افضل مواضيع جميلة بالصور

تردد تعهد تهدج

——————————————————————————–

” حوش بنات ود العمدة ” رواية عن الحب والكراهية ..الخوف والفشل والعنصرية .. وبعض المسكوت عنه ..

للكاتبه سناء جعفر

الفصل الاول

انطلقت الزغرودة عالية مجلجلة بجرس موسيقي صاف وشقت عنان سماء اختلطت فيها الوان السحب ما بين الابيض الناصع والرمادي المتدرج وطغى عليها لون احتضار الشمس بزفيرها الناري وهي تغيب ببطء خلف الافق المتاهب لغزو الظلام … تتالت الزغاريد التي كانت تبدا بعنفوان متحمس منساب ثم تنخفض برنات متفاوتة في الطول والنعومة …
وضجت سماء (حي ابوروف ) بالاصوات التي اعتادتها طيلة الشهرين الماضيين ..
في الفضاء ارتفعت اعمدة دخان باهت ترافقها رائحة ” الشاف ” المحترق وابخرة الشحم المخلوط بالقرنفل واعواد الصندل … قطع مزيج الروائح النفاذة الشارع الاسفلتي الضيق الذي يفصل منزل حامد الامين عن النيل وتوغل حتى وصل الى القوارب الصغيرة التي كانت تتهادى في رحلة عودتها من صيد موفق … تبادل المراكبيه ابتسامات متواطئة عندما سمعوا رنات الفرح الصادحة المصحوبة بمزيج الروائح المغرية وهي تستفز خياشيمهم التي ادمنت رائحة البحر والسمك … ظهرت علامات الانتشاء في الوجوه الكالحة … وصرخ احدهم مناديا الاخر …

– بختك يا وراق … ماشي حوش ود العمدة محل الريحة السمحة والوشوش السمحة…
ارتفعت الضحكات وتبادل الجميع الهمهمات المازحة وهم ينظرون الى مركب وراق الصغير بحسد … ونادى صوت اخر …

– والله سمح العرس عند بنات ود العمدة … الا هي الحفلة متين ؟؟؟

رد وراق بفتور وهو يوجه قاربه الصغير نحو الشاطئ .. وارتج جسده النحيل قليلا عندما اصطدمت المقدمة بالضفة الرملية :

– العرس الاسبوع الجاي
حمل كيس الخيش الممتلئ بالاسماك .. وبخطوات خفيفة حافية قطع الشارع الضيق ووقف قليلا يتامل المنزل المهيب بابوابه الكبيرة ومساحته الشاسعة التي تمتد حتى نهاية الشارع … كانت الوان الغروب الدافئة تنعكس على الجدران الحجرية العالية وتضفي عليها ظلالا ناعمة بددت جمودها حتى خيل لوراق كانها تتحرك … هز راسه كي ينفض عنه اوهامه ثم دخل بالفة من الباب الحديدي العملاق واتجه مباشرة الى خلف المباني وهو يتبع خليط الروائح المغرية … عندما وصل الى الزاوية التي يبدا بعدها الحوش الفسيح … راودته نفسه ان يتجاهل اسلوبه المعتاد في اعلان حضوره وادعاء الغفلة حتى يرى ما تتوق نفسه الى رؤياه … هم بالتحرك ثم توقفت خطواته بغتة عندما تناهى الى سمعه صوت حجة ” السرة ” الجهوري وهي تامر وتنهي كعادتها …

– يا بت يا بلقيس زيدي النار دي سريع … الحفرة بقت باردة والحطب قرب يموت…

تسمر خوفا .. ورفع صوته باعلى ما يستطيع :

– حجة السرة … يا ناس هوي .. جبت ليكم السمك .. تعالوا شيلوهو مني .

تمتم بالحمد على عدم مطاوعة نفسه الامارة بالسوء عندما اتاه صوت السرة محذرا …

– وراق ؟؟ اقيف قبلك اوعاك تدخل … اجري يا بت يا فاطنة شيلي منو السمك ووديهو لحبوبتك بهناك تنضفو ..وكلمي جدك حامد يديهو القروش … اتحركي يا بت وبطلي المحركة بتاعت امك دي …

تراجع وراق بجسده الى الخلف ومد راسه مختلسا النظر داخل الحوش العريض … كانت فاطمة تتقدم نحوه بخطواتها الراقصة وجسدها الرشيق … تفوح منها ذات الروائح المستفزة … بدا جلدها المتراوح بين لون البن المحمص ونعومة ثمرة الطماطم الناضجة ولمعة الدهن السائح يقترب منه ويثير فيه احاسيس لا يستطيع احتمالها … ابتلع ريقه بصعوبة عندما وقفت امامه كاحدى تماثيل الابنوس المصقولة التي يراها في سوق امدرمان .. خاطبته باستعلاء ..

– اف منك ومن ريحتك يا وراق… انت القال ليك منو احنا عاوزين سمك الليلة ؟؟ شايفنا فاضيين ليهو ولزفارتو ؟؟ .. يلا هاته وطير عند ابوي حامد شيل قروشك … وتاني حسك عينك تجيب سمك لغاية ما العرس ينتهي …

انتزعت كيس الخيش من يده بعنف واتجهت الى اخر الحوش … ظل يراقب خطواتها حتى اختفت عن ناظريه خلف سور كثيف من الاشجار المتلاصقة التي كونت ما يشبه دغل صغير بدا واضحا لمن يراه انه وضع بفعل فاعل كي يفصل ويغطي ما خلفه اكثر من كونه زينة .. وقبل ان يستدير عائدا اختلس نظرة اخرى الى طرف الحوش الاخر المسكون بمنبع الروائح …
ارتعشت مفاصله وتسارعت دقات قلبه عندما لمح شبح فتاة رائعة الجمال وقفت بتململ وصبر نافذ … بدت حبات عرق لامعة تغطي وجهها وتسيل في خطوط متنافسة حتى عنقها … كانت خصلات شعرها الناعم المتمردة مبعثرة وملتصقة بجبينها الضيق وتدلى بعضها متلويا على خدودها اللامعة … حركاتها القلقة جعلت ” الشملة ” تنحسر عن كتف ذهبي مستدير .. بينما خرجت من اسفلها ساق تشبعت بالدخان حتى صار لونها مائلا للسواد …
كانت ” بلقيس ” كبرى بنات حجة السرة منحنية وهي تلتقط جمرات من “الكانون ” امامها وتضعها بحرص داخل الحفرة العميقة حسب توجيهات امها …

– رصي الحطب كويس يا بلقيس … زيدي الجمر دة ووزعيهو عشان يقبض سريع … وانتي يا بت يا رحمة غتي صدرك ما يلفحك الهوا … ارفعي الشملة دي لفوق وبطلي الدلع الفارغ البتسوى فيهو ده واقعدي زي الناس في الحفرة … بنات اخر زمن !! … الواحدة تقعد عشرة دقايق وتبدا تتململ وتنقنق .. احي الحفرة حارة … واي الدخان خنقني … ما شفتونا احنا في زمنا نقعد بالساعات الطوال في عز الحر وعز البرد … ونتمسح بالودك لمن يسيل ويملا الواطه … ونتغطى من راسنا لرجلينا مافي مخلوق يشوفنا حتى اقرب الاقربين لغاية ما الدخان يبقى طبقة تخينة لمن يجوا يطلعوها الا يدخلوا القشة .. يلا تعالى اقعدي خلينا نخلص مواعيد الغناية قربت …

ادرك وراق بانه قد اطال الوقوف فخاف من افتضاح امره واجبر قدميه المسمرتين على الحركة رجوعا الى مقدمة المنزل وهو يدور بعينيه املا في رؤية المزيد من فتيات الحوش الحسان … احس بخيبة امل عندما وصل الى ” الديوان ” دون ان يصادف احدا …
في ” المصطبة ” العالية جلس حامد الامين الشهير ” بود العمدة ” في كرسي منخفض وامامه ” ابريق ” ملئ بالماء وقد شرع في الوضوء بينما تعالى صوت الاذان الشجي من المئذنة العالية التي تطل على الحوش …
كان ود العمدة رجلا نحيلا منتصب القامة بصورة مهيبة وتثير الحيرة في امكانية تحديد عمره الحقيقي .. بدا التناقض واضحا بين ملامحه الطفولية الوسيمة والشيب الذي غزا فوديه وتوزع بفوضى محببة في الشارب الغزير والذقن المستديرة الخفيفة التي لم تستطع اخفاء نغزة عميقة توسطت الحنك الدقيق … كانت نظراته الحادة تنطلق كالشرر من عيون واسعة يتمازج فيها اللونين البني والعسلي بانسجام غريب .. وعندما يبتسم احدى ابتساماته النادرة تنفرج شفتيه عن اسنان بيضاء لامعة تتوسطها ” فلجة” صغيرة وتظهر غمازتان عميقتان على خدوده المشدودة …

بعد ان فرغ حامد من وضوؤه رفع راسه ونظر الى وراق الواقف بصبر وخاطبه بصوت هادئ

– اهلا يا وراق .. جبت السمك ؟؟ حسابك كم ؟؟

خفض الشاب نظراته احتراما واتت كلماته متلعثمة كما هو حاله عندما يخاطب صاحب المنزل …

– خليها علي المرة دي يا ود العمدة .. دي هدية بسيطة ما قدر المقام عشان العروس المرة الجاية بشيل منك …

فتح حامد محفظته المنتفخة واخرج منها رزمة اوراق مالية ومدها للسماك الخجول …

– هدية مقبولة يا وراق .. وهاك المبلغ دة هدية مني ليك …

هم وراق بالاحتجاج فاسكته ود العمدة باشارة من يده …

– شيل القروش يا وراق .. مش انا قبلت هديتك ؟؟ انت كمان لازم تقبل هديتي … يلا بطل نقة عشان ما تفوت علينا الصلاة .. المغرب غريب وما بتحمل التاخير …

تناول وراق النقود الممدودة والتي قدر قيمتها باربعة اضعاف قيمة السمك الذي احضره .. جاهد ليبدو حاسما وهو يخاطب ود العمدة …

– انا حشيلهم المرة دي … لكن المرة الجاية لو اديتني قروش تاني ما بجيب ليكم سمك..

اكتمل مشروع الابتسامة في الوجه الوسيم … استدار ود العمدة دون ان يرد .. اتجه الى سجادة الصلاة وشرع في التكبير بخشوع …

داخل المنزل الفسيح كانت هناك حركة دائبة لفتيات يجمع بينهن الجمال ويفرقهن اختلاف الاعمار وتباين الالوان التي تدرجت ما بين الذهبي البراق الى الخمرى الناعم والقمحى الفتان والاسمر اللامع …
في احدى الغرف المغلقة جلست فتاتان في منتصف السرير تتهامسان بخفوت متامر وهما لاهيتان بحديثهما عما يدور خارج الغرفة … فجاة فتح الباب بعنف شتت شمل الهمس ووقفت على عتبته فتاة تتارجح بين الطفولة والنضج وقد وضعت يديها في وسطها بتحد مما اظهر صدرها العارم الذي لا يتناسب مع قوامها النحيل … كانت لهجتها المتسلطة ونبرتها الحادة ارثها الواضح من السرة … تراقصت علامات الغيظ في عينيها الكحيلتين وهي تتكلم بصوتها الجهوري …

– منال وجاكلين ؟؟ انتو قاعدين هنا تتوسوسوا والدنيا برة جايطة ؟؟ .. انتو يا بنات ما بتفتروا من الكلام … الوقت كلو مقابلين بعض وتنقوا .. اصلكم بتقولوا شنو ؟؟ بتحلوا مشكلة فلسطين ؟؟!! ما مكفيكم الوقت البتقضوهوا مع بعض في الجامعة ؟؟…

  • حوش بنات ود العمدة
السابق
الشعور بعدم الارتياح بعد الاكل
التالي
موديلات فساتين دانتيل