د. عبد الناصر كعدان*
قد يتساءل البعض هل العشق مرض؟
هكذا اعتبره اجدادنا الاطباء العرب المسلمون كالرازي وابن سينا والبغدادي وغيرهم.
اذا كيف اعتبروه ذلك؟ وما هي اسباب واعراض هذا المرض وكيف يتم علاجه؟..
من خلال هذه السطور سالقي الضوء على هذا المرض حسب ما ذكره الاطباء العرب المسلمون الاوائل.
لمحة تاريخية عن مرض العشق:
اعتبر العشق على انه شكل مفرط من اشكال المحبة. وفي الوقت الذي ينظر فيه الى الحب على انه اسمى عاطفة يتحلى بها الانسان، فقد اعتبر العشق انه عبارة عن حالة مرضية تحدث نتيجة للمغالاة الشديدة في الحب، مما ينعكس ذلك باثار سلبية على شخصية العاشق تتظاهر باضطرابات جسمية، فضلا على الاضطرابات السلوكية والتي كثيرا ما تدفع الشخص المصاب لان يرتكب تصرفات غير عقلانية.
لقد عالج الادباء العرب ومنهم الشعراء هذا الموضوع في شعرهم الغزلي بشكل خاص، واعتبره الكثير منهم بانه المرض الذي لا يرجى شفاؤه. من ذلك مثلا قول ابن الفارض:
وضع الاسي(1)بصدري كفه قال مالي حيلة في ذا الهوي
ومن ذلك ايضا ما تذكره كتب الادب عن محاورة جرت بين مصاب بالعشق ينشد علاجا لعشقه واحد الشعراء يسديه النصيحة:
ايا معشر العشاق بالله خبروا اذا حل عشق بالفتى ما يصنع؟
يداري هواه ثم يكتم سره ويخشع في كل الامور ويخضع
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى وفي كل يوم قلبه يتقطع
فان لم يجد صبرا لكتمان سره فليس له سوى الموت ينفع
سمعنا اطعنا ثم متنا فبلغوا سلامي لمن كان للوصل يمنع
في حين ان الاطباء المسلمين القدامى، وعلى نحو مخالف للشعراء، قد نظروا الى هذا المرض على انه حالة مرضية كغيره من الامراض العصبية او النفسية كالصرع والصداع والسوداء(2) له اسبابه المرضية وعلاماته واعراضه وعلاجه. فافاضوا في شرحه موضحين ان لهذا المرض علاجات مختلفة تطبق حسب حالة المريض وحسب درجة ثقافته، بالاضافة لطبيعة الظروف المحيطة به.
ولعل اول من تكلم في مرض العشق من الاطباء هو الطبيب اليوناني ابقراط Hypocrites والملقب بابي الطب. حيث قال واصفا اياه: “العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع فيه مواد من الحس. فكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدة القلق وكثرة السهر. وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته الى السوداء، ومن طغيان السوداء وفساد الفكر يكون الفدامة(3) ونقصان العقل، ورجاء ما لم يكن وتمني ما لم يتم حتى يؤدي ذلك الى الجنون. فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غما. وربما وصل الى معشوقه فيموت فرحا او اسفا. وانت ترى العاشق اذا سمع بذكر من يحب كيف يهرب دمه ويستحيل لونه. وزوال ذلك عمن هذه حالته بلطف من رب العالمين، لا بتدبير الادميين(4)”.
وقد وصف جالينوس Galen هذا المرض بقوله: “العشق استحسان ينضاف اليه طمع، والعشق من قبل النفس، وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد. والعاشق يمتنع عن الطعام والشراب لاشتغال الكبد، وعن النوم لاشتغال الدماغ بالتخيل وذكر المعشوق والتفكير فيه، فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت فيه. فمتى لم تشتغل فيه وقت الفراق لم يكن عاشقا(5)”.
اسباب مرض العشق:
يقول ابن سينا في ذكر اسباب هذا المرض: “هذا مرض وسواسي شبيه بالمالينخوليا(6) Melancholy ، يكون الانسان قد جلبه الى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمايل التي له، سواء اعانته على ذلك شهوته ام لم تعنه(7)”.
وقد اضاف بعضهم الى ذلك بان هذا المرض يعتري العزاب والبطالين من اهل الرعاع. ويتحدث ابن هبل البغدادي عن الية حدوث هذا المرض فيقول: “العشق مرض يعرض من ادامة الفكر في استحسان بعض الصور الحاصلة في الخيال وادامة النظر اليها وتحريك النفس شوقا الى استحضار ما هي مثاله، ويساعد على ذلك الحركات الشهوانية فيعرض من ذلك شيء من الجفاف واليبس المؤدي الى المالينخوليا(8)”. من حديث البغدادي يمكن لنا ان نفسر لماذا اتى مرض العشق بعد مرض المالينخوليا في المؤلفات الطبية العربية القديمة.
الاعراض والعلامات:
اجمل سبط المارديني في مخطوطته الطبية المسماة الرسالة الشهابية في الصناعة الطبية اعراض وعلامات مرض العشق قائلا: “وعلامته غؤور العينين وجفافهما الا عند البكاء، وغلظ الجفن من كثرة السهر والابخرة المتصاعدة اليه. ويعرف معشوقه بوضع اليد على نبضه وذكر اسماء وصفات، فاذا اختلف النبض عرف انه هو (9)”.
لقد اجمع اكثر الاطباء العرب المسلمون الذين تحدثوا عن مرض العشق ان اضطراب النبض هو من العلامات الهامة لتشخيص مرض العشق بل وحتى معرفة هوية المعشوق. ومرد ذلك يعود الى حكاية تروى عن ابن سينا والذي الف رسالة في العشق كتبها لابن عبد الله الفقيه(10).
وملخص هذه الحكاية، انه وقع احد الفتيان من ابناء امراء فارس في مرض عضال، وقد عجز الاطباء في ذلك الوقت عن معرفة هذا المرض وبالتالي علاجه. فكان الشاب ينحل ويضعف يوما بعد يوم، وقد امتنع عن الطعام لانعدام الشهية حتى هزل ولزم الفراش. ولما عجز الاطباء عن ايجاد الدواء الشافي لمرض هذا الفتى، لجا اهله لابن سينا يرجونه زيارة المريض والنظر في حالته بعد ان يئسوا تماما من شفائه. وفور وصول ابن سينا الى بيت المريض سال عن اعراض سقمه وما ال اليه حاله. ثم دخل على الفتى وفحصه بعناية، وجلس بجانب فراشه ووضع اصبعه على نبضه، ثم طلب من احد الخدم ان يعدد جميع احياء تلك البلد، ولما وصل الخادم الى ذكر حي ما لاحظ ابن سينا ان نبض الفتى قد تسرع. وعندئذ طلب من الخادم ان يذكر اسماء العائلات التي كانت تقطن ذلك الحي، ولما اتى الخادم على ذكر اسم معين من تلك الاسماء شعر بان نبض الفتى قد تسرع اكثر. وهنا سال ابن سينا ان كان لتلك العائلة من بنات فاجابوه نعم، فقام من توه الى اهل الفتى وقال لهم لقد بان السبب فزال العجب ان ابنكم عاشق احدى بنات تلك العائلة، وهذا هو المرض وعلاجه بالزواج من تلك الفتاة.
هذه القصة الطريفة تفسر انه لماذا اكثر الاطباء العرب المسلمون الذين تحدثوا عن مرض العشق قد اعتبروا اضطراب النبض لدى ذكر المعشوق هو من العلامات التشخيصية لهذا المرض. يقول ابن سينا في علامات هذا المرض: “وعلامته غؤور العين ويبسها وعدم الدمع الا عند البكاء، وحركة متصلة للجفن ضاحكة كانه ينظر الى شيء لذيذ او يسمع خبرا سارا او يمزح. ويكون نفسه كثير الانقطاع والاسترداد فيكون كثير الصعداء. ويتغير حاله الى فرح وضحك او الى غم وبكاء عند سماع الغزل ولاسيما عند ذكر الهجر والنوى. وتكون جميع اعضاؤه ذابلة خلا العين، فانها تكون مع غؤور مقلتها كبيرة الجفن سميكته لسهره. ويكون نبضه نبضا مختلفا بلا نظام البتة كنبض اصحاب الهموم، ويتغير نبضه وحاله عند ذكر المعشوق خاصة وعند لقاءه بغتة. ويمكن من ذلك ان يستدل على المعشوق انه هو اذا لم يعترف به، فان معرفة معشوقه احد سبيل علاجه. والحيلة في ذلك ان تذكر اسماء كثيرة تعاد مرارا وتكون اليد على نبضه، فاذا اختلف بذلك اختلافا عظيما وصار شبه المنقطع ثم عاود وجرب ذلك مرارا علمت منه اسم المعشوق. ثم يذكر كذلك السكن والمساكن والحرف والصناعات والبلدان، وتضيف كلا منها الى اسم المعشوق ويحفظ النبض، حتى اذا كان يتغير عند ذكر شيء واحد مرارا جمعت من ذلك خواص معشوقه من الاسم والحرفة ما عرفته. فانا قد جربنا هذا واستخرجنا به ما كان الوقوف عليه منفعة (11)”.
يمكن تلخيص اعراض وعلامات مرض العشق كما ذكرها الاطباء المسلمون القدامى: النحول – قلة الشهية – غؤور العين مع سماكة الجفن – حب العزلة مع الاسترداد وكثرة الصعداء – اضطراب النبض وخاصة تسرعه لدى ذكر المعشوق او اي شيء يتصل به.
المعالجة:
لقد اجمع الاطباء العرب المسلمون الذين تحدثوا عن مرض العشق ان افضل وانجع علاج لهذا المرض هو الجمع بين العاشق والمعشوق وذلك على نحو تبيحه الشريعة.
يقول سبط المارديني في ذلك: “العلاج لاشيء كالوصال لمن يتهيا على الوجه الشرعي، والا اهين وقبح بفعله، واشغاله ببعض العلوم العقلية ومجالس اهل الفضل ثم استفراغ بعض السوداء. ويكثر من صب الماء على الراس. ويطعم البطيخ والقثاء والبقلة، ويسقى الرايب الحامض، ويؤمر ان ينام تحت الندى. وذكروا ان النظر الى القمر عند امتلائه يمنع هذا المرض. وينصح بكثرة الاغتسال بالماء البارد ايضا. ولا يعطى الاشياء الحارة من الادوية والاغذية والاهوية(12)”.
مما سبق يمكن ان نذكر مقومات علاج مرض العشق على النحو التالي:
اولا- محاولة الجمع بين العاشق والمعشوق بالزواج ان امكن، وفي ذلك يقول ابن هبل البغدادي: “العلاج لاشيء انفع من الجمع بين العاشق ومعشوقه على وجه تبيحه الشريعة، فانه يصلح ويبرا. وان لم يكن فالنظر من بعيد، والا فالتسويف(13)”.
ويوضح ابن سينا هذه الحقيقة بقوله: “ثم ان لم تجد علاجا الا تدبير الجمع بينهما على نحو يبيحه الدين والشريعة فعلت، وقد راينا من عاودته السلامة والقوة، وعاد الى لحمه. وكان قد بلغ الذبول وجاوزه، وقاسى الامراض الصعبة المزمنة والحميات الطويلة بسبب ضعف القوة لشدة العشق. ولما احس بوصل من معشوقه بعد مطل معاودة في اقصر مدة قضينا به العجب، واستدللنا على طاعة الطبيعة لاوهام النفس(14)”.
ثانيا- نصح العاشق وتعنيفه على افعاله اذا كان من العقلاء. يقول ابن سينا ايضا: “وان كان العاشق من العقلاء فان النصيحة والعظة له والاستهزاء به وتعنيفه والتصوير لديه ان ما به انما هو وسوسة وضرب من الجنون، مما ينفع نفعه، فان الكلام ناجع في مثل هذا الباب(15)”.
ثالثا- اشغال العاشق ببعض العلوم العقلية ومجالس اهل الفضل، او اشغاله ببعض الامور الدنيوية الاخرى التي تصرف تفكير العشق عن كثرة التفكير بمعشوقه. وقد تفنن الاطباء العرب في هذا المجال بابتكار الوسائل التي من شانها ان تحقق هذا الغرض. فمن هذه الامور ذكروا:
1-اشغال المريض ببعض العلوم العقلية ومجالس اهل الفضل، وذلك اذا كان ممن عنده الاستعداد لذلك. واذا كان من المتدينين فيمكن تسليته باخبار الزهاد والعباد والمساكين.
2- اذا كان العاشق صاحب صنعة او عمل او شغل الزم بعمله او شغله فلا شيء اضر عليه من البطالة والفراغ.
3- طول السفر عن مكان اقامة المعشوق، حيث ان ذلك مما يولد النسيان مع مرور الزمن.
4- ذكر بعض الاطباء –كابن سينا- انه من الناس يسليه الطرب والسماع، ومنهم من يزيد ذلك من غرامه، ويمكن ان يتعرف ذلك.
5- مما ينفع هؤلاء ايضا مجالس السرور واللهو والفرح، والتنزه وكثرة النظر الى القمر. وهذه كلها اعتبرت من الامور التي تصرف تفكير العاشق عن معشوقه.
رابعا- افراغ المرة السوداء من الجسم والقضاء على مفاعلاتها السلبية في الجسد، وذلك بالتجفيف والتبريد. لذلك نصح الرازي بكثرة الاغتسال بالماء البارد، وحذر من الاشياء الحارة من الادوية والاغذية. وكذلك نصح بالنوم في الاماكن الباردة.
خامسا- الميل لتناول بعض الاغذية التي لها صفة التبريد مثل الرايب الحامض والبطيخ والقثاء والبقلة وغيرها من الاطعمة التي تساعد على استفراغ المرة السوداء وبالتالي تحقق غاية التبريد.
سادسا- اخيرا فقد نصح بعض الاطباء لمعالجة هذا المرض بان تسلط بعض العجائز على العاشق، بحيث يجتهدن في ان ينقلن هوى العاشق الى غير ذلك المعشوق بالتدريج، ثم يقطعن صنيعهن قبل ان يتمكن الهوى الثاني.
مرض العشق والطب الحديث:
في نهاية هذا البحث لابد لي من ان اشير الى مرض العشق من الوجهة الطبية الحديثة. فقد يتساءل البعض لماذا لا تبحث المؤلفات الطبية الحديثة ولاسيما كتب الطب النفسي ما سمي قديما بمرض العشق؟
للجواب على ذلك لابد لنا ان نعلم ان مرض العشق يمكن ان نعبر عنه حاليا على انه شكل من اشكال الشدة العاطفية Emotional stress التي يخضع لها المريض. وهذه الشدة العاطفية وبحسب درجاتها قد ينجم عنها مرضيات نفسية مختلفة وذلك حسب شخصية المريض وخلفيته الاجتماعية وظروفه المحيطة به، فضلا عن استعداده الشخصي. فبعض الذين يخضعون لشدة عاطفية شديدة قد يصابون بعصاب القلق Anxiety neurosis، ومنهم من يصاب بحالة الارتكاس الهمودي Reactive depression ، كما قد يصاب بعض المرضى الذين عندهم اصلا شخصية شبه فصامية بحالات فصام Schizophrenia صريحة، كما هو الحال في الفصام الشبابي او ما يسمى بفصام المراهقة. من ذلك نستنتج ان ما كان يعرف بمرض العشق هو عبارة عن احد اشكال الشدة العاطفية التي قد تؤدي لحدوث اضطرابات نفسية خطيرة يمكن لها ان تؤدي في بعض الاحيان لحدوث خطر الانتحار، وخاصة عند الذين اصيبوا بحالة الهمود الارتكاسي.