هذه القصة، لعل بعضكم او اكثركم يعرف خطوطها العريضة، ولكن لا بد من مقدمة حتى نعرف ابعاد هذه القصة .
احيانا هناك من يقول: ان الانسان ابن بيئته، ابن الظروف المحيطة به، ابن امه وابيه، ابن وراثته، ابن مستوى ذكائه، وكان الانسان منفعل، وليس فاعلا، تؤثر فيه الظروف، والبيئة، وتؤثر فيه وراثته، ونوع التعليم الذي تلقاه يؤثر فيه، وكان الانسان والحالة هذه كرة، ان رات منحدرا، انطلقت، فان رات صعودا وقفت، لكن الحقيقة خلاف ذلك .
الانسان ليس منفعلا، بل هو فاعل، فاذا اراد الانسان شيئا تخطى كل العقبات، واذا صمم على شيء تجاوز كل المشكلات، والحقيقة ان الكسالى والمقصرين، والعصاة يتمسكون بنظرية ان الانسان منفعل، يقول لك: ظروفي صعبة، وبيئتي سيئة، وما تلقيت تربية جيدة، وما تعلمت، فكل اخطائه يعزوها الى جهات خارجة عنه ويستريح
لكن الحقيقة عكس ذلك، الانسان فاعل وليس منفعلا ، فهذا الماء منفعل، فان سفحته في منحدر سال نحو الاسفل، وان سفحته في ارض مستوية تجمع بشكل افقي، وان اصابته شمس تبخر، وهناك قوانين تحكم هذا الماء، فالماء منفعل، لكن الانسان ربما يتحرك بخلاف راحته، وربما يتجاوز كل المثبطات في بيئته، وربما يحطم كل عقبة تقف امامه، ولولا ان الانسان بهذه الصفة لما كان مكرما، لو كان الانسان منفعلا كما يتوهم بعض الناس لما كان له قيمة، فحكمه عندئذ حكم الاشياء المادية، تتحرك بحسب القوانين، وبحسب المعطيات، لكن الانسان اذا اراد شيئا ، وصل اليه، ولذلك قال بعض الادباء: ان القرار الذي يتخذه الانسان في شان مصيره، قلما تنقضه الايام، اذا كان صادرا حقا عن ارادة وايمان .
ايعقل لانسان في الخامسة والخمسين ان يتعلم القراءة والكتابة؟ نعم، اذا كان ذا عزم وبصيرة، او ان يحفظ القران الكريم بكامله, او ان يطلب العلم, او يبدا بتعلم القراءة والكتاب, وما يموت الا وهو شيخ الازهر، احد شيوخ الازهر الكبار بدا تعلمه للقراءة والكتابة في الخامسة والخمسين، وحفظ القران، وطلب العلم، ومات في السادسة والتسعين، وما مات الا وهو شيخ الازهر، وشيخ الازهر بمصر، اعلى مرتبة في سلم المناصب الدينية في مصر .
فالانسان اذا اراد شيئا لا تستطيع قوة في الارض ان تقف امامه، لان الله جهزه تجهيزا اساسه الصدق، ولان ربنا عز وجل حينما خلقه في الدنيا, قال له:
((عبدي، اطلب تعط))
قال تعالى:
﴿كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا﴾
( سورة الاسراء الاية: 20)
لكن الله سبحانه وتعالى لا يتعامل مع التمنيات، بل يتعامل مع الصادقين، اصدق يصدقك الله سبحانه وتعالى، اي يحقق نواياك .
يوجد عندنا شيء اخر، مثل منتزع من عالم الزراعة، لو جئنا بكمية بذور، ولتكن مئة بذرة، ووزعناها على الفلاحين، وراقبنا نبات هذه البذور، فاذا وجدنا عند تسعين فلاحا ان هذه البذرة لم تنبت نباتا جيدا، ولم تثمر الثمر المطلوب، والاوراق صفراء، والبنية ضعيفة، وراينا عند عشرة فلاحين، البذرة في اعلى درجات عطائها وانتاجها، فالعلة في الفلاح ام في البذرة؟ في الفلاح, هل تستطيع ان تتهم البذرة؟ ما دام عشرة اشخاص اعتنوا بها عناية فائقة، اعطت محصولا كبيرا، والنبات تالق، فلذلك هؤلاء العشرة حجة على التسعين، ولو قلت: البذرة سيئة، فلماذا نبت هذا النبات الجيد عند الاخرين؟ معناها البذرة جيدة، لكن معظم الذين زرعوها اهملوها ، ولم يعتنوا بها، ولم يكونوا في المستوى المطلوب، فاذا رايت الاكثرية مقصرة، فهل المعنى ان الانسان منفعل؟ لا .
ما اسم قرية سلمان الفارسي وهل كان ابوه من الطبقة العليا في قريته وكيف كانت علاقة ابيه معه ؟
موضوعنا اليوم سيدنا سلمان الفارسي، فلا يوجد انسان ابعد عن الهدى من هذا الانسان ، اليكم الاسباب، لكن انا كما عودتكم ابحث عن قصة لصحابي جليل يرويها هو، فروايته اشفى للغليل، فسيدنا سليمان كان فتى فارسيا من اهل اصبهان، من قرية يقال لها: جيان، يقول سلمان الفارسي عن نفسه:
((كنت فتى فارسيا، من اهل اصبهان,))
واسمحوا لي بالخروج عن رواية سلمان قليلا .
ذات مرة كنا في ايران، وركبنا طائرة حلقت على ارتفاع الف كيلو متر، حتى وصلنا الى مدينة اسمها مشهد، ثم زرنا قرية في طرف المدينة، اسمها طوس، هي بلدة الامام الغزالي، فكيف قدم الامام الغزالي من طوس الى الشام؟ طوس تبعد عن طهران الف كيلو متر، من طوس الى طهران، الى عربستان، الى بغداد، الى الشام، فتشعر ان الانسان الصادق، لا يوجد عقبات امامه- وكان ابي دهقان القرية، معنى دهقان القرية، اي رئيسها- غالبا ابناء الملوك، ابناء الزعماء ، ابناء الاغنياء، لشدة المال، والرخاء، والجاه، يعزفون عن الهدى، مشغولون في دنياهم، في نزهاتهم، في مقاصفهم، في العابهم، في الاموال التي بين ايديهم، في المركبات التي يركبونها، فابعد الناس عن طلب الحق هم ابناء الاغنياء، وابناء الاثرياء، وابناء الاقوياء، هؤلاء الدنيا العريضة التي بين ايديهم تشغلهم عن الله عز وجل، فمن كان ابو سيدنا سلمان؟ الله عز وجل جعل هذا الصحابي الجليل حجة على كل الناس، كان ابو سيدنا سلمان دهقان القرية، وكان اغنى اهلها ، واعلاهم منزلة، فشيء مالوف ان ترى انسانا من الطبقة الوسطى او الفقيرة يريد الله عز وجل، ويريد الاخرة، يقول لك اهل الدنيا: هذه عملية تعويض، لانه فقد الدنيا فالتفت للاخرة، هذا كلام غير صحيح، غير صحيح اطلاقا، فسيدنا سلمان حجة على هذا الكلام، وقد كان اهل الكهف من ابناء النخبة الثرية ايضا، قال تعالى:
﴿فاووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من امركم مرفقا﴾
( سورة الكهف الاية: 16)
اين كانوا يسكنون؟ في القصور، تركوا القصور الى الكهوف، ارادوا الله عز وجل، فاذا كان موضع الهدى، انسان فقير, قالوا: اراد التعويض عن خسارة الدنيا فالتجا الى الاخرة .
مرة قرات مقالة في مجلة جاء فيها ان هؤلاء المتدينين فشلوا في الحياة، وذهبت الدنيا من بين ايديهم، فلم يبق لهم الا الاخرة، فانكبوا عليها، هذا ظن الذين كفروا، لكن المؤمن، وهو في اعلى درجات القوة، وفي اعلى درجات الغنى، وفي اعلى درجات الشباب، يقبل على الله عز وجل ، ويضع الدنيا تحت قدميه -.
قال:
(( وكنت احب الخلق اليه, ثم ما زال حبه بي يشتد، ويزداد على الايام، حتى حبسني في البيت، خشية علي، كما تحبس الفتيات))
ما هي الديانة التي كان يعتنقها سلمان, وما الذي لفت نظره في كنيسة النصارى, وما هو موقف والده حينما اثنى سلمان على دين النصارى ؟
قال:
((وقد اجتهدت في المجوسية, كان مجوسيا،))
-وحتى هذا التاريخ احد اخواننا زار بعض البلاد شمال باكستان، فهناك من يعبدون النار حتى الان، واطلعني على تقويم كيف تنشا الابنية، وتوقد فيها النيران ليلا ونهارا؟ وهذا الذي يوقد النار ليلا ونهارا ذو مستوى عال في دين المجوس ، وقال: وقد اجتهدت في المجوسية، حتى غدوت قيم النار, فالذي يوقد النار هو في مرتبة دينية عالية جدا، كان مجوسيا، على غني، على وجاهة، على حب، وكل هذه العوامل مثبطات للهدى- حتى غدوت قيم النار التي كنا نعبدها، وانيط بي امر اضرامها، حتى لا تخبو ساعة في ليل او نهار، وكانت لابي ضيعة عظيمة تدر علينا غلة كبيرة، وكان ابي يقوم عليها، ويجني غلتها، وفي ذات مرة شغله عن الذهاب الى القرية شاغل، فقال: يا بني، اني قد شغلت عن الضيعة بما ترى، فاذهب اليها، وتول اليوم عني شانها، فخرجت اقصد ضيعتنا، وفيما انا في بعض الطريق، مررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت اصواتهم فيها، وهم يصلون، فلفت ذلك انتباهي, قال: فلما تاملتهم، اعجبتني صلاتهم، ورغبت في دينهم، وقلت: والله هذا خير من الذي نحن فيه .
-بالمناسبة، ما من انسان الى حد ما في الاعم الاغلب يغدو مؤمنا صادقا الا وله طلب قديم منذ نعومة اظفاره يتمنى ان يكون مؤمنا، ويتمنى ان يكون طائعا لله عز وجل، يبحث عن الحق بحثا مستمرا، وعنده رغبة جامحة، وصدق في طلب الحقيقة
فالانسان منطقي، لكن يحتاج الى لحظة صدق مع نفسه، سيدنا نعيم بن مسعود، جاء الى المدينة، ليحارب رسول الله، جاء مع الاحزاب، الذين حاصروا النبي عشرين يوما، وفي احدى الليالي فكر هذا الصحابي تفكيرا صافيا، فقال: لماذا انا مع هؤلاء؟ لماذا احارب هذا الرجل الصالح، الام يدعو؟ يدعو الى عبادة الله خالق الاكوان، واصحابه اناس طيبون، منصفون، عادلون ، لماذا احاربهم؟ فعلى الانسان ان يفكر، لماذا انا افعل هذا؟ لماذا ابتعد عن هذا؟ لما لا استجيب؟ وفي الحديث عن حذيفة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لا تكونوا امعة, تقولون: ان احسن الناس احسنا, وان ظلموا ظلمنا, ولكن وطنوا انفسكم ان احسن الناس ان تحسنوا, وان اساءوا فلا تظلموا))
[اخرجه الترمذي في سننه عن حذيفة]
تامل سلمان، وادار فكره- ثم قال: فو الله ما تركتهم، حتى غربت الشمس، ولم اذهب الى ضيعة ابي، ثم اني سالتهم، اين اصل هذا الدين؟ قالوا: في بلاد الشام، وسلمان يعيش في اصبهان، في بلاد الفرس، ولما اقبل الليل، عدت الى بيتنا، فتلقاني ابي يسالني عما صنعت؟ فقلت : يا ابت, اني مررت باناس يصلون في كنيسة لهم، فاعجبني ما رايت من دينهم، وما زلت عندهم حتى غربت الشمس، فذعر ابي مما صنعت، وقال: اي بني، ليس في ذلك الدين خير, -وهذا شان الاباء، وشان الذين عطلوا عقولهم، فقد الف ما هو مقيم عليه، ويرفض كل تجديد، والانسان العاقل لا تنطبق عليه الاية الكريمة:
﴿انا وجدنا اباءنا على امة وانا على اثارهم مهتدون﴾
( سورة الزخرف الاية: 22)
العاقل يقيم الامور، ويتفحص، ويتامل، ويزن بميزان العقل، وبميزان المنطق، وبميزان الفطرة .
بالمناسبة, هل تدرون من هو الجاهل؟ لعل اكثركم, يقول: الذي لا يعلم، لا، الذي لا يعلم اسمه امي، اما الجاهل فممتلئ معلومات، لكن كلها غلط، والذي لا يعلم, يقال له: امي، اما الذي يعلم مقولات كلها غير صحيحة، فهذا هو الجاهل، فتعريف الجهل: هو عدم مطابقة الكلام للواقع- .
قال:
((دينك يا بني، ودين ابائك خير منه، قلت: كلا والله، ان دينهم لخير من ديننا، فخاف ابي مما اقول، وخشي ان ارتد عن ديني، وحبسني بالبيت، ووضع قيدا في رجلي، -قيد الغنى، وقيد الوجاهة، وقيد التفوق في المجوسية، وقيد المحبة، والقيد الخامس قيد حديدي وضعه في رجله- خشية ان يرتد عن دينه))
سلمان من اولئك الباحثين عن الحقيقة :
قال:
((لما اتيحت لي الفرصة، بعثت الى النصارى, اقول لهم: اذا قدم عليكم ركب يريد الذهاب الى بلاد الشام، فاعلموني، فما هو الا قليل حتى قدم عليهم ركب متجه الى الشام، فاخبروني به، فاحتلت على قيدي حتى حللته، وخرجت معهم متخفيا، حتى بلغنا الشام .))
-لذلك قالوا: هناك اب انجبك، وهناك اب زوجك، وهناك اب دلك على الله، فالاب الذي انجبك، ينتهي فضله عند الموت، اي هو ساهم بايجادك، ساهم بانه جعلك انسانا، فلما جاء ملك الموت انتهى فضله، والاب الذي زوجك ينتهي فضله عليك بفراق زوجتك، اما الاب الذي دلك على الله، فهذا يمتد فضله الى ابد الابدين، لانه كان سببا في ادخالك الجنة، فلذلك هو يبحث عن رجل يدله على الله- .
قال:
((فلما نزلنا في الشام، قلت: من افضل رجل من اهل هذا الدين؟ قالوا: الاسقف راعي الكنيسة فجئته, فقلت: اني قد رغبت في النصرانية، واحببت ان الزمك واخدمك واتعلم منك واصلي معك، قال: ادخل، فدخلت عليه، وجعلت اخدمه، ثم ما لبثت ان عرفت ان الرجل رجل سوء، فقد كان يامر اتباعه بالصدقة، ويرغبهم بثوابها، فاذا اعطوه منها شيئا لينفقه في سبيل الله اكتنزه لنفسه، ولم يعط الفقراء والمساكين منها شيئا، حتى جمع سبع قلال من الذهب، -القلال جمع قلة، والقلة الجرة الكبيرة- قال: فابغضته بغضا شديدا لما رايته منه، ثم ما لبث ان مات، فاجتمعت النصارى لدفنه, وتعظيمه، وتابينه، فقلت لهم: ان صاحبكم كان رجل سوء، يامركم بالصدقة، ويرغبكم فيها، فاذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا، قالوا: من اين عرفت ذلك؟ قلت لهم: انا ادلكم على كنزه، قالوا: نعم دلنا عليه، فاريتهم موضعه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وفضة، فلما راوها، قالوا: والله لا ندفنه، ثم صلبوه ورجموه بالحجارة,))
-اعظم الاعمال اجراما ان ترفع مبادئ وشعارات، وان تفعل خلافها، ان تدعو الى شيء والا تاتمر به، ماذا قال احد الانبياء؟ قال تعالى:
﴿وما اريد ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه﴾
(سورة هود الاية: 88)
من الممكن ان يكون لانسان مظهر، لكن مخبره غير مظهره، هذه اول تجربة من تجارب سيدنا سلمان الفارسي- .
ثم انه لم يمض غير قليل حتى نصبوا رجلا اخر مكانه، فلزمته، قال: فما رايت رجلا ازهد منه في الدنيا، ولا ارغب منه في الاخرة، ولا اداب منه على العبادة ليلا ونهارا، فاحببته حبا جما، واقمت معه زمانا، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا سيدي الى من توصي بي، ومع من تنصحني ان اكون من بعدك، -لان الله عز وجل يصف اهل الدنيا، وقد فاتهم الايمان, قال تعالى:
﴿يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾
مع الرسول، اي انت بحاجة الى رفيق، الى انسان يعينك على امر دينك، انت بحاجة الى جماعة، الى مجتمع مسلم، يقوي فيك عزيمة الايمان، يبعدك عن مزالق الشيطان، يرغبك في الاخرة، لا تصاحب من لا ينهض بك الى الله حاله، ولا يدلك على الله مقاله- .
قال: اي بني، لا اعلم احدا على ما كنت عليه، الا رجلا بالموصل، هو فلان، لم يحرف، ولم يبدل, -المعنى: من هم اهل الضلال؟ الذين حرفوا وبدلوا- هو بالموصل فالحق به، فلما مات صاحبي، لحقت بالرجل، فلما قدمت عليه، قصصت عليه خبري, وقلت له: ان فلانا، اوصاني عند موته، ان الحق بك، واخبرني انك مستمسك بما كان عليه من الحق، فقال: اقم عندي ، فاقمت عنده، فوجدته على خير حال، ثم انه لم يلبث ان مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا سيدي، لقد جاءك من امر الله ما ترى، وانت تعلم من امري ما تعلم، فالى من توصي بي، ومن تامرني باللحاق به؟ فقال: اي بني، والله ما اعلم ان رجلا على مثل ما كنا عليه، الا رجلا بنصيبين هو فلان فالحق به, -معناها اهل الحق قلة، قال تعالى:
﴿وما يتبع اكثرهم الا ظنا ان الظن لا يغني من الحق شيئا
فلما غيب الرجل في لحده، لحقت بصاحب نصيبين، واخبرته خبري، وما امرني به صاحبي, فقال لي: اقم عندنا، فاقمت عنده فوجدته على ما كان عليه صاحباه من الخير, فو الله ما لبث ان نزل به الموت، فلما حضرته الوفاة, قلت له: لقد عرفت من امري ما عرفت، فالى من توصي بي؟ قال: يا بني, والله اني لا اعلم احدا بقي على امرنا، الا رجلا بعموريا، هو فلان، فالحق به، فلحقت به، واخبرته خبري، فقال سلمان: كنت اصل اليهم في اواخر حياتهم كلهم، فقال: اقم عندي، فاقمت عند رجل، كان والله على هدي اصحابه، وقد اقتنيت عنده بقرات وغنيمة ، ثم ما لبث ان نزل به ما نزل من اصحابه من امر الله، فلما حضرته الوفاة، قلت له: انك تعلم من امري ما تعلم فالى من توصي بي، وما تامرني ان افعل؟ فقال: يا بني، والله ما اعلم ان هناك احدا من الناس بقي على ظهر الارض، مستمسكا بما كنا عليه، ولكنه قد اظل واقترب زمان يخرج فيه بارض العرب نبي يبعث بدين ابراهيم، ثم يهاجر من ارضه الى ارض ذات نخل بين حرتين، وله علامات لا تخفى، هو ياكل الهدية، ولا ياكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فان استطعت ان تلحق بتلك البلاد فافعل -فصارت تنقلاته كلها رحلة في البحث عن الحقيقة .
المكان الفلاني، مكان جميل جدا، الفندق الفلاني، المسبح الفلاني، الملعب الفلاني، المقصف الفلاني، هؤلاء اهل الدنيا, اما اهل الاخرة، العالم الفلاني، المربي الفلاني، المرشد الفلاني، ينتقل من عالم الى عالم، ومن رجل الى رجل، فلعله يتعلم منه امر الدين- قال: ثم وافاه الاجل))
ما هو الظرف الذي عاشه سلمان حتى وصل الى يثرب ؟
قال:
((فمكثت بعده بعموريا زمنا، الى ان مر بنا نفر من تجار العرب، من قبيلة كلب، فقلت لهم: ان حملتموني معكم الى ارض العرب، اعطيتكم بقراتي كلها، وغنيمتي هذه، فقالوا: نعم نحملك، فاعطيتهم اياها، وحملوني معهم، حتى اذا بلغنا وادي القرى غدروا بي، وباعوني لرجل يهودي، عبدا رقيقا، واخذوا بقراتي وغنيمتي، وباعوني بيع الارقاء، واصبحت عبدا عند هذا اليهودي . ))
-يستوقفنا هنا موقف، يعني ان الانسان احيانا قد يضعه الله عز وجل في ظروف صعبة ، يشتغل بمحل صاحبه قاس جدا، او يكون موظفا، يتعين في قرية نائية، خشونة في العيش، وشدة ، فالله عز وجل هو الذي يعلم، وربما كان هذا التعيين بهذه القرية النائية خلوة لا يمكن ان تحققها في المدينة، وربما كان صاحب هذا المحل القاسي دافعا لك الى الله، لا تعرف, قال تعالى:
﴿والله يعلم وانتم لا تعلمون﴾
( سورة البقرة الاية: 216)
سيدنا سلمان الفارسي صحابي جليل، يباع بيع الارقاء، لرجل يهودي, وكان قاسيا جدا، وسوف ترون معي بعد قليل، من قسوته الشيء الكثير، هو يريد الله عز وجل، لكن العبرة في النهاية، العبرة في خريف العمر، العبرة في النتائج- .
قال: فالتحقت بخدمته، ثم ما لبث ان زاره ابن عم له من بني قريظة، فاشتراني منه، بيع ليهودي اخر، -وسلمان يبحث عن ماذا؟ عن الحقيقة .
ايها الاخوة، تلك الحقيقة تستحق كل هذا البحث، وتستحق كل هذا الجهد، تستحق كل هذه التنقلات، لانك ان وصلت اليها وصلت الى كل شيء، وان فزت بها، فزت بكل شيء، وان نقلتك الحقيقة الى الله عز وجل، ما فقدت شيئا، ولا خسرت شيئا، وان اكبر خسارة تخسرها، ان تخسر نفسك التي بين جنبيك، وان اكبر نجاح تنجحه، ان تزكيها وان تعرفها بربها، فهو يبحث عن الحقيقة، ويطلب الله عز وجل، والله لا يخطئ، بل هو حكيم في ذلك، وهذا قدر الله عز وجل- ، قال: فاشتراني منه، ونقلني معه الى يثرب، فرايت النخل .
-بالمناسبة, النخل الذي في المدينة الان هو النخل نفسه الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لان النخلة من الاشجار المعمرة، التي تعمر اكثر من ستة الاف عام، فالتمر الذي اكله النبي من نخلات المدينة هي النخلات نفسها الموجودة الان، اذا اكلت الان تمرا من نخل المدينة، فاعتقد جازما انه النخل نفسه الذي اكل منه النبي عليه الصلاة والسلام، ولما كنت في الحج السابق تالمت اشد الالم، لان هذا النخل اهمل اهمالا شديدا، واكثره يبس، طبعا العمارات والاسواق، والمحلات التجارية والطرقات، فهذه المنشات قضت على بساتين النخل، وهذه البساتين كان ينبغي ان تبقى كما كانت الى الان، فترى حقولا من النخل كلها يابسة، قد اهملت- .
قال: رايت النخل الذي ذكره لي صاحبي بعموريا، وعرفت المدينة بالوصف الذي نعتها به، فاقمت بها معه)) اطلب من الله ان يهديك فقط، وسلم له يجمعك مع فلان، وينقلك الى فلان، يمكن ان يكون الانسان ساكنا ومقيم بحلب فرضا، وجاءت خدمته الالزامية في الشام، فاستعمل الوسائط حتى يبقى في حلب ما امكن، فاذا به في الشام يلتقي مع اهل الحق، فانخرط بينهم، واكرمه الله بالهدى، اذا: هذا التعسير وقتها كان لصالحك .
حدثني رجل, فقال: كنت في امريكا، ودخلت احد مراكزها الاسلامية، فرايت رجلا من هيئته, ومن شكله, يعد من الطبقة الاولى في المجتمع، وهو يغسل المسجد بهمة ما بعدها همة، فلما سالت عنه, قالوا: هذا رجل يحتل مركزا رفيع جدا في بلده، لكن كلف بمهمة في الخليج، فنزل في الخليج في مدينة مع رجل مسلم حقا، ومؤمن حقا، فدله على الله، واسلم على يديه، فلما عاد الى بلده، وقد اسلم، فلزم المسجد، فهذه المهمة التي كلف بها في الخليج، هذه بعلم الله عزوجل خير له، والدليل:
﴿ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم﴾
( سورة الانفال الاية: 23)
ربنا عز وجل قد يجمعك مع شخص يوما من الدهر، او تذهب الى مكان، فتلتقي مع انسان مؤمن، وينشا بينكما حديث، فتتعلق به، وتكون هدايتك على يديه، وانت لا تدري، فاطلب من الله الهداية وانتظر، كلام دقيق اقوله لكم: ادع الله واضرع اليه، فما دمت صادقا في طلب الحقيقة يجمعك مع الاشخاص الذين يؤهلونك للحق، هذا سيدنا سلمان نقله الله من يهودي الى يهودي، حتى بلغوا الخمسة، والسادس يهودي اشتراه، والسابع باعه الى ابن عمه، والسابع من بني قريظة، ساكن بالمدينة، والاحداث تجري بقدر .
ما الخبر الذي سمعه سلمان من خلال حديث سيده في العمل مع ابن عم له ؟
قال:
((كان النبي حينئذ يدعو قومه في مكة، لكني لم اسمع له بذكر، لانشغالي بما يوجبه علي الرق، -فهو عبد رقيق، كل وقته ملك سيده- ثم ما لبث ان هاجر النبي عليه الصلاة والسلام الى يثرب، وهو لا يدري، فو الله اني في راس نخلة لسيدي، اعمل فيها بعض العمل، وسيدي جالس تحتها، اذ اقبل عليه ابن عم له, وقال له: قاتل الله بني قيلة، قيلة الاوس والخزرج، والله انهم الان لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم اليوم من مكة، يزعم انه نبي، فما ان سمعت مقالته حتى مسني ما يشبه الحمى، واضطربت اضطرابا شديدا، حتى خشيت ان اسقط على سيدي من شدة الفرح، وبادرت الى النزول من النخلة، وجعلت اقول للرجل: ماذا تقول؟ اعد علي الخبر ، فغضب سيدي، ولكمني لكمة شديدة، وقال لي: مالك ولهذا؟ عد الى ما كنت عليه من عملك))
قد تقرؤون في السيرة ان النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، وهو سيد الانبياء، وسيد الرسل، المعصوم، ذهب الى الطائف يدعو قومه، وقد ورد في بعض الروايات انهم كذبوه، وانهم سخروا منه، وفي رواية انهم ضربوه، فقد يسال سائل: لماذا ضرب النبي عليه الصلاة والسلام؟ لولا ان النبي بشر، يجري عليه ما يجري على البشر، لما كان سيد البشر .
وهناك معنى اخر، هو ان النبي عليه الصلاة والسلام ضرب في الطائف من اجل ان المؤمن اذا تلقى لكمة لانه امن بالله عز وجل، ينبغي ان يكون له في رسول الله اسوة حسنة، والانسان بسبب اتجاهه الديني قد يتحمل متاعب كثيرة جدا، يتحمل لكمات وضربات، ويحاصر احيانا، ويقاطع، ويضيق عليه في رزقه، وفي بيته، هذا جهاد في سبيل الله، فالنبي قدوة لنا، تحمل ما تحمل من اجلنا، حتى اذا مررت بظرف صعب يكون لك في النبي اسوة حسنة .
اليكم قصة اسلام سلمان الفارسي :
قال:
((ولما كان في المساء اخذت شيئا من تمر كنت جمعته، وتوجهت به حيث ينزل الرسول، فدخلت عليه، وقلت له: انه قد بلغني انك رجل صالح, ومعك اصحاب لك غرباء ذو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرايتكم احق به من غيركم، ثم قربته اليه، -اي لياكل- فقال لاصحابه: كلوا، وامسك يده، فلم ياكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة، ما اكل من الصدقة، -ويروى ان سيدنا رسول الله تاخر عليه الوحي مرة، فقال تعليم لنا:
((لعلها يا عائشة، تمرة اكلتها من تمر الصدقة))
لبيان شدة ورعه صلى الله عليه وسلم- .
((قلت في نفسي: والله هذه واحدة، ثم انصرفت، واخذت اجمع بعض التمر، فلما تحول النبي من قباء الى المدينة جئته, فقلت له: اني رايتك لا تاكل الصدقة، وهذه هدية لك، اكرمتك بها ، فاكل منها، وامر اصحابه فاكلوا معه، قال: وهذه الثانية, ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد، -وهو البقيع نفسه، ولم يكن يومئذ مدفنا، اسمه بقيع الغرقد، الى جوار الحرم النبوي- قال: حيث كان يواري احد اصحابه، فرايته جالسا وعليه شملتان، فسلمت عليه، ثم استدرت انظر الى ظهره لعلي ارى الخاتم، الذي وصفه لي صاحبي في عمورية، فلما راني النبي انظر الى ظهره، عرف غرضي، فالقى رداءه عن ظهره، فنظرت فرايت الخاتم، هكذا يروى، فعرفته فانكببت عليه اقبله وابكي .))
-فالقصد انه وصل الى بيت القصيد- فقال عليه الصلاة والسلام: ما خبرك؟ -ما هي قصتك يا ابني؟- فقصصت عليه قصتي من اولها الى اخرها سر النبي صلى الله عليه وسلم سرورا بالغا .
-ايها الاخوة، وهذه علامة ايمان فيكم، اذا كان لك قريب، او صاحب، او اخ، او ابن اخ ، ورايته اهتدى، وصلى، واقبل معك، ولزم مجالس العلم، فاذا لم تفرح فرح لا يعدله فرح ففي ايمانك خلل، فيجب ان تفرح، لان النبي فرح فرحا كبيرا بسلمان، والدليل انه سره ان يسمع اصحابه هذه القصة- ثم قال:
((فامرني ان اسمعهم اياها، فقصها على مسامعهم، فاعجبوا منه اشد العجب، وسروا بها اشد السرور))
ما هي العبرة من قصة سلمان الفارسي ؟
ايها الاخوة, ولسيدنا سلمان الفارسي قصص طويلة جدا، لكن هذه بدايته، فنحن لا نقول لكم: اذهبوا الى اصبهان، ولا الى تركيا، ولا الى نصيبين، ولا الى عمورية، ابق في بلدك، والزم مجالس العلم، واعمل اعمالا صالحة، والقران بين ايديكم، والسنة بين ايديكم، والاعمال الصالحة متاحة امامكم، ومجالس العلم موفورة عندكم، فكم بذل سلمان من الجهد، وكم تحمل من المشاق حتى توصل الى الحقيقة؟ .
هذه قصة سيدنا سلمان الفارسي، في البحث عن الحقيقة، يعني كل ظروفه كانت تحول بينه وبين الهدى، ومع ذلك تجاوز كل العقبات، ووصل الى النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه القصة، يجب ان تكون نبراسا لنا في حياتنا، ابحث عن الحقيقة، فان ادركتها ووصلت اليها فقد وصلت الى كل شيء، وسعدت الى الابد، وان غابت عنك الحقيقة، فما وصلت الى شيء، وما فزت بشيء، وكان الخسار والبوار، والعياذ بالله .
- ما هو لقب الصحابي سلمان الفارسي
- لقب سلمان الفارسي
- ابو سلمان الفارسي لماذا اسمه
- لقب ابن سلمان
- كنية سلمان الفارسي
- فوائد قصة سلمان الفارسي
- بماذا لقب سلمان الفارسي رضي الله عنه
- بماذا لقب سلمان الفارسي
- اجمل لقب في الاسلام
- هل سلمان الفارسي صحابي