الفتن من اعظم المؤثرات على الدين، فلا تعرف سنا ولا جنسا ولا بلدا، وهي تمحص القلوب وتظهر ما فيها من صدق او ريب، فتتعرض لكل قلب فيسقط فيها اقوام وينجو اخرون، قال -عليه الصلاة والسلام-: “تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فاي قلب اشربها نكتت فيه نكتة سوداء، واي قلب انكرها نكتت فيه نكتة بيضاء” ..
ان الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وسلم تسليما كثيرا.
اما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الاسلام بالعروة الوثقى.
ايها المسلمون: امتن الله على عباده بنعم ظاهرة وباطنة، ولا تتم نعمة الا بالدين، والثبات عليه من التحول او النقصان من اشق الامور، قال انس -رضي الله عنه-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر ان يقول: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”. فقلت: يا رسول الله: امنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟! قال: “نعم، لان القلوب بين اصبعين من اصابع الله يقلبها كما يشاء”. رواه الترمذي.
ومن دعاء الصالحين: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة) [ال عمران: 8].
والشيطان راصد للانسان في كل سبيل لافساد دينه، قال -عليه الصلاة والسلام-: “ان عرش ابليس على البحر، فيبعث سراياه فيفتنون الناس، فاعظمهم عنده اعظمهم فتنة”. رواه مسلم.
والفتن من اعظم المؤثرات على الدين، فلا تعرف سنا ولا جنسا ولا بلدا، وهي تمحص القلوب وتظهر ما فيها من صدق او ريب، فتتعرض لكل قلب فيسقط فيها اقوام وينجو اخرون، قال -عليه الصلاة والسلام-: “تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فاي قلب اشربها نكتت فيه نكتة سوداء، واي قلب انكرها نكتت فيه نكتة بيضاء”. رواه مسلم.
وهي كثيرة، وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: “بادروا بالاعمال فتنا كقطع الليل المظلم”. رواه مسلم.
ولا تدع بيتا الا دخلته، قال -عليه الصلاة والسلام-: “اني لارى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر”. متفق عليه.
وكلما فتحت نعمة نزلت معها فتنة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ماذا فتح الليلة من الخزائن وماذا انزل من الفتن؟!”. متفق عليه.
واذا بعد الناس عن زمن النبوة ظهرت الفتن، قال -عليه الصلاة والسلام-: “لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن”. رواه البخاري.
وهي تتوالى على العبد الى مماته، وقد تاتي بمهلكته وقد تتدرج عليه، قال -عليه الصلاة والسلام-: “ان امتي هذه جعل عافيتها في اولها، وسيصيب اخرها بلاء وامور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن احب ان يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتاته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الاخر، وليات الى الناس الذي يحب ان يؤتى اليه”. رواه مسلم.
وخطرها كبير، من دنا منها اخذته، ومن حام حول حماها اوقعته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “من تشرف لها تستشرفه”. متفق عليه.
منها ما هو كبير يموج كموج البحر، ومنها ما هو دون ذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يعد الفتن: “منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتن كرياح الصيف منها كبار ومنها صغار”. رواه مسلم.
منها ما تخرج المرء من الدين، قال -عليه الصلاة والسلام-: “يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، او يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا”. رواه مسلم.
قال النووي -رحمه الله-: “وهذا لعظم الفتن ينقلب الانسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب”.
وفتنة الشرك اعظم من القتل، ومن فتنته ان يظن ان دعوة الاموات واصحاب القبور مسموعة، فرد الله شبهتهم بقوله: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * ان تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) [فاطر: 13، 14].
او يظن ان العمل الصالح لا ينقضه الشرك ولا يفسده، وقد اخبر الله ان العمل الصالح يبطل اذا قارنه الشرك به، قال سبحانه: (ولقد اوحي اليك والى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) [الزمر: 65].
وكل عمل لم يكن خالصا لله فانه لا يقبل ولو كثر، والرياء في الاعمال وعدم الاخلاص فيها لله اعظم من فتنة الدجال، قال -عليه الصلاة والسلام-: “الا اخبركم بما هو اخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟!”. قلنا: بلى، قال: “الشرك الخفي”. رواه ابن ماجه.
والتوكل على الله احد ركني الدين: (اياك نعبد واياك نستعين) [الفاتحة: 5]، والله سبحانه هو الخالق الرازق القدير، وتفويض الامر اليه يشرح الصدر وييسر الامر، ويحقق -باذن الله- المنى، قال -جل شانه-: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) [الطلاق: 3].
والاعتماد على الاسباب في طلب الرزق وغيره والتعلق بالمخلوقين مع ضعف التوكل او تركه فتنة في الدين، وذل للنفس، وجلب للاحزان، وداع للهموم، والايمان يصقل النفوس ويهذبها ولا يذبذبها، فتشكر ربها عند النعماء، وتصبر عند البلاء.
ومن الفتن: ترك الهداية ان نزلت محنة او اقبلت دنيا بزخرفها او تحليل ما كان يراه حراما اتباعا لهوى او طمعا بدنيا، قال الله -عز وجل-: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فان اصابه خير اطمان به وان اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة) [الحج: 11].
والخلق يفتن بعضهم ببعض، قال سبحانه: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة اتصبرون) [الفرقان: 20].
قال ابن القيم -رحمه الله-: “وهذا عام في جميع الخلق، امتحن بعضهم ببعض، فامتحن الرسل للمرسل اليهم، والمرسل اليهم بالرسل، وامتحن العلماء بالجهال، وامتحن الجهال بالعلماء، وامتحن الاغنياء بالفقراء، والفقراء بالاغنياء”.
والالفة وجمع الكلمة على الحق من اسس قوة الاسلام واهله، ونهى الله عن الشتات والافتراق، فقال: (ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) [الروم: 31، 32]، ومن اوليات اعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة تاليف قلوب الاوس والخزرج والمؤاخاة بين المهاجرين والانصار لنشر الاسلام.
ومن الفتن: الفرقة والنزاع والاختلاف بين المسلمين اتباعا لهوى ونحوه، قال شيخ الاسلام -رحمه الله-: “والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي فتن وان لم تبلغ السيف”.
والله كرم الانسان وفضله وعظم حرمة المسلم ودمه، وفي اخر الزمان يقل العمل الصالح ويضعف الايمان في النفوس، فيستهان بحرمات الله، ومن الفتن: كثرة القتل في الامة، قال -عليه الصلاة والسلام-: “ويكثر الهرج”. قالوا: يا رسول الله: وما الهرج؟! قال: “القتل”. متفق عليه.
ولكثرة القتل يسفك الدم من غير سبب، قال -عليه الصلاة والسلام-: “لياتين على الناس زمان لا يدري القاتل في اي شيء قتل، ولا يدري المقتول على اي شيء قتل”. رواه مسلم.
ومن سلمت يده عن الاعتداء فليحفظ لسانه عن اعراض المسلمين.
والمال فتنة هذه الامة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: “فتنة امتي في المال”. رواه الترمذي.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يتعوذ من فتنته يقول: “واعوذ بك من فتنة الغنى ومن فتنة الفقر”. متفق عليه.
وخشي -عليه الصلاة والسلام- على امته كثرة المال والمنافسة في جمعه، فقال: “والله ما الفقر اخشى عليكم، ولكن اخشى ان تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما اهلكتهم”. متفق عليه.
ومن فتنته: جمعه سواء من حل ام من حرام، قال -عليه الصلاة والسلام-: “ياتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما اخذ منه امن الحلال ام من الحرام”. رواه البخاري.
ومن فتنته: البخل به او احتقار المساكين او جعله سببا للعصيان او الاستكبار به على الخلق، ونسيان ان الله هو المنعم عليه او بيع الدين للحصول عليه، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: “يبيع دينه بعرض من الدنيا”. رواه مسلم.
والسعيد من قنع بعطاء الله له وجمعه من حلال وايقن بان الله هو المنعم عليه وحده، فشكر ربه وتواضع للخلق وبذل ماله ابتغاء مرضات الله.
والدنيا تزينت لاهلها وفتحت ابوابها في الصناعة والالة والبناء وغيرها، والمرء قد يفتن بما يراه فيها، وينسى ان الله هو الذي وهب للانسان العقل وسخر له الارض وما فيها مع كواكب اخرى؛ لتكون عونا للانسان على طاعة ربه، وحذر ان تكون تلك النعم صادة عنه، واذا استكبر بما صنعه وانبهر بما راه فالامم السابقة قد فتح لها من القوة والمال والولد ما لم يفتح لهذه الامة، قال سبحانه: (كالذين من قبلكم كانوا اشد منكم قوة واكثر اموالا واولادا) [التوبة: 69].
والاولاد زينة الحياة، وجعلهم الله فتنة، كما قال سبحانه: (انما اموالكم واولادكم فتنة) [التغابن: 15]، ومن فتنتهم: التفريط في تنشئتهم على الدين او جمع المال من غير حله لهم او ترك شيء من انواع الطاعات او انتهاك محظور من اجلهم.
والدجال ما من نبي الا حذر امته منه، وهو اعظم انسان هيئة واشده وثاقا، مجموعة الان يداه الى عنقه، وما بين ركبتيه الى كعبيه بالحديد، واذا اذن الله بخروجه حل وثاقه وسعى في الارض، فيهرب الناس الى الجبال خوفا منه، ومن فتنته: ادعاء الربوبية، فيكذبه بعض الناس، فيامر السماء فتمطر، والارض فتنبت، ويمر بالخربة فيقول لها: اخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها، ويضرب الرجل بالسيف فيقطعه قطعتين، ثم يدعوه فيقبل اليه، فاذا راى ذلك بعض الناس قالوا: انت ربنا، فتنة لهم.
وبعد:
ايها المسلمون: فلا عاصم من الفتن الا ما عصم الله، قال سبحانه: (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) [المائدة: 41].
والدعاء سلاح المؤمن في السراء والضراء، والنبي -صلى الله عليه وسلم- امر صحابته بالتعوذ من الفتن، قال زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: اقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجهه فقال: “تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن”. قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. رواه مسلم.
بل وامر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتعوذ منها في كل صلاة، قال -عليه الصلاة والسلام-: “اذا تشهد احدكم فليستعذ بالله من اربع، يقول: اللهم اني اعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال”. رواه مسلم.
والبعد عن الفتن عصمة منها، ولهذا امر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالهرب من الدجال لمن سمعه، ويعظم قدر العبد بالبعد عنها، قال -عليه الصلاة والسلام-: “ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجا او معاذا -اي: هربا منها- فليعذ به”. متفق عليه.
قال ابن حجر -رحمه الله-: “في الحديث التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها، وان شرها يكون بحسب التعلق بها”.
والعلم الشرعي حصن مكين يدرا عن الجوارح اعمال الشهوات، وعن القلب اعتقاد الشبهات، قال -عليه الصلاة والسلام-: “تركت فيكم امرين لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه”. رواه الامام مالك.
والصلوات الخمس جماعة في بيوت الله تحفظ العبد من المكاره والشرور، قال -جل شانه-: (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) [العنكبوت: 45].
والرفقة الصالحة تدني من الخلق وتباعد عن الشر، وصحبة السوء ندامة تجمل القبيح وتاز اليه، والحياة معبر، والموفق من صانه الله من الفتن والمحن، ثم لقيه وهو راض عنه.
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فاستمسك بالذي اوحي اليك انك على صراط مستقيم) [الزخرف: 43].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعني الله واياكم بما فيه من الايات والذكر الحكيم، اقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على احسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، واشهد ان نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وسلم تسليما مزيدا.
اما بعد:
ايها المسلمون: فتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدرا بالصبر، والمسلم الحق هو الذي يصلح الناس يوم فتنتهم ويبين خطرها، ويوصي بالاعتصام بحبل الله المتين، وشان العبادة من الدعوة الى الله وغيرها في اوقات الفتن يعظم اجرها عند الله، قال -عليه الصلاة والسلام-: “العبادة في الهرج كهجرة الي”. رواه مسلم.
وعلى المرء ان لا يغتر بكثرة الهالكين، وان لا يستوحش من قلة السالكين، ولا ينظر الى كثرة من هلك، وانما ينظر الى الناجي كيف نجا لينجو.
ثم اعلموا ان الله امركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: (ان الله وملائكته يصلون على النبي يا ايها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) [الاحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: ابي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة اجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا اكرم الاكرمين.