة مع المحرمية، فلو كان الواهب قريبا محرما من الموهوب له امتنع عليه الرجوع في الهبة له، خشية قطع الارحام، فاذا كان محرما غير قريب، كالاخ رضاعا، او قريبا غير محرم، كابن العم، لم يمتنع الرجوع في الهبة، وغني عن البيان ان هذا الشرط لا يتاتى بين الخطيبين، لبطلان خطبة المحارم.
6- الزوجية: وهي هنا العقد الصحيح، وذلك درءا للقطيعة بين الزوجين، وهذا الشرط غير متات هنا ايضا، لان العدول المفروض بين الخطيبين قد تم قبل العقد لا بعده، والا كانا زوجين لا خطيبين.
7- الهلاك: وهو هلاك عين الموهوب، وسواء في ذلك ان يهلك بصنع الموهوب له، كان يكون طعاما فياكله او ثوبا فيلبسه. … او بغير صنعه، كان يكون سوارا فيسرق منه، او يضيع، فانه لا رجوع فيه ولا في قيمته او مثله.
هذا اذا كان الهلاك كليا، فاذا كان جزئيا، بان هلك البعض دون البعض، سقط الرجوع في الهالك وبقي في الجزء القائم.
وذهب الشافعية، الى ان احد الخطيبين اذا اهدى الاخر شيئا ونوى فيه الهدية المطلقة وعدم الرجوع فيها، لم يرجع من ذلك بشيء بعد العدول، وان نوى به الهبة المشروطة باتمام الزواج، فان كان العدول عن الخطبة من جهة المهدي، فلا رجوع له ايضا، لانه لم يحصل من الطرف الثاني ما يمنع تمام الخطوبة والزواج، وان كان الرجوع من قبل المهدى اليه، عد هذا اخلالا بالشرط المنوي، فكان للمهدي الرجوع بالهدية ان كانت قائمة، وبمثلها او قيمتها ان هلكت او استهلكت.
هذا والمدار على اثبات نية المهدي قوله، لانه لا يعرف الا من جهته.
3) اما المالكية[4] ففي اصل المذهب عندهم لا يرجع الواهب من الخطيبين في الهبة، سواء كان العدول عن الخطبة من جهته او من جهة الطرف الثاني، وسواء اكان الموهوب قائما او هالكا، الا ان في المذهب المالكي قولا اخر كمذهب الشافعية، يرى التفريق بين ما اذا كان الرجوع عن الخطبة من جهة الواهب او الموهوب له، فان كان الرجوع عن الخطبة من جهة الواهب لم يكن له الرجوع بما وهب مطلقا، وان كان الرجوع من الموهوب له كان للواهب الرجوع في الهبة ان كانت قائمة وبقيمتها او مثلها ان كانت هالكة او مستهلكة، لانها هبة مشروطة ضمنا باتمام الخطبة، وهذا ما لم يكن هناك عرف او شرط مخالف لذلك، فان كان، كان الحكم للعرف والشرط، وهذا هو اعدل الاراء في نظري، وقد اخذ بنحو منه مشروع القانون العربي الموحد للاحوال الشخصية، ونص عليه في المادة (3) منه، ونصها:
المادة (3) : ا- لكل من الخاطبين العدول عن الخطبة.
ب- يرد من عدل عن الخطبة هدية الاخر بعينها ان كانت قائمة، والا فمثلها او قيمتها يوم القبض، ما لم يكن هناك عرف يقضي بغير ذلك.
ج- اذا انتهت الخطبة بالوفاة او بعارض حال دون الزواج، فلا يسترد شيء من الهدايا.
4) وذهب الحنبلية، الى ان للمهدي من الخاطبين الرجوع في هديته بعد فسخ الخطوبة ان كان فسخها من قبل المهدى اليه، فان كانت قائمة رجع بعينها، وان هلكت او استهلكت رجع بقيمتها او مثلها، فان كان العدول عن الخطبة من المهدي، فلا رجوع له في الهبة مطلقا، وهو قريب من مذهب الشافعية.
وقد نص قانون الاحوال الشخصية السوري في الفقرة الثالثة من المادة /4/ منه على انه تجري على الهدايا احكام الهبة، وهو يريد احكام الهبة في القانون المدني السوري، كما نص عليه فيه في المواد (468 – 472 ) منه، وهو قريب جدا من مذهب الحنفية.
وعلى كل فان دعاوى الهبة في التشريع السوري سواء كانت بين الخطيبين او غيرهما تعود الى القضاء المدني لا القضاء الشرعي، على خلاف المهر، فان البت في دعاواه يعود الى القضاء الشرعي.
وقد فصل القانون الكويتي للاحوال الشخصية القول في هذا الموضوع في المواد(4-7) منه وهذا نصها:
المادة 4-
ا- اذا عدل احد الطرفين عن الخطبة فللخاطب ان يسترد المهر الذي اداه او قيمته يوم قبضه ان تعذر رد عينه.
ب- يعتبر من المهر الهدايا التي جرى العرف باعتبارها منه.
ج – اذا اشترت المخطوبة بمقدار مهرها او بعضه جهازا، ثم عدل الخاطب فلها الخيار بين اعادة المهر او تسليم ما يساويه كلا او بعضا من الجهاز وقت الشراء.
المادة 5-
اذا عدل احد الطرفين عن الخطبة وليس ثمة شروط او عرف:
فان كان عدوله بغير مقتض لم يسترد شيئا مما اهداه الى الاخر.
وان كان العدول بمقتض استرد ما اهداه ان كان قائما او قيمته يوم القبض ان كان هالكا او مستهلكا.
المادة 6-
ا- اذا انتهت الخطبة بعدول الطرفين، فان كان بسبب من احدهما اعتبر عدول الاخر بمقتض وطبقت الفقرة ب من المادة السابقة، والا استرد كل منهما ما اهداه ان كان قائما.
ب- واذا انتهت بالوفاة او بعارض حال دون الزواج لم يسترد شيء من الهدايا.
المادة 7-
في جميع الاحوال لا ترد الهدايا التي لا بقاء لها.
حكم الاختلاف في المهر والهدايا:
اذا اختلف الخطيبان بعد فسخ الخطوبة فيما قدمه احدهما للاخر، اهو هدية او مهر، فان كان المقدم هو الخطيبة فهو هدية حتما، لانه ليس على الخطيبة مهر، وان كان المقدم هو الخاطب، فاي الخطيبين اقام البينة على دعواه حكم له بها، وان اقاما البينة، قدمت بينة الخطيبة، لان دعواها على خلاف الظاهر، وان عجزا عن البينة، كان الحكم له بيمينه، لانه يتمسك بالظاهر، وهذا ما لم يكن هناك عرف مستقر، فان كان هناك عرف مستقر حكم بموجبه مع اليمين عند العجز عن البينة[5].
اثر العدول عن الخطبة على التعويض عن الاضرار:
كثيرا ما تفسخ الخطوبة ولا يلحق نتيجة هذا الفسخ ضرر ما باي من الخطيبين، لا ماديا ولا معنويا، الا انه في بعض الحالات تلحق الخطيبين او احدهما بعض الاضرار المالية او المعنوية، كما اذا امتدت الخطوبة سنوات تقدمت السن فيها بالخطيبين وقلت الرغبة فيهما ثم فسخت الخطوبة، فربما فات الخطيبين هنا او احدهما فرص كثيرة للارتباط بخطبة اخرى، وكان سببها الخطبة الاولى، وربما جهز الخاطب منزل الزوجية وانفق عليه الكثير من المال، وعندما فسخت الخطوبة اصابه بسبب ذلك ضرر مالي، وربما اعدت الخطيبة ثيابها، وعندما فسخت الخطوبة اصابها بسبب ذلك ضرر مالي ايضا…..
فما هو حكم هذه الاضرار، اتلزم صاحبها، ولا يستحق قبل ذلك اي تعويض من الطرف الاخر عليها، ام يستحق عليها تعويضا؟
لم يتعرض فقهاء السلف الى هذا الموضوع، وعزا هذا الصمت اكثر المحدثين من الفقهاء الى ما كان يلتزم به الخاطبان من العادات والاخلاق الاسلامية، مما يمتنع معه حدوث اي ضرر عليهما بعد فسخ الخطوبة.
وانني مع تفهمي لهذا التعليل والتبرير، ارى ان هذا الالتزام ليس كافيا لنفي وقوع اي ضرر على الخطيبين بعد فسخ الخطوبة، فهو ينفي احتمال الاضرار المعنوية لا غير، اما الاضرار المادية فلا يمكن ان ينفيها بحال، وكانت موجودة بيقين، فاي خلق اسلامي يحول بين الخاطب وبين اعداده لمنزل الزوجية في اثناء الخطوبة، واي خلق اسلامي يمنع الخطيبة من اعداد ملابسها وحاجاتها الخاصة في اثناء الخطوبة ايضا، وربما كان من الاداب والاخلاق بذل الجهد في هذا الاعداد بعد الخطوبة، وفي هذه الاحوال قد تترتب بعض الاضرار المالية اثر فسخ الخطوبة دون شك في الماضي وفي الحاضر، ومع ذلك فان الفقهاء لم يبحثوا في موضوع التعويض عن هذه الاضرار، ولهذا فانني ارى ان صمت الفقهاء هذا معناه عدم التسليم منهم بجواز فرض اي تعويض على اي من الخطيبين اثر فسخ الخطوبة، ذلك اننا اعتدنا من الفقهاء البحث في الافتراضات البعيدة الوقوع، فكيف بما هو قريب الوقوع او الواقع فعلا.
الا ان المحدثين من الفقهاء بحثوا في هذا الموضوع، واختلفوا فيه على ثلاثة اراء:
1- لا تعويض للخطيبين عن اي من الاضرار الناتجة عن العدول عن الخطبة، سواء كان المتضرر هو الذي عدل، او ان الذي عدل هو الطرف الثاني، وذلك اعتمادا على ان التعويض عن الضرر لا مستند له في الفقه الا العقد او التعدي، وفسخ الخطوبة حق لا تعدي فيه، ثم ان الخطوبة وعد وليست عقدا عند اكثر الفقهاء، ولهذا فلا تعويض.
2- يجب على من فسخ الخطوبة تعويض الطرف الثاني عما يكون قد لحق به من ضرر مادي او معنوي، استنادا الى مبدا التسبب في الضرر، ومادام العادل عن الخطبة قد سبب بعدوله هذا للطرف الثاني ضررا ما كان ليحصل لولا هذا العدول، فيعد مسؤولا عنه، ويجب عليه ضمان تعويضه.
3- لا تعويض عن الاضرار الناشئة عن العدول نفسه، لكن اذا رافق العدول تصرفات اخرى قوليه او فعلية من احد الخطيبين، ونتج عنها اضرار للطرف الثاني اثر العدول عن الخطبة، فان من الواجب فرض التعويض عن هذه الاضرار على من عدل عن الخطبة دون الاضرار الناتجة عن العدول المجرد نفسه، بدليل ان العدول نفسه حق، وليس على من مارس حقا فنتج عنه ضرر بالاخرين اي تعويض، الا ان التصرفات الاخرى امور خارجة عن هذا الحق، فيجوز فرض التعويض بها اذا نتج عنها ضرر، وذلك كما اذا طلب الخاطب من خطيبته ان تعد ملابسها على نحو معين، فاستجابت له ثم عدل الخاطب عن الخطبة، وكذلك اذا طلبت الخطيبة منه اعداد منزل الزوجية على شكل معين، فاستجاب لها، ثم عدلت، فانها تضمن ما تضرر الخاطب به، وكذلك الاضرار المعنوية، كما اذا عدل عن خطبتها واشاع عنها امورا عدها سببا للعدول، فلحق بها نتيجة اشاعاته اضرار معنوية، فانه يضمن هذه الاضرار، لان الاشاعات هذه خارجة عن طبيعة العدول، وكذلك الخطيبة اذا اشاعت عنه بعد عدولها ما الحق به اضرارا، فانها تضمنها.
وفي قضاء المحاكم في مصر تجسيد عملي للاراء الثلاثة السابقة، الا ان القضاء في مصر استقر اخيرا على الراي الثالث، فقد ذكر الاستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه الوسيط ذلك، فقال[6]: ان القضاء في مصر انتهى الى المبادئ الثلاثة الاتية:
1- الخطبة ليست بعقد ملزم.
2- مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سببا موجبا للتعويض.
3- اذا اقترن بالعدول عن الخطبة افعال الحقت ضررا باحد الخطيبين جاز الحكم بالتعويض. انتهى كلام السنهوري.
وقد اتجه مشروع القانون العربي الموحد للاحوال الشخصية الى ايجاب التعويض على المتسبب بترك الخطوبة مطلقا، فنص في المادة الرابعة منه على ما يلي: (اذا ترتب على العدول عن الخطبة ضرر يتحمل المتسبب التعويض) .
الترجيح:
من استعراض ما تقدم من الاراء نرى رجاحة ما ذهب اليه واستقر عليه القضاء في مصر اخيرا، من جواز الحكم بالتعويض للاضرار المادية والادبية على من فسخ الخطوبة، اذا كان الضرر ناتجا عن تصرف رافق العدول عن الخطبة، فاذا كان الضرر ناتجا عن العدول نفسه فلا تعويض، وذلك لضعف ادلة الاراء الاخرى المخالفة.
لانه لا طريق الى اثبات التعويض باطلاق، لان العدول حق لكل من الخاطبين بالاتفاق، والقواعد الفقهية والقانونية العامة تنص على عدم جواز فرض تعويض ما على من مارس حقا فنتج عنه ضرر بالغير، لان التعويض لا يستحق الا عن ضرر نتج عن عقد او عدوان.
كما انه لا طريق لنفي التعويض عن ضرر لحق نتيجة تصرف الغير خارج نطاق حقه.
الا انه لا بد من تقييد هذا الاتجاه، والتنبه الى ان اطلاقه بدون قيد يخرج به عن دائرة قواعد التعويض عن الضرر.
ذلك ان التصرفات المرافقة للعدول عن الخطبة الخارجة عنه يجب ان تقسم الى قسمين: تصرفات مباحة شرعا، وتصرفات ممنوعة شرعا، فاذا كان التصرف من الممنوعات شرعا، ونتج عنه ضرر بالطرف الثاني، جاز فرض التعويض عليه للطرف المتضرر اذا طالب به، لان فعل غير المباح غير ماذون به شرعا، فكان عدوانا، اما اذا كان التصرف من المباحات شرعا، فلا يجوز فرض تعويض عما سببه من اضرار مطلقا، الا اذا قصد به الاضرار فعلا.
ذلك ان سبب فرض التعويض هنا هو المسؤولية التقصيرية، وهذه المسؤولية مشروط فيها الاعتداء، وليس في فعل المباح اعتداء اذا لم يقصد به الاضرار بالغير، فاذا قصد الاضرار وجب التعويض، والا فلا تعويض.
وعلى هذا لو خطبها وطلب منها اعداد ملابسها على نحو معين، ثم فسخ خطوبته معها، فانه لا يضمن ما خسرته لان طلبه مباح، هذا مادام جادا في خطبتها عند الطلب، فاذا طلب منها اعداد الملابس بعدما انتوى فسخ خطوبتها بقصد التغرير بها، فانه يضمن ما خسرته بعد فسخه الخطوبة، لان التغرير محرم، وهو نوع اعتداء، وكذلك الخطيبة اذا طلبت من الخاطب اعداد المنزل على نحو معين ثم فسخت، وكذلك الحال اذا فسخ خطوبتها واشاع عنها من السوء ما الحق الضرر بسمعتها، فانه يضمن ذلك الضرر، لانه نتيجة عمل محرم فيه اعتداء، وكذلك الخطيبة.
ويضبط هذا الموضوع قاعدة فقهية كلية، هي: (المتسبب لا يضمن الا بالتعمد) [7].
والمراد به هنا التعدي، وهو تعمد الاضرار او تعمد الفعل غير المباح الذي تنتج عنه الاضرار[8] .
وعلى هذا فانني اري رجاحة القول بتفصيل ما يلي:
اذا عدل احد الخطيبين عن الخطبة ولحق بنتيجة هذا العدول نفسه ضرر بالطرف الاخر، لم يجز فرض تعويض ما عن هذا الضرر.
اذا عدل احد الخطيبين عن الخطبة ولحق بالطرف الثاني ضرر ناتج عن تصرف قام به الطرف الاول زائدا عن العدول، وليس عن العدول نفسه، فرض على من فسخ الخطوبة تعويض مناسب عن الضرر للطرف المضرور، بشرط ان يكون التصرف الزائد تصرفا محرما شرعا، او قصد به الاضرار، والا فلا تعويض.
هذا ولم يبحث القانون السوري في موضوع التعويض عن الضرر من فسخ الخطوبة، فوجب لذلك الرجوع الى الراجح من مذهب الحنفية، وفقا للمادة /305/ منه، وقد تقدم ان الحنفية وفقهاء السلف جميعا لم يبحثوا في موضوع التعويض، وان سكوتهم يدل على رفضهم لمبدا التعويض هنا اصلا، الا ان ذلك لا يمنع القضاء في سورية من الاخذ بما انتهيت اليه من الراي، لانه مخرج على قواعد الفقهاء عامة، وقواعد الحنفية خاصة، وقواعد المذهب عند سكوت المذهب بمثابة النص عليها فيه.
وكذلك القانون الكويتي لم يبحث فيه ايضا، فوجب الرجوع فيه الى المشهور من مذهب الامام مالك وفقا للمادة (343) منه، وهو لا يخرج عما تقدم تفصيله.
- فسخ الخطوبة ورد المهر في المذهب المالكي
- المهر بعدفسخ الخطوبة
- حكم رد المهر بعد الخطبة
- طلب التعويض بعد فسخ الخطبة