افضل مواضيع جميلة بالصور

في حال عدم سدادي للدين

قمت بادانة شخص اعرفه بقيمة كبيرة من المال (من باب تفريج كربة عن مسلم)، وكان الاولى ان نكتب وثيقة تثبت الاستدانة كما امر الله في كتابه، لكننا لم نفعل بداعي الثقة من جهة، ولعاجلية الامر؛ فقد احتاج المبلغ ليومه، وكان بعيدا جدا في مدينة اخرى، والواقع ان وجود الوثيقة من عدمه ليس هو مربط السؤال، بل: “ما هو الاولى: متابعة حقي ام العفو؟” وهاكم تفصيل القصة: بلغ اجل السداد منذ اشهر، ولم يتصل الشخص بي، ولم يرد على اتصالاتي، ثم انقطعت صلتي به تماما، فلا ارقام هاتفه تعمل، ولا عنوانه البريدي يستقبل الرسائل، علما ان سبب استدانته للمال هو مشاكل خاصة بسداد الكراء، ويبدو انه تم طرده، وقد سالت عن ارقام هاتفه فعلمت انها قطعت لانه لم يدفع الاشتراكات، ويبدو ان مشاكله المالية لم تنته، كما ان هناك احتمالا انه قطع اتصالاته فقط كي يتخلف عن السداد. الان لا املك اي وسيلة للاتصال به، وهو كان يعيش في مدينة اخرى بعيدة جدا عن مدينتي، وليس لي وان بحثت عنه فرصة في ايجاده بنفسي، ولم يبق لي الا طريق واحد هو ان ابلغ الشرطة فتتحرى عنه، ولها ان تجلبه اينما كان لتسمع اقواله. لكنه ربما انكر وفي هذه الحال ليس لدي حق عليه من وجهة نظر القضاء، لكنه ربما فعلها مع غيري من قبل، وبلاغي يزيد في ادانته او لعله (على حسب ظني فيه) ليس كاذبا، وربما اعترف بالقرض، وربما وجدنا وسيلة لكي يرده لي ولو بعد زمن. سؤالي هو: في ظل هذه الظروف ما هو الاولى: متابعته ام مسامحته؟ واذا كان الاولى مسامحته، فهل يجزئ عدم متابعته وستره وان لم يطب القلب تجاهه بالعفو من هول ما كان منه، والدعاء عليه باصابته بمثل ما اصابني في الدنيا مع العفو عنه يوم القيامة؟ جزاكم الله خيرا.
الاجابة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى اله وصحبه، اما بعد:

فان الاصل استحباب ابراء المعسر من دينه، والعفو عن الحق، فالشرع قد مضت ادلته على الندب الى العفو في حقوق الخلق مطلقا؛ قال ابن تيمية: فان الله لم يوجب على من له عند اخيه المسلم المؤمن مظلمة من دم او مال او عرض ان يستوفي ذلك، بل لم يذكر حقوق الادميين في القران الا ندب فيها الى العفو. اه.

ويرى بعض العلماء عدم تفضيل العفو في بعض الاحوال – كما سياتي ذكره – . وراجع في فضل ابراء المعسر والعفو الفتوى رقم: 124262، والفتوى رقم: 27841.

لكن العفو وابراء المعسر ليس بفرض، فلك ان تطالب بدينك، وان تسعى في تحصيله، لكن ان علمت ان المدين معسر لا يملك وفاء دينه فالواجب عليك شرعا انظاره، ولا يجوز لك ملاحقته؛ قال ابن قدامة: وان كان الدين حالا، والغريم معسرا، لم تجز مطالبته، لقول الله تعالى: {وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة} [البقرة: 280] ولا يملك حبسه ولا ملازمته؛ لانه دين لا يملك المطالبة به، فلم يملك به ذلك. اه. من الكافي.

ولتتنبه الى انه ليس لك اساءة الظن بالمدين دون موجب، كان تتهمه بانه يتهرب منك او انه ماطل في ديون من قبل، ونحو ذلك من الظنون السيئة، وانما انت بين خيرتين: اما ان تعفو عنه لله، واما ان تسعى في الوصول الى حقك.

والعفو ليس عند المقدرة على اخذ الحق فحسب، بل يكون كذلك عند العجز عنه؛ جاء في كتاب بريقة محمودية: (فان لم يقدر على اخذ الحق) لعتو الظالم ورياسته، وكون المظلوم من اخساء الناس (فله التاخير الى يوم القيامة) هذا الاطلاق وان سلم بالنسبة الى الحقوق البدنية والعرضية، لكن بالنسبة الى المالية لا يخلو عن خفاء؛ لانه يقتضي تفصيلا، وفي صلح النوازل: لو مات الطالب والمطلوب جاحد فالاجر له في الاخرة سواء استحلفه او لم يستحلفه، ولو قضى ورثته برئ من الدين، وفي بعض الفتاوى: ان امكن استيفاء بالقاضي او الوالي فاهمل واخر الى الاخرة، فينقل الى الورثة، والا فلا، بل للطالب، وقيل: ثواب وزر الاذى في عدم الاعطاء للطالب وثواب نفس المال للورثة.

(و) له (العفو وهو افضل) من التاخير الى الاخرة؛ قال في الاحياء: اخذ الحق بلا زيادة ولا نقصان هو العدل، والاحسان بالصدقة والعفو هو افضل، والظلم بما لا تستحقه هو الجور، وهو اختيار الاراذل، والفضل: احسان الصديقين، والعدل: منتهى درجات الصالحين، وسيشير اليه المصنف (قال الله تعالى: {وان تعفوا اقرب للتقوى} [البقرة: 237] والتقوى: جماع كل خير. اي: اقرب الى الله تعالى لاجل التقوى، ولا تنسوا الفضل -كالعفو والاحسان- بينكم، وقال الله تعالى: {خذ العفو} [الاعراف: 199].

قال القاضي عياض في شفائه: واما العفو فهو ترك المؤاخذة، وهذا مما ادب الله تعالى به نبيه محمدا – صلى الله تعالى عليه وسلم -، فقال: « {خذ العفو وامر بالعرف} [الاعراف: 199] وروي: «ان النبي – صلى الله تعالى عليه وسلم – لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم احد شق ذلك على اصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: اني لم ابعث لعانا، ولكن بعثت داعيا ورحمة؛ اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون» وقال الله تعالى: {والعافين عن الناس} [ال عمران: 134] اخر الاية {والله يحب المحسنين} [ال عمران: 134] عن تفسير العيون: «قال – صلى الله تعالى عليه وسلم – ينادي مناد يوم القيامة: اين الذين كانت اجورهم على الله تعالى؟ فلا يقوم الا من عفا» . وقال الله تعالى {وليعفوا وليصفحوا} [النور: 22] اي: ليعرضوا عن ذنوبهم، وهو في معنى العفو فيدل على العفو ولو التزاما {الا تحبون ان يغفر الله لكم} [النور: 22] قيل: اي: اذا عفوتم.

(وما زاد الله عبدا بعفو) اي: بسبب عفوه (الا عزا) في الدنيا؛ فان من عرف بالعفو والصفح عظيم في القلوب او في الاخرة بان يعظم ثوابه او فيهما. وجه الاستدلال بالحديث: ان العفو سبب لعزة الدارين، ولا يخفى ما فيه من الفضل.

(وان قدر) على اخذه (فله العفو ايضا) كما اذا لم يقدر (وهذا افضل من العفو الاول) اي: العفو مع العجز وعدم القدرة لعجز ذلك عن الاخذ حالا، وانه اشق على النفس (و) من (الانتصار اي استيفاء حقه من غير زيادة عليه وهو) اي: الانتصار (العدل المفضول)، وقد عرفت قريبا ما نقل عن الاحياء ان العدل منتهى درجات الصالحين، والفضل احسان الصديقين. هذا اذا خلا عن العوارض، وطبعه ان يكون كذلك (لكن قد يكون) العدل (افضل من العفو بعارض) موجب لذلك (مثل كون العفو سببا لتكثير ظلمه) لتوهمه ان عدم الانتقام منه للعجز (و) كون (الانتصار) سببا (لتقليله او هدمه) اذا كان الحق قصاصا مثلا (او نحو ذلك) من العوارض مثل كونه عبرة للغير. (وان زاد) على حقه (فجور وظلم). اه. باختصار.

واما الدعاء على المدين: فلا يجوز الا اذا ظلمك وماطلك مع القدرة على الوفاء، ولا يجتمع العفو عن الظالم مع الدعاء عليه ابدا، فمن دعا على ظالمه فقد فاته مقام العفو؛ جاء في الاداب الشرعية: وقال يحيى بن نعيم: لما خرج ابو عبد الله احمد بن حنبل الى المعتصم يوم ضرب قال له العون الموكل به: ادع على ظالمك. قال: ليس بصابر من دعا على ظالمه. يعني الامام احمد: ان المظلوم اذا دعا على من ظلمه فقد انتصر، كما رواه الترمذي من رواية ابي حمزة عن ابراهيم عن الاسود عن عائشة مرفوعا: «من دعا على من ظلمه فقد انتصر» قال الترمذي: حديث لا نعرفه الا من حديث ابي حمزة وهو ميمون الاعور، ضعفوه لا سيما فيما رواه عن ابراهيم النخعي، واذا انتصر فقد استوفى حقه وفاته الدرجة العليا، قال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل} [الشورى: 41] الى قوله {ولمن صبر وغفر ان ذلك لمن عزم الامور} [الشورى: 43] .اه.

والله اعلم.

السابق
ابيات في الاعتذار
التالي
موضوع تعبير عن الوقت بالعناصر