كل انسان مهما علا شانه او انخفض – العمل واجب عليه؛ لان قواعد الاسلام وسلوك الانبياء والصالحين تشير الى وجوب العمل لاكتساب المال من وجه حلال للانفاق منه على النفس والاهل والاولاد، والارتقاء بهذا المال الذي يكسبه الانسان من العمل فيقتات به ويكتسي ويربي عياله ويصل رحمه، ويحفظ عرضه، ويصون دينه ويستغني عن السؤال ويعيش كريما عزيزا ويموت جليلا حميدا ..
ولقد اكدت الدراسات الميدانية في مجال علم الاجتماع الصناعي ان الانسان دائما يعمل ليجد اشباعا لكل حاجاته، واولى هذه الحاجات. ما يحتاجه الجسم: من الطعام والشراب والكساء – ، فاذا فرغ من ذلك يعمل لايجاد ماوى لنفسه يجد فيه الامن والاستقرار .
فاذا هيا الماوى بحث عن الزوجة؛ فان تزوج وانجب بدا يبحث عن المكانة الاجتماعية ليحظى بمقتضاها بالاحترام والتقدير.. من هنا – كما يؤكد علماء الاجتماع الصناعي والمهني – فان العمل واجب لمواجهة متطلبات الحياة، وفي اطار الحدود الشرعية التي لا تمس حقوق الاخرين ولا تضر بمصالح المجتمع ليتعايش الجميع في سلام وتعاون ..
ومن هنا وضع الاسلام قواعد عامة للعمل فعنى بتنظيمه وتوزيعه حتى لا ينشغل الانسان بعمل الدنيا عن الاخرة، ونبه الى ان المغالاة في جانب على جانب فيه ضياع للانسان الذي يجب عليه ان يعتدل ويجمع بين عملي الدنيا والاخرة اعمالا لقول الله تعالى: ﴿وابتغ فيما اتٰك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا واحسن كما احسن الله اليك ولا تبغ الفساد فى الارض ان الله لا يحب المفسدين﴾ سورة القصص: اية77.
وعندما امرك الاسلام ان تعتدل في حياتك، امرك ان تتحرى طرق العمل الحلال عملا وانتاجا – بيعا وشراء – ؛ لان العمل في الشيء المحرم يجلب الخراب ويحقق للانسان الشقاء ويدفع به الى التعاسة .. ومما قاله لقمان لابنه في هذا المقام “يابني استعن بالكسب الحلال على الفقر؛ فانه ما افتقر احد قط الا اصابته ثلاث خصال: رقة في دينه – وضعف في عقله – وذهاب مروءته، واعظم من هذه الثلاث استخفاف الناس به”، ولقد عرف الانبياء قيمة العمل على هذا النحو.. وكان لكل نبي حرفة يعمل فيها ويعيش منها مع عظم مسؤولياته.. وخذ مثلا سيدنا – ادريس – كان خياطا يكسب بعمل يده، وداود كان حدادا كما ذكر القران في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿والنا له الحديد ان اعمل سٰبغٰت وقدر فى السرد واعملوا صالحا﴾ سبا: الايتان 10، 11، وهناك بعض الروايات تؤكد انه كان خواصا يعمل من الخوص – القفة – وغير ذلك، ونوح عليه السلام كان نجارا، كما كان زكريا عليه السلام، وابراهيم كانت عنده الجمال والخيل والاغنام.. كما كان موسى عليه السلام اجيرا عند رجل يعمل في رعي الغنم، والقران الكريم يقول لنا ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ التوبة: اية 105، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم لاهل مكة باجر معين .
ان العمل عندما يكون هو الذي ينتج الكسب الحلال؛ فهو احسن الطرق.. لهذا ليس بغريب ان يهتم الاسلام بالعمل والعاملين؛ لان العمل لا تعود فائدته على العامل وحده، وانما العائد على المجتمع كله، وخذ مثلا المزارع الذي يفلح الارض لتثمر الثمر وتنبت الزرع؛ فان العائد من هذه الزراعة للمجتمع .. كذلك الذي يقوم بالبناء ويبني العمارات؛ فان ذلك عائد على المجتمع، وخذ كل مهنة فسوف ترى ان كل واحد يعمل في جزء يكمله الاخر، فالذي يعمل في الزراعة يحتاج الى من يطحن وبعد الطحن لابد من مخبز، وبعد الخبز لابد من حمله الى المستهلك، والذي يصنع النسيج يحتاج الى من يزرع القطن، والى التاجر الذي يحمله منه الى مصانع الغزل، والى التاجر الذي يحمله منه الى مصانع الغزل، وهناك الالات التي صنعها الصانع لتتولى غزل القطن او الصوف ثم يدخل الى النسيج ثم يدخل الى الصباغة ثم الى التجهيز.. ثم .. ثم .. الى ان ينقل الى المستهلكين ..
ولو ان اي انسان اهمل في انتاجه سيلحق الضرر بالاخرين؛ لان كل انسان عليه مرحلة من مراحل الانتاج، عليه ان يجودها ويحسن فيها ويرقى بمستوى الاداء وهذا ما حث عليه الاسلام في قول الرسول صلى الله عليه وسلم”ان الله يحب من احدكم اذا عمل عملا ان يتقنه”. ان الاسلام يطلب مع اتقان العمل اخلاص النية فيه لله، فهو المكافئ مع زيادة معدلات الانتاج والله تبارك وتعالى يقول: ﴿من عمل صالحا من ذكر او انثىٰ وهو مؤمن فلنحيينه حيٰوة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون﴾ النحل: اية 97.. والحق سبحانه وتعالى رفع شان الانسان وزوده بقدراته البدنية والعقلية والملكات الفكرية؛ فالحكمة من وراء ذلك هي تهيئة الانسان لعمارة الكون وحمل مسؤوليات التنمية في كل الاتجاهات التي لا تتحقق الا بالعمل الدائب والنشاط المثمر المتواصل لاستغلال خيرات الارض وما افاء الله به على الانسان من جليل النعم، وما من به سبحانه على الانسان من مصادر لا تنفد ومدد لا ينقطع من المواد الخام والاساليب الانتاجية الفنية، وكل ذلك يكون مادة لعمل الانسان وحقلا لتفكيره، وهذه الاشياء اصبحت كافية في تحقيق رسالة الانسان في التنمية الاجتماعية والاقتصادية على ان يقاس ذلك بمقدار ما يبذله الانسان من عمل وما يقوم به من جهد؛ لان العائد عليه مرهون ببذل الجهد في العمل وما يتحمله من مشقة .
لقد حبب الاسلام كل المهن والاعمال والحرف والوظائف الى الناس؛ لانهم يتفاوتون؛ فهذا يعمل بيده، وهذا بالوقوف خلف الالات، وهذا بالحساب جمعا وطرحا، وهذا بالرسم الهندسي، وذاك بمعرفة المرض وتشخيصه ووصف العلاج، وهكذا تجد ان كل واحد يخدم الاخر من حيث يدري او لا يدري ولذا قال الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة ..
بعض لبعض وان لم يشعروا خدم
ان الله سبحانه وتعالى وقد وهب الناس كل واحد موهبة تختلف عن الاخر لتستقيم الحياة، وعلى المجتمع ان يضع اسس التربية العامة التي تمكن كل ذي موهبة من القيام بالعمل الذي يناسب موهبته؛ لانه في اثناء التربية؛ فان المواهب تكتشف وتعرف بالاختبارات النفسية، كذلك القدرات والذكاء ليتاتى من وراء ذلك تكوين هرمي للمجتمع قاعدته العمالية اوسع، ويحتاجون الى من يساعدهم حتى يتم العمران بايديهم، واذا علونا من قاعدة الهرم الى ماهو اعلى منها نجد العمال الفنيين المهرة؛ فاذا ما وصلنا الى الوسط نجد الادارة الوسطى وهؤلاء هم واسطة العقد في سلم العمل.. فاذا قاربنا قمة الهرم كان المفكرون والمخططون من اعلى المستويات، فاذا ما علونا كانت طبقة النبوغ ثم الذين يكونون في اعلى القمة وهم الذين تعيش الانسانية على اختراعاتهم وابتكاراتهم واكتشافاتهم لنواميس الكون، وبمقدار ارتقاء تفكيرهم يكون تقدم الامة، ولهذا نوه الحق سبحانه وتعالى بان رفع شانهم واعلى اقدارهم؛ لانهم يقول عنهم الحق ﴿يرفع الله الذين امنوا منكم والذين اوتوا العلم درجٰت﴾ المجادلة: اية 11، ولمكانتهم السامية، فان خشيتهم من الله تشتد؛ لانهم عرفوا ان المانح للعقل هو الله، وان الملهم للتفكير الرشيد هو الله.. لهذا قال الله عنهم ﴿انما يخشى الله من عباده العلمٰؤا﴾ فاطر: اية 28، ان العمل في الاسلام عبادة؛ لانه من وراء العمل المتقن نفع الناس وتسيير دولاب العمل، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”الخلق كلهم عيال الله واحبهم اليه انفعهم لعياله”، والاسلام وهو يؤكد على هذا المعنى ينبه على راحة العاملين وتوفير الاجور المناسبة لهم مع توفير المساكن، ووسائل المواصلات، وايجاد جو من الرفاهية المباحة ليروحوا عن انفسهم عناء العمل؛ لان العمال اذا تعبوا من بعض اوضاعهم فان عملهم يرتبك.. لذلك يحدد الاسلام اسلوب التعبير عن هذا التعب ورفع امرهم الى المسؤولين عنهم ولا يليق بالعامل ان يترك عمله؛ لانه ان عطل عمله اساء الى الامة؛ لان العامل بعمله له ثواب عند الله فهو في عبادة مستمرة لا يقصر فيها ولا يتكاسل حتى لا يضر بالاخرين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول “لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه”، والدين الذي نؤمن به دين اجتماعي لا ينفصل عن الدولة .. لهذا حذر الله سبحانه وتعالى من القعود والكسل بدعوى التدين او التعبد فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿فاذا قضيت الصلٰوة فانتشروا فى الارض وابتغوا من فضل الله﴾ الجمعة: اية 10، ويقول ايضا: ﴿هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور﴾ الملك: اية 15، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا”، اي تذهب اول النهار ضامرة البطون من الجوع، وترجع اخره ممتلئة البطون، فالحركة فيها بركة؛ ولذلك يقول الامام احمد t في هذا الحديث ليس فيه دلالة على القعود عن الكسب؛ بل فيه ما يدل على طلب الرزق اذا المراد انهم لو توكلوا على الله في سعيهم كما تسعى الطير لرزقهم كما يرزق الطير في سعيه اذ تغدو خماصا وتعود بطانا.. ويقول عمر بن الخطاب t”لايقعد احدكم عن طلب الرزق وهو يقول اللهم ارزقني؛ فقد علمتم ان السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة”. ان اتقان العمل احسان، وحسن المعاشرة احسان لذلك نرى ان الحق سبحانه وتعالى بكريم تاييده وعظيم مؤازرته مع المحسنين وهم الذين لا يكتفون بمجرد العمل؛ بل يتقنوه يجودوه ويحسنوه وياتون به على وجهه الاكمل فهؤلاء لهم الجزاء الاوفى من رب عظيم قال ﴿وان ليس للانسان الا ما سعٰى * وان سعيه سوف يرٰى * ثم يجزٰه الجزاء الاوفٰى﴾ النجم الايات 39 – 40، ويقول ايضا: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين﴾ العنكبوت: اية 69.
ان الاسلام مجد حرفا كان الناس ينظرون اليها نظرة فيها كثير من الازدراء والتحقير مثل.. رعي الغنم.. فبين الرسول صلى الله عليه وسلم انها كانت مهنة الانبياء فيقول في حديثه الشريف: “ما بعث الله نبيا الا رعى الغنم قالوا – وانت يارسول الله؟ قال نعم.. كنت ارعاها على قراريط لاهل مكة
“، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا يقول لرعاة الغنم عملكم عظيم فالغنم غنيمة والخيل في ركابها الخير، وكل عمل يؤديه الانسان فخر للعامل؛ لانه ما اكل انسان طعاما قط خير من ان ياكل من عمل يده.. تقول: السيدة عائشة – رضي الله عنها – عن المراة التي تعمل وتمارس نشاط الانتاج تقول “المغزل في يد المراة احسن من الرمح بيد المجاهد في سبيل الله”، جاء ذلك في كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه الجزء الثاني، فكما ان الاسلام دعا الرجل للعمل رغب المراة فيه كذلك ولها ان تمارسه في اي مكان مادامت محافظة على وقارها ملتزمة بالحشمة غير جالبة ضررا خلقيا او اجتماعيا لاسرتها؛ فلنعرف للعمل قدره، فان الله يحب العاملين .