الموضوع:
1/ مفهوم العدل : المراد بالعدل : اعطاء كل ذي حق حقه ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشر ، من غير تفرقة بين المستحقين ولاهمية العدل ومنزلته ، بعث الله رسله وانزل كتبه ، لنشره بين الانام ، قال تعالى (( لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)) والقسط : العدل ، وهو قوام الدنيا والدين ، وسبب صلاح العباد والبلاد ، به قامت السموات والارض ، وتالفت به الضمائر والقلوب والتامت به الامم والشعوب ، وشمل به الناس التناصف والتعاطف، وضمهم به التواصل والتجانس ، وارتفع به التقاطع والتخالف.
وضعه الله تعالى لتوزع به الانصبة والحقوق، وتقدر به الاعمال والاشخاص، اذ هو الميزان المستقيم، الذي لا تميل كفته، ولا يختل وزنه، ولا يضطرب مقياسه، فمن رام مخالفته، وقصد مجانيته، عرض دينه للخبال، وعمرانه للخراب، وعزته للهوان، وكثرته للنقصان، وما من شيء قام على العدل، واستقام عليه ، الا امن الانعدام، وسلم من الانهيار.
ومن اهم دعائم السعادة، التي ينشدها البشر في حياتهم، ان يطمئنوا على حقوقهم وممتلكاتهم، وان يستقر العدل فيما بينهم، والا فلا يعرف على وجه الارض شيء ابعث للشقاء والدمار، وانفى للهدوء والاستقرار بين الافراد والجماعات، من سلب الحقوق
المتصوفة الذين طوروا افكارهم الخاصة عن العدل، وحاولوا تحقيقه وفق منهج جديد مختلف تماما عنه لدى جميع المؤمنين الاخرين، لم يكونوا اقل اهتماما من غيرهم بالعدل الالهي. فرفضوا العدل الكلامي شكلا ومضمونا، وحاولوا بالاتصال المباشر مع اللهتحقيق العدل الالهي عبر التامل والرياضة الروحية من دون وسيط. لذلك نجد العدل الصوفي تعبيرا عن (تجربة روحية) تكتسب مباشرة من الاتصال باللهلا من العمل الانساني المعتاد، بينما يعرف العدل الديني بافعال انسانية من خلق الله(كما يذهب الاشاعرة)، او بافعال يقررها العقل (كما يرى المعتزلة).
تختلف فكرة الصوفية عن العدل عن افكار غيرهم، وذلك جزئيا لانها تعبر عن صفات اللهبرموز شعرية عالية التجريد، مثل النور والجمال والحب، لا بمفاهيم كلامية، مثل الارادة والحكمة، ولا بعبارات تجسيمية او تشبيهية. وحتى تلك الكلمات الغامضة التي يحب المتصوفة استعمالها ليس الغرض منها وصف اللهبل اظهار حقيقة نهائية تلخص في مفهوم (الحق) الذي تتجسد فيه اعلى القيم. ولهذا السبب يسمون انفسهم (اهل الحق). وفكرتهم عن العدل الالهي هي من فيض الحقيقة او تعبير عنها. ولا يقول الصوفية اين يمكن ان نجد الله لنسعى الى عدله، بل يضعون ثلاث قنوات للاتصال الروحي: (القلب) الذي يعرف اللهو(الروح) التي تحبه، و(السر) الذي يتامله. وسبل الاتصال هذه، الغامضة وغير الملموسة، تختلف عن غيرها من السبل سواء كانت عقلية ام غير عقلية. ومردها الى مملكة النور الالهي. لهذا يقول الصوفية: (راجع في قلبك انت، فمملكة اللهفي داخلك) .
ولا يستطيع اي فرد ان يحصل على العدل الالهي بذكر اسم اللهوالصلاة له، لانه ليس في مقدور احد البحث عنه. انما يستطيع ذلك الصوفي الحقيقي وحده. ولكي يصب الانسان صوفيا يجب ان يمتلك بعض الصفات التي لا يستطيع امتلاكها الا القلة النادرة من الناس، مثل التقى وطهارة القلب والفقر، ونبذ كل الشهوات الدنيوية، وحتى الرغبة في الحصول على الثواب في الحياة الاخرى. ولا يصب (المسافر) صوفيا الا بعد رحلة طويلة في (الطريق) الموصلة الى تحقيق هدف الاتحاد بالحقيقة النهائية. انه نظام تقشفي قاس يتطلب الصبر وعدم المبالاة بالصعوبات التي لا يستطيع احتمالها الا قلة من الناس. ويورد الذين كتبوا عن الصوفية عدة (مراحل) تدعى (مقامات) يجب ان يحققها السالك (كالتامل، والقرب من اللهوالحب، والخوف، والشوق، والمودة، وغيرها). واذا كان من الممكن الوصول الى (المراحل) باتقان نسبي فان (الاحوال) نزعات روحانية لا يمكن التحكم فيها الا نادرا. فهي (تهبط من الله الى قلبه)، كما يقول الصوفي، (من دون ان يستطيع رفضها حين تاتي او الامساك بها حين تمضي). ولا يمكن ان يصل المرء الى درجة من درجات الوعي الصوفي او اكثر الا بعد حضور كل (المراحل) والحصول على خبرة في (الاحوال) وهو امر قد يمنحه اللهاو يحجبه . وهاتان الدرجتان هما: (المعرفة) و (الحقيقة)، حيث يتحقق المرء ان (المعرفة) و (العارف) و (المعروف) ليست سوى واحد .
يقال ان هدف الصوفي: (ادراك الحق). لكن الهدف يكمن عميقا في رغبة اعمق في تحقيق الكمال عبر التمارين الروحية بحثا عن الالهي. وتبلغ هذه العملية الذروة عند العتبة التي تصبح فيها النفس بمناى عن كل ما هو غريب عنها، عن كل ما هو ليس بالهي. وعندما تتحد النفس بالالهي في نهاية المطاف يتحول الصوفي من حال (الفناء)، وهي واقع الوجود، الى حال (الحق) التي هي الواقع النهائي او واقع الاتحاد مع الالهي. وكان الصوفي حسين بن منصور الحلاج (المتوفى 309/922) الذي اعلن انه حقق الاتحاد مع الله يقول: (انا الحق). فاتهم بالهرطقة، وحكم عليه بالموت، واعدم بقطع راسه وصلبه.
كان الصوفية اهل تقي واستقامة، يئسوا من ظلم المجتمع وفساده وشروره، فحاولوا حث امثالهم في التفكير على سلوك طريق التصوف في الحياة، وضرب المثل في كيفية البحث عن العدل في مملكة اللهالا ان العدل الالهي، في نظر الصوفية، ليس ثوابا في الحياة الاخرى، لكن الثواب هو الحصول على حب اللهونوره وجماله. وبالحصول على هذه الصفات يحقق الصوفي رضى داخليا مقابل سلوكه طريق الحق، طريق العدل الطهارة. وعقل الصوفي مشغول دائما بذكر اللهوقلبه معذب غالبا بمزيج من الحب والشوق. ولعل الحلاج هو اكثر المعلنين عن حبهم للهفي قوله: ساظل احوم حول حب الله ما دمت اتنفس وسابقي متيما بعشق الله ما دمت حيا .
وقال الحجويري (المتوفى حوالي 450-1057) عن الحب انه كمال اللهالذي يسعى كل الناس اليه كقانون عام: ان حب المرء للهصفة تبدو، في قلب المؤمن التقي، بصورة تعظيم واجلال، لذلك يسعى الى ارضاء (محبوبه) ويصبح نافد الصبر حائرا وراغبا في رؤيته، ولا يجد الراحة مع احد (غيره)، ويصبح معتادا على ذكره، وينبذ تذكر اي شيء معه. وتصبح الاستراحة مرمة عليه فيهجر الراحة. وينقطع عن كل العادات والصلات، ويرفض الشهوة الحسية، ويتجه نحو محراب الحب، ويخضع لشريعة الحب ويعرف (الله) بصفاته الكاملة .
اما المراة المتصوفة رابعة العدوية (المتوفاة 185-801) فكانت تتحدث عن حبها للهوكان حب لرجل، حين تقول: (الهي، كل ما قدرته لي من خير في هذه الدنيا اعطه لاعدائك، وكل ما قدرته لي في الجنة امنحه لاوليائك، لاني لا اسعى الا اليك انت وحدك …) .
(الهي اذا كنت اعبدك خوفا من النار فاحرقني بالجحيم، واذا كنت اعبدك طمعا في الجنة فاحرمنيها، اما اذا كنت اعبدك من اجلك فحسب، فلا تحرمني يا الهي وجهك الكريم) .
وليس حب اللهوجماله اللذان يعبر عنهما دائما بعبارات شعرية (اذ معظم الصوفية سبحوا بحمد الله شعرا) الا رمزين يشيران الى حب الانسانية جمعاء، ذلك ان مملكة اللهليست مشرعة الابواب للقلة فقط وانما لجميع، ولا يتحقق العدل الالهي الا في مملكة الله .
انه يكمن فيما يتمتع به الانسان من نور وجمال وحب .
ولكن ماذا عن العدل والظلم؟
هل يمكن ان يوجدا في مملكة اللهحيث لا مكان الا للحب والجمال؟
الواقع ان هذا السؤال لم يطرح بين المتصوفة قبل خضوعهم لتاثير الفلاسفة والمتكلمين. وكان المتكلمون والفقهاء ينظرون اليهم بعين الشك وعدم الرضا ويعدونهم ضالين عن تعاليم الاسلام الاساسية. كما ان المتصوفة لم يكونوا معنيين باسئلة المتكلمين والفلاسفة، لانهم كانوا يعدون طريق الاتحاد المباشر باللهاضمن للوصول الى الحقيقة من تاملات الفلاسفة والمتكلمين. لكن المذهب الصوفي اخذ يقع تحت تاثير المتكلمين والفلاسفة عند منعطف القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، واخذ الاضطهاد الذي كان يتعرض له المتصوفة في الحلقات الفلسفية والكلامية بالزوال. ويعود الفضل في المصالحة بين التصوف وفروع المعرفة الاسلامية الاخرى الى المتكلم ابي حامد الغزالي (المتوفى 504-1111) الذي كان هو نفسه متصوفا بحق، وبين بما لا يقبل الشك ان الفروع جميعها تسعى الى هدف واحد هو الحقيقة، كل على طريقته الخاصة، على الرغم من نواقص كل فرع على حدة. واشهر من اسهم، بعد الغزالي في هذه المصالحة بين الصوفية والفروع الاخرى، السهروردي (المتوفى 587-1191)، ومحيي الدين بن عربي (المتوفى 638-1240)، وصدر الدين الشيرازي (المتوفى 1050-1640). وبين هؤلاء كان الغزالي وابن عربي وحدهما مهتمين بصورة مباشرة او غير مباشرة بموضوع العدل، بينما كان اهتمام الاخرين منصبا على مذاهب كلامية شديدة التجريد لا علاقة لها بموضوع العدل. ومع ان الغزالي تناول موضوع العدل بالتفصيل اكثر مما فعل ابن عربي، ولا سيما العدل في جانبيه الفلسفي والاخلاقي، فقد تناول ابن عربي العدل من منظور صوفي فقط .
ولعل ابن عربي قد عبر اكثر من اي متصوف اخر عن موقف من الدين من زاوية وحدة الوجود ووحدة الاديان، وهي وجهة نظر عمومية في طبيعتها اكثر منها خصوصية . وكان يقول ان جميع الاديان من عبادة الاوثان الى اعلى شكل لها هي طرق تؤدي الى طريق عام ومستقيم، (طريق امام) يقود في نهاية الامر الى طريق الاحدية. وتحدث ابن عربي عن وحدة الوجود كتجل كلي معتقدا ان تجاربه الروحية لا تنطبق على المؤمنين الذين يدينون بدينه فقط بل تنطبق على غيرهم من المؤمنين وغير المؤمنين. ولخص وجهة نظره في الاديان بما يلي: فهذه طرق للهمختلفة … والحقيقة عين واحدة هي غاية لهذه الطرق .
فالعدل الالهي، الذي هو تعبير عن الذات الالهية (جهر الله)، لا يشمل المؤمنين فقط، بل هو عدل جميع الذين يبحثون عن العدل، كل بحسب نهجه الروحي الخاص. واذا كان المتصوفة بشكل عام يعدون العدل الالهي هدف حب اللهفان ابن عربي يرى ان هدف جميع الاديان هو الحب، الذي يربطها جميعا ويعبر عن رغبتها الداخلية في الحب، فيقول:
وحق الهوى ان الهوى سبب الهوى
ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
وشرحه: (اقسم بحق الحب ان الحب سبب كل حب، فلولا الحب في القلب لما عبد الحب (الله)).
يضاف الى ذلك ان ابن عربي يذهب الى ان جمال اللههو القاعدة الاساسية للحب، فجماله هو مصدر كل اشكال الحب وهو التعبير عن كماله. كما انه سبب الخلق وسبب عبادة الانسان له. ويتفق المتصوفة على مقولة ان جمال اللهوحبه هما التعبير عن جوهر اللهوكماله. الا ان ابن عربي هو الوحيد الذي يعتبر ان الجمال هو اساس الحب. واذا كان المتصوفة يذهبون الى ان العدل الالهي هو: تعبير عن الحب والجمال، فان ابن عربي يرى ان المصدر الاساسي للعدل الالهي يجب ان يكون الجمال .
وقد حاول ابن عربي، كمفكر يتناول المسائل الصوفية والكلامية، ان يقدم رايا صوفيا عن مذهبي الارادة والجبر اللذين كانا قد شغلا مدة طويلة عقول المؤمنين من دون ان يقدم الاشاعرة او المعتزلة جوابا شافيا فيهما. وفي تفسير قوله:ذلك بما قدمت ايديكم وان الله ليس بظلام للعبيد (ال عمران/182)، يجيب ابن عربي عن السؤال بما يلي: انا (الله) لم امرهم بالشرك الذي يسبب لهم الشقاء، ثم اكلفهم ما لا يطيقونه. لا، بل عاملتهم كما عرفتهم. وانما عرفتهم بما (اعطوني) من انفسهم، مما جبلت عليه انفسهم. لهذا اذا اخطاوا كانوا هم المخطئين. لم اقل لهم سوى ما تقتضيه ذاتي .. وانا اعرف ذاتي على حقيقتها … لي ان اقول ولهم ان يطيعوا او لا يطيعوا .
ولكن على الرغم من ان ابن عربي يسلم بوجود مجال اوسع امام المؤمن للاختيار، تراه يؤكد ان دائرة افعال الانسان الاختيارية، بالمعنى الواسع لهذه العبارة تقع بالضرورة ضمن دائرة افعال الجبر الاوس المقدرة من الله. وعليه فان اجابة الصوفي عن مسالة الجبر والاختيار في مملكة اللهحيث يتحد الانسان باللهلا تذهب ابعد مما ذهب اليه الاشعريان الاخيران، الباقلاني والغزالي: يقول الغزالي ان اللهخلق كل افعال الانسان ومنحه القدرة (القدر) على الفعل وفق العقل .
حاول ابن عربي التعبير عن افكاره بعبارات فلسفية مجردة من دون الاشارة الى المذاهب الكلامية المالوفة، وشعر قبل كل شيء بضرورة تحرير نفسه من كل مفاهيم القيم التقليدية، كالخير والشر، والخطا والصواب، والعدل والظلم، معتبرا اياها مفاهيم ذاتية بشان المعرفة الانسانية. فالخير الموضوعي الوحيد هو خير اللهوهو حضوره ووجوده. وكل ما عدا ذلك، بل كل القيم من خير وشر، وعدل وظلم، تاتي من الله. انها انكشاف افعاله، لكن الانسان يدعوها افعالا خاطئة وصائبة او عادلة وظالمة. الا ان صلاح اللهوارادته يقفان ساميين تعبيرا عن وجوده المنزه والمطلق .
ويمكن النظر الى الحركة الصوفية، التي تشترك مع الحركات الطوباوية في بعض اهدافها، على انها، بصورة جزئية على الاقل، احتجاج رجال التقى والاستقامة على الشر والظلم السائدين، ومحاولة لضرب المثل للمؤمنين الاخرين في كيفية التغلب على الشر والظلم. كما يمكن ان نعدها ردة فعل على الخطاب الكلامي وغيره من اشكال الخطاب الفكري التي اخفقت في حل المسائل الاساسية المتعلقة بمصير الانسان وتحقيق العدل الالهي على الارض. الا ان المتصوفة اثاروا، باتباعهم اسلوبا من التجارب الروحية مختلفا عن الاسلوب المتعارف عليه، غضب جميع العقائد، وغضب السلطات، وجلبوا الكوارث والموت لعدد من اتباعهم قبل ان يصبح مذهبهم مقبولا في اخر المطاف .
وتكمن اهمية الحركة الصوفية في تحررها من القيود التقليدية التي وضعها انصار مذهب العقل وانصار مذهب الوحي عن طبيعة العدل الالهي ومكوناته. ومفهوم العدل الصوفي هو: مفهوم الكمال. ويختلف المتصوفة عن المعتزلة الذين تحدثوا ايضا عن العدل الالهي على انه كمال، بانهم لم يكتفوا بان رفعوا العدل الالهي الى درجة اعلى من التدين بل توسعوا فيه ليشمل جميع بني الانسان. فحين يسعى الانسان الى العدل لا يتوقع منه مجرد الصلاة والدعاء من اجله، بل يجب ان يحققه بتجارب روحية صارمة. لكن ما ان يقبل الانسان في بيت العدل بيت الله حتى يصبح حتما في حضرة القاضي الكامل، قاضي الحب والجمال والحق .
وهذا الشكل من العدل ليس للمؤمنين فقط، فعدل الله::ت:المتجسد في كل الشرائع الخالدة هو لكل البشر. وبكلمات المتصوفة:
يجعل الشريعة ثوبه الخارجي .
ومسلك الصوفي ثوبه الداخلي .
- الفلاسفة الذين تحدثوا عن الحب والموت