‘اسطورة اوديب’ (Mythe ddipe) واحدة من اعرق الاساطير اليونانية واشهرها، وجد فيها مبدعون كثر، في الغرب كما في الشرق، قديما وحديثا، مصدرا ثرا لابداعاتهم؛ فراحوا يستلهمونها، ويستثمرون احداثها، ويكتبون على منوالها قصصا واعمالا درامية وغيرها. ترى ما مضمون هذه الاسطورة؟ وما حكايتها؟ وما اصلها؟
تروي المظان القديمة، التي نقلت الينا احداث هذه الاسطورة، ان ملك طيبة، واسمه لايوس، طرد منها تحت الحاح شعبها الرافض له، فقصد ببلوبس؛ ملك بلدة طنطالة، طالبا اللجوء والاحتماء داخل اسوار مملكته من مطارديه المتعقبين له؛ فاستجاب الملك لطلبه، واكرم ضيافته، واحسن اليه ايما احسان. ولكن، رغم ذلك كله، اقدم لايوس على اختطاف ابن ببلوبس المدلل ‘كريسبس’؛ وكانه بفعلته تلك يقابل الاحسان بالاساءة.. الخير بالشر!
وبعد محاولات متتالية، تمكن لايوس من استعادة سلطانه السابق؛ فتربع مجددا على عرش طيبة، وتزوج من الاميرة الحسناء ‘جوكاست’، وقضى برفقتها قسطا سعيدا من حياته، لا ينقصه فيه شيء سوى افتقاد الولد؛ بسبب العقم.
وقد حاول لايوس معرفة علة هذا العقم، بالالتجاء الى معبد دلفي، لاستشارة وحي الاله ابولو، الذي اخبر قاصده بما قدر عليه من لعنة مصدرها ما اقدم عليه من اساءة تجاه احسان ببلوبس. وكان فحوى هذه اللعنة القاسية ان لايوس سيرزق، عما قريب، بالولد الذي طالما انتظره وتشوف اليه، غير ان هذا الولد سيكون، فيما بعد، مصدر هم وخطورة تقلق سعادة الاب؛ ذلك بانه سيقتل اباه، ويعمد الى تزوج امه!
وبمجرد تلقي لايوس هذا الخبر المشؤوم، الذي كان وقعه عليه كالصاعقة، انبرى يفكر في وسيلة تخلصه من هذا الاتي ومن هذه اللعنة. وبعد ترو وتفكير طويلين، اثر الملك البقاء في وضع العقم على انجاب الولد. غير ان قضاء الالهة ماض، وامرها نافذ لا راد له! اذ ازدان ذات يوم فراش الملك والملكة بهذا الولد المنحوس؛ فاخذت هموم الاب تزداد وتحتد، حتى بلغت درجة من الاضطراب والتهمام غير متصورة. وراى لايوس ان اوحد سبيل وانسبه لتلافي تحقق وحي ابولو هو وضع نهاية لحياة الوليد، وهو بعد رضيع، قبل ان يشتد عوده، ويقوى على قتله؛ فاسلمه الى راع من رعاته، لالقائه على قنة جبل ‘كثيرون’؛ حتى تاكله السباع والضباع، وينتهي بالتالي خطره بالمرة. ولكن ما ان ذهب به الراعي، حتى استثار عاطفته وشفقته؛ ففضل طرحه في منبسط من الارض عار، ليكون مصيره واحدا من اثنين: الموت او النجاة/ الحياة.
وبينما الطفل في ذلك العراء يبكي من البرد والجوع، اهتدى اليه راع من بلدة اخرى، هي ‘كورنثيا’، وهو في طريقه الى البحث عن احدى نعاجه التائهة؛ فتاثر لحاله البئيسة، واشفق عليه، وقرر ان ياخذه الى ملك البلدة ‘بوليب’ وملكتها ‘ميروب’، وكانا معا عاقرين. وبمجرد ان تلقيا هذا الوليد، فرحا به فرحا لا يوصف، واحتضناه، وتبنياه، وسمياه ‘اوديب’، ومعناها بلغة بلدتهما ‘متورم القدمين’. وقد نشا الولد في البلاط الملكي، وترعرع بين جنباته، وعاش في بحبوحة ونعيم وبذخ، وهو يجهل، تماما، اصله الحقيقي ونسبه.
وذات يوم، وبينما اوديب جالس يتبادل اطراف الكلام مع بعض شبان كورنثيا، عيره احدهم باصله المجهول؛ فثارت ثائرته، وحاول معرفة الحقيقة ممن كان يخالها امه (ميروب)، بيد انها ابدت جهلا بهذا الذي يستفسر عنه ابنها المتبنى. وما كان منه الا ان قصد دلفي، ليستشير وحي ابولو؛ فاخبره كهنته بتلك اللعنة المتوارثة في ال لايوس، وبانه سيقتل اباه ويتزوج امه. ولكنهم لم يخبروه عن والديه الحقيقيين. وكان اوديب يعتقد انهما يقيمان بكورنثيا، فاتخذ قرار مغادرتها الى الابد، تلافيا لحصول ما قدر عليه. فهو، اذا، حاول الفرار من قضاء الالهة، كما حاول ابوه، قبلا، التخلص منه دون جدوى!
خرج اوديب من كورنثيا هائما على وجهه، لم يرسم بين عينيه اي هدف/ مكان يقصده. وبينما هو يسير في طريق ضيقة، فوجئ بعربة تعترض طريقه، وقائدها يطلب اليه، بلهجة امرة، ان ينتحي جانبا فاسحا المجال لمرور المركبة بمن فيها. الا ان اوديب الشريد ابى ذلك. فحدث عراك بين راكبي العربة واوديب، نتج عنه قتله صاحب العربة وفرار رفاقه. وتابع اوديب طريقه، وكانت تقوده الى طيبة دون ان يعرف وجهته تلك، ودون ان يعلم ان المقتول، منذ حين، انما هو ابوه. وهو، بذلك، قد نفذ، من حيث لا يدري، الشق الاول من قضاء الالهة وقدرها القاسي عليه!
ولما دنا اوديب من طيبة، انتهي الى علمه نبا وجود خطر محدق يهدد امن اهالي البلدة، ويعكر صفو حياتهم. ومصدر هذا الخطر وحش يقال له ‘ابو الهول’ جاء الى طيبة، وربض عند اسوارها فوق صخرة عظيمة عالية، يتربص بكل من مر به، ليساله عن حل لغز محير؛ فان افلح في الجواب صرع ابا الهول، وان لم يحله صرعه ابو الهول. وقد اخبر اوديب ان هذا الوحش الضاري وضع حدا لحياة العديد من ساكنة طيبة، لعجزهم عن فك شفرة لغز ابي الهول.
وامام تزايد خطر ابي الهول، وعلم طيبة بمقتل ملكها، اعلنت ان من يخلصها من ذلك الوحش القاتل جزاؤه تولي عرش البلدة، والتزوج بالملكة التي ترملت. ولما بلغ هذا الاعلان اوديب، تحمس للقاء ابي الهول وتشجع، واضعا نصب عينيه احد امرين .. اما ان يصرع فيهنا وينجو من نفاذ قضاء الالهة فيه، واما ان يصرع ابا الهول؛ فينال الملك والملكة معا، ويستقر بوصوله الى شاطئ الامان؛ كما يعتقد. ويعقد اوديب العزم على تلك المواجهة الحاسمة المفصلية في حياته؛ فيتجه نحو ابي الهول، الذي بادر بالقاء لغزه المعتاد عليه، ونصه: ‘ما هو الحيوان الذي يسير في الصباح على اربع، وفي الظهيرة على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟’، فيجيبه المسؤول، بسرعة ودون تردد، بانه ‘الانسان’. ثم يستمر في تفسير اجابته وبيانها بتفصيل؛ وذلك بكون الانسان، في طفولته، يحبو على اربع (على اليدين والرجلين)، وحين يشب ينتصب فيسير على اثنتين فقط (على الرجلين)، وعندما يشيخ ويهرم يسير على ثلاث (على الرجلين مستعينا بعكاز). وما ان ينتهي اوديب من جوابه هذا، حتى يجن ابو الهول، ويلقي بنفسه من اعلى الصخرة، ليتحول الى جثة هامدة، معلنا انتصار اوديب وظفره بالتالي بالسلطان وبجوكاست.
وبمجرد وصول نبا مصرع ابي الهول، على يد اوديب، الى طيبة، سارع اهاليها الى تنصيب البطل ملكا عليهم، وتزويجه ارملة ملكهم، التي هي امه، دون ان يدري هو ودون ان تدري هي كذلك حقيقة القرابة بينهما. وقد قبل اوديب، بفرح غامر، ذلك كله، معتقدا انه بلغ بر الامان، ونجا من نفاذ نبوءة ابولو عليه. والواقع غير ذلك! فهو، بهذا، قد نفذ الشق الثاني من تلك النبوءة، بعدما نفذ شقها الاول، بقتل سائق العربة عند مفترق طرق قرب دلفي.
عاش اوديب مع جوكاست اياما مليئة بالسعادة، وانسل منها اربعة اطفال: ابنين (اتيوكل وبولينيس)، وبنتين (اونتيجون واسمين). وحكم طيبة واهلها بالعدل، زمنا، الى ان ياتي ذلك اليوم الذي تمتحن فيه البلدة بوباء خطير، هو الطاعون، الذي حصد ارواح المئات بلا تمييز، ودون ان يعرف احد سببه! وامام تزايد اعداد الضحايا، كل يوم، وتوالي صلوات الناس، واستغاثاتهم بمليكهم، دون جدوى، قرر الملك اوديب ارسال مبعوث الى معبد دلفي ليستشير وحي الالهة، وليلتمس العون والحل والمخرج. ويعود المرسول حاملا معه جواب ابولو، الذي اخبره عبر وساطة كهان المعبد بانه لا سبيل الى ارتفاع ذلك الوباء عن البلدة حتى يثار اهلوها لملكهم لايوس من قاتله. واعلن اوديب، امام الملا، بصراحة وبصرامة، انه اول الباحثين عن ذلك القاتل الخسيس، داعيا شعبه جميعه الى ان يظاهره في هذا المسعى المصيري بالنسبة الى حياة طيبة واهاليها.
وبعد تحر كثير، وبحث مستفيض، انكشفت الحقيقة لاوديب اولا، وامام الجميع ثانيا .. انه القاتل والاثم والمجرم .. انه من قتل اباه، وتزوج امه، وسبب، ما سبب، لطيبة من كارثة مبيدة! وعندئد، ادرك اوديب، ومعه جوكاست، انه لا راد لحكم القضاء والقدر! وامام بشاعة الصورة، وانكشاف الحقيقة المرة كاملة لساكنة طيبة، انتحرت جوكاست شنقا، على حين فقا اوديب عينيه وهام في الارض تائها تصحبه ابنته المخلصة ‘اونتيغون’ (Antigone) .
وعن اصل هذه الاسطورة المثيرة ومصدرها الاساس، يقول د. مصطفى عبد الله، في كتابه القيم ‘اسطورة اوديب في المسرح المعاصر’ (1983)، الذي كان مستندنا الاساس في تكثيف محتوى الاسطورة في مقالنا هذا: ‘اذا بحثنا عن اصل اسطورة اوديب، فسنجد اشارة اليها في ‘الاوديسة’ لهوميروس، في نشيدها الحادي عشر’. ويضيف الناقد المصري نفسه ان هذه الملحمة الاغريقية العريقة احتفلت بتلك الاسطورة من جانب الام اكثر مقارنة باحتفالها بها من جانب اوديب؛ اذ تجرم جوكاست التي قبلت الاقتران بهذا الاخير على سبيل الزواج، ولا تجرم الابن الذي وافق على تزوج امه الحقيقية، عن غير علم طبعا، كما ذكرنا سابقا. ويؤكد مواطنه المرحوم عز الدين اسماعيل ان اول من ذكر هذه الاسطورة، وعمل على نشر خبرها، هو المؤرخ اليوناني الاشهر ‘هيرودوتس’؛ صاحب كتاب ‘التواريخ’، الذي يرجع اليه الفضل في تسجيل ونقل وحفظ الكثير من الاحداث والوقائع والحروب التي دارت رحاها، في القرن السادس قبل الميلاد، بين الاغارقة انفسهم، او بينهم وبين الشعوب الاخرى المتاخمة لهم، من جميع الجهات.
‘ كاتب من المغرب
القدس العربي
- اغنية صفو الدي على الدية
- مكان كتابة اسطورة اوديب