كان حد الشبان الفلاحين, يعيش في قريته الصغيرة , ويعمل مع ابيه, في حقول احد الاغنياء: يزرع ويحصد ويرعى الماشيه.
وحين بلغ الثانيه والعشرينمن عمره , قامت الحرب ,واشتركت فيها بلاده ؛ فذهب الى الميدان القتال , يدافع عن حريه وطنه ولما انتهت الحرب,بعد خمس سنوات, عاد هذا الشاب الى قريته, فوجد اباه قد مات منذ سنتين, وكانت امه قد ماتت ,وهو صغير, فامتلات نفسه بالحزن والهم
ومكث في القرية اسبوعا ,يبحث عن عمل يكسب منه قوته , فلم يجد . فعزم على ان يترك القرية, ويذهب الى المدينة , راجيا ان يحصل فيها على عمل يناسبه.
سار الجندي في الطريق الزراعي الطويل ,قاصدا المدينه الكبيره . وكان يسير سير الجنود , يغني اناشيدهم العسكريه , ليسلى نفسه من وقت الى اخر, كان يضرب الارض باقدامه , ويقول : “واحد,اثنان! واحد,اثنان!”
وبينما هوسائر, اذ صادف في الطريق امراة عجوزا,جالسة بجوار شجرة؛ فحن قلبه عليها ,وظنها ضعيفة فقيرة ,محتاجة الى مساعدة منها وحياها : -“صباح الخير يا خاله… هل استطيع انا اساعدك في شئ؟!” فردت عليه العجوز تحيته, وابتسمت له, وقالت:- “اشكرك يا ولدي …ما اكثر لطفك !… اغنيك…
اعطيك كل ماتريدمن فضه,والذهب .والجواهر… اعطيك على قدرما تستطيع ان تحمل!…” اخذالجندي ينظر الى العجوز ,ويتامل شكلها وملابسها,وهو يعجب من كلامها .ثم سالها:
“ومن اين تعطيني من النقود مااريد ؟..ان من يراك الان لايخطر بباله انك تملكين شيئا …ثم ماهي المساعده التي استطيع ان اقدمها اليك؟! ”
فاشارت العجوز الىالشجرة الكبيرة,التي تستند اليها ,وقالت :”ان هذه الشجرهمجوفة ,فاذا استطعت ان تتسلق جذعها رايت في نهايته ؛ان نزلت منها,وجدت كنزا عظيما…”-“وكيف اصعد ان نزلت؟هل في جوف الشجرة سلم؟” فتحركت العجوز في مجلسها, ثم اخرجت من تحت ثيابها حبلا .وقالت:
-“لا,يا ولدي! ليس في جوف الشجرة سلم؛ولكني اربط وسطك بهذا الحبل المتين,ثم اجذبك عندما تناديني… انني قوية ياولدي , فلاتخف … هيا تسلق …ان السعادة تدعوك, والثروة امامك… ستجدفي اسفل الجذع ممرا طويلا , مضاء بانوار قوية ؛ لان به اكثر من ماءة مصباح…
“سر في هذا الممر حتى نهايته. تجد ثلاثة ابواب مغلقة,ولكن مفاتيحهافي اقفالها… اذا فتحت الباب الاول, رايت حجرة فسيحة, في وسطها صندوق كبير ,عليه كلب عيناه واسعتان؛ كل عين كفنجان الشاي!
“لاتخف اذا رايت هذا ينظر اليك نظرات حاده,بعينيه الواسعتين … ان فرشت ملاءتي هذه,ذات المربعات الزرقاء ,ووضعت الكلب عليها , فلن يؤذيك ؛ وحينئذ تستطيع ان تفتح الصندوق , وان تاخذ منه نقودا فضيه ,على قدر ماتحب …”
” واذا اردت نقودا ذهبيه , فافتح الحجره الثانيه , تجد في وسطها صندوقا اكبر من الصندوق الاول, وتجد فوقه كلبا ,عيناه اوسع من عيني الكلب الاول, فكل عين كالرغيف…”
“لا تخف , ارفعه , وضعه على الملاءة ؛ ثم افتح الصندوق وخذ من ذهب ما تشاء…”
” اما اذا كنت تحب الجواهر, فافتح الحجره الثالثه …ان الكلب الذي فوق الصندوق , مخيف حقا , فهو ضخم ,وعيناه كحجر الطاحون .ولكن لاتهتم به , بل اقترب منه , وضعه على ملاءتي , فلا يؤذيك … وخذ حينئذ من الجواهر ما تريد …”
كان الجندي يسمع كلام العجوز , ويظنها مجنونة ولكنها تابعت حديثها قائلة :
-” لقد احببتك يا ولدي , منذ رايتك …ولا اريد لك الا الخير , فانت لطيف طيب , وتستحق كل ما تاخذ من الكنز… لاتظن اني اضحك منك ياولدي ؛ فكل ما تاخذه, انما مكافاه لك, على مانصنع بي من جميل …”
-” وما هذا المعروف الذي تريدين مني؟”
-” اني غنيه ياولدي , ولا اريد شيئا من النقود , او الجواهر؛ ولكن في هذا الكنز قداحه(ولاعه) عزيزه علي ؛ تركتها جدتي , بجانب باب الحجره الحجره الثالثه , حينما وضعت الكنز … ان جدتي كانت ساحره عظيمه؛ وانا لا اريد منك الا تحضر لي هذه القداحه … هيا قبل ان ينتصف النهار .”
-” حسنا يا خاله ! ساتيك بقداحة جدتك الساحره , واخذ بعض الذهب …هاتي الحبل .”
وربط الجندي الحبل حول وسطه , واستعد لتسلق الشجره , فقالت له العجوز :
-” لاتنس ! … خذ الملاءة , ذات المربعات الزرقاء . انها هي تحفظك من اذى الكلب .” وتسلق الشاب الشجره , بخفه ونشاط , فهو فلاح وجندي .ولما صارفي اعلى الجذع , اخذ ينظر من الفتحة , فراى النور يسطع في اسفل الشجره , فبدا يهبط , وكانه ينزل في بئر .
وسار في ممر طويل , الذي تضيئه مئات المصابيح القويه , كما قالت العجوز , حتى وصل الى بهو واسع فيه الابواب الثلاثة… فتح اول باب … عجبا ! ان العجوز لم تضحك منه , فهذه حجرة فسيحة , وفي وسطها صندوق كبير , يجلس عليه كلب , عيناه واسعتان كفنجان الشاي !
اقترب الجندي من الكلب , وقال له:” مااجملك !”… ثم فرش الملاءة ؟, ذات المربعات الزرقاء , ووضع الكلب عليها , وفتح الصندوق , وملا جيوبه بالنقود الفضيه , ثم اغلق الصندوق , ووضع الكلب فوقه , كما كان , وخرج…
وفتح الحجره الثانيه ,فاذا بها الصندوق الاول , وعليه كلب مخيف , كل عين من عينيه , في اتساع الرغيف , فاقترب منه الجندي وقال له :” لا تحملق في هكذا , ايها الكلب العزيز , فتتعب عينيك!”… وفرش الملاءة , ووضعه عليها, ثم فتح الصندوق … فلمع الذهب , وبهر بريقه الجندي , فالقى ما كان يحمل من الفضه , واخذ يملا جيوبه بالذهب …
ثم دخل الحجرة الثالثه .اه … انه منظر فظيع مرعب! … لقد كانت عينا الكلب , الذي على الصندوق , كحجر الطاحون حقا , وكانتا تدوران في راسه كالعجلات , فخاف , ولكنه تشجع , واقترب من الكلب , وحياة تحية العسكرية, ثم انزله برفق , ووضعه على الملاءة . وما فتح الصندوق حتى صاح :” يالهي !.. ساشتري قصرا كبيرا , حوله حديقه جميله …ساشتري اشياء كثيرة… ساشتري مدينة!…
واخذ يرمي كل مافي جيوبه من الذهب , ويحشوها بالجواهر , حتى ملا جيوبه , وقبعته ,وجوربه, وحذاءه؛ وكاد يستطيع السير بما حمل !…ثم اغلق الصندوق , ووضع الكلب فوقه , وطوى الملاءة على القبعه والجورب والحذاء , وما فيها من الجواهر ؛ ثم خرج , واقفل الباب كما كان…
وسار الى الممر, وصرخ في فجوة , وقال:
-” ارفعيني يا خاله …”
فسالته العجوز :
-” ااحضرت القداحه ؟!”
-“لقد نسيت .. ساحضرها حالا”
وعاد الجندي يبحث عن القداحه , عن الابواب الثلاثه , فوجدها بجوار الباب الثلاث , فوضعها في الملاءة بين الجواهر . ثم جذبت العجوز الحبل , فاذا الجندي , بعد ثوان معدودات , يجد نفسه في الطريق الزراعي مرة اخرى . ولكنه ما كاد يضع رجليه عل الارض, حتى اسرعت العجوز تطلب منه القداحه, فسالها:
-” لماذا تهتمين هذا الاهتمام الشديد , بتلك القداحه ؟… ما قيمتها بجانب ما في هذا الكنز الكبير ؟! انها ليست الا حجرين من الصوان , عليهمابعض النقوش …”
-” هذا لايعنيك.. خذ انت ما حملت من ذهب وجواهر , واعطني قداخة جدتي الساحره!”
-” لن اعطيك القداحه , حتى تحدثيني عن سرها وقيمتها …”
-” قلت لك ان هذا لايهمك. هاتها…”
-” وانا قلت انني لن اعطيك القداحه , حتى تعرفيني سرها… انني جندي محارب ,فلا تكثر من الكلام معي…”
وفجاة راى الجندي العجوز , وقد انتفضت انتفاضه شديدة , وهي واقفه , فانقلبت سحنتها , وتدلت شفتها االسفلي على صدرها , وصار شكلها مخيفا, قبيحا كانها قرد عجوز, وصرخت صرخه مرعبه …
كان الجندي لا يزال قابضا بيديه القويتين على الملاءة , وفيها الجواهر والقداحه . فما كاد يرى العجوز في شكلها المرعب, الذي انقلبت اليه , ويسمع صرختها المفزعه , حتى اخذ يجري , والملاءة في يديه , والعجوز تجري وراءه وتصرخ … ولكنها لم تستطيع ان تلحق به , فهو جندي قوي , وهي عجوز ضعيفه!
ووصل الجندي الى المدينة الكبيرة بعد العصر ؛فنزل في احد الفنادق,حيث تناول الطعام , وقضى الليل.
وفي الصباح , اشترى كثيرا من الملابس الفاخرة والاحذية الغالية . اشترى كل ما تشتهيه نفسه… واشترى قصرا فخما بين قصور العظماء , والتف حوله الناس, كعادتهم حين يجتمعون حول الكرماء .
وانتهز فرصه احد الاعياد , فاقام في قصره حفله , دعا اليها حكام المدينه , وعظماءها , ووجهاءها ؛ فقضوا عنده سهرة لطيفة, في سمر, وضحك,وطرب, وكان الجندي ينتقل بين ضيوفه , يحييهم ويرحب بهم.
وراى بين المدعوين ,جماعة من شباب المدينة الوجهاء ,قد جلسوا في ركن بعيد عن الناس , فذهب اليهم, واخذ يلاطفهم . وكانواهم حينئذ يتحدثون عن الملك , وعن ابنته الوحيدة , فاشترك معهم في الحديث . وساله احد الشبان : ” اعرفت قصة الاميرة ؟”
_” سمعت الان ان اباها الملك , قد حبسها في القصر ؛ ولكني لم اعرف قصتها كامله…؟!”
_”اوه !…ان لها قصة طويلة ؛ فقد تنبات العرافات , ان هذه الاميرة , لن تتزوج ملكا او اميرا, ولا فتى من اعيان الدوله , واشرافها ؛ وانما تتزوج جنديا عاديا ؛ وبعد تتزوجه , يصبح هو ملكا, وتصبح هي ملكة.
“ولما سمع الملك نبوءة العرافات , غضب غضبا شديدا, وتالم الما عظيما, وامر ببناء قصر من النحاس , حوله سور عال, وحبس الاميرة فيه…”
_” الا يراها احد ؟ اما استطيع انا ان اراها ؟…”
_”تراها؟!… كيف تراها, وهي لا تخرج ,ولا استطيع احد ان يدخل عندها ؟… انها محبوسه وولا يراها الا الملك والملكه , وبعض الوصيفات.”
- القداحة العجيبة
- مؤلف قصة القداحه العجيبه
- قصة القداحة العجيبة