افضل مواضيع جميلة بالصور

الغزو الفكري بحث

 

الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، واشهد ان سيدنا وحبيبنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله بلغ الرسالة وادى الامانة وجاهد في الله حق جهاده ، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، فصل اللهم عليه وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .

اما بعد : فالغزو الفكري اسلوب من اساليب الغزاة، وهو مكمل لاساليب الغزو التقليدي الحربي حينا، وبديل عنها او عن بعضها حينا اخر .

فالغزو الفكري يعمل على اذابة الشعوب ، وانسلاخها من عقائدها، ومذاهبها، وحضارتها لتصبح مسخا شائها تابعا لغيرها .

فهذا الغزو كان ويكون بوسائل غير عسكرية اتخذها الغزاة الصليبيون لازالة مظاهر الحياة الاسلامية في المجتمعات المسلمة وصرف المسلمين عن التمسك بالاسلام ، وما يتعلق بالعقيدة ، وما يتصل بها من افكار وتقاليد وانماط سلوك .

فاستخدم الصليبيون في غزو المسلمين فكريا : الفكرة، والمعلومة، والبرنامج، والمنهج في محاولة لتحطيم مقومات الامة الاسلامية .

فالصليبيون النصارى يعلمون ان العقيدة والفكرة الاسلامية الصحيحة هي اقوى سلاح ضدهم؛ فحاولوا طمسها، ووضع الحواجز بينها وبين المسلمين، ولم يجدوا في تنفيذ ذلك اجدر من سلوك سبل الغزو الفكري .

وتكمن خطورة الغزو الفكري الصليبي للامة الاسلامية انه يحاول ان يضرب الاسلام من الداخل عن طريق اضعاف فاعليته بالتشكيك في اسسه ومبانيه ، وعزله عن التاثير في حياة المسلمين وذلك باسم التقدم، والحضارة والرقي، ومحاربة الرجعية، ومن ثم وقف المد الاسلامي ، وحصر الاسلام داخل حدود لا يتجاوزها ، والى تجزئة المسلمين ارضا وامة وفكرا ، وتشويه صورتهم التاريخية الغابرة والحالية ، والحيلولة دون مستقبل مشرق للاسلام والمسلمين .

لقد ادرك الصليبيون بعد التجارب الطويلة في صراعهم مع المسلمين ان الغزو العسكري قبل الغزو الفكري يولد رد فعل عنيف لم يتحقق به للصليبيين الفائدة المرجوة ، والتي من اجلها خرجوا من ديارهم في الغرب، وبذلوا في حينها الاموال والدماء والنفوس.

ولهذا لم يكن للحروب الصليبية الاولى تاثير حضاري وفكري وانما كانت اشبه شيء بمرض عارض على جسد قوي، واقرب الامور الى سنن الحياة ، ان يستثير المرض كوامن المناعة في هذا الجسد القوي ، ويستحثه الى اسباب الوقاية والعلاج ليطرد العلة الوافدة ، وكذلك كان .

لذلك لما عاد النصارى الصليبيون لغزو العالم الاسلامي مرة اخرى لم يكتفوا بالسلاح فقط، ولكنهم استصحبوا معهم تلك الوسيلة الخبيثة التي نسميها (الغزو الفكري) ، ذلك الغزو الذي لا يلقى في الغالب اسباب المقاومة التي يلقاها الغزو العسكري من جهة المغزوين، فهو يدعو عند بعضهم زورا وبهتانا الى محاربة الرجعية والى التقدم والرقي بالامة، كما انه ولو تبين للناس بعد ذلك حاله ومقصوده تبقى اثاره في قلوب بعض المغزوين وعقولهم .

ولاننس ايضا ان الغزو العسكري وسائله منفرة ، وهي مصحوبة بالدمار والقتل والدم، بينما وسائل الغزو الفكري ناعمة وخادعة ، ومصحوبة بالشهوات ، فالاستجابة لها اسرع واكثر وانجح، كما انه يستهدف اشرف ما في الانسان : عقيدته وفكره ، وقلبه وعقله .

لذلك كان الغزو الفكري في غاية الضراوة ، وعنف التركيز والتاثير، وساعده استيلاء الكفار على مقدرات المسلمين، ومراكز الحكم والتوجيه، ثم بعد الجلاء والتحرر المزعوم، ساعده في المواصلة والتاثير موالاة بعض المسئولين المسلمين للغرب الصليبي ، وكذلك بريق الحضارة المادية مع الدعاية المتقنة للنظم الغربية والتغرير بها واتقان اصحابها لما خططوا له من ضرب الاسلام وابنائه، ومبادرتهم الى تشديد الكرة عليه، فتعددت مظاهر العزو الفكري ، وتكاد ان تشمل جميع جوانب الحياة، وهذه المظاهر لم تكن الا بناء على دراسات دقيقة لاحوال المجتمعات الاسلامية .

ونستطيع ان نتعرف على تلك المظاهر للغزو الفكري في حملات التشويه للاسلام، لكتابه العزيز، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولشخصه عليه الصلاة والسلام الكريم المعصوم، ولشريعته الاسلامية ونظامها في هذه الحياة، وللغته الفصحى، وللتاريخ الاسلامي … .

كما نستطيع ان ندرك مظاهر هذا الغزو في حملات التغريب لابنائنا المسلمين من جهة التعليم والثقافة والنظم الاجتماعية والسياسية والقضائية والاقتصادية والاعلامية وفي الاخلاق والاداب ، ثم تكون بتغريب اللسان ؛ لقطعه عن لغة القران اللغة العربية الفصحى .

والغزو الفكري الصليبي الموجه للامة الاسلامية يقوم على ركنين ، هما : الاستشراق، ثم التغريب .

وقد كان الهدف الاعظم للصليبيين يظهر في كل مرحلة من مراحل الغزو الفكري الا وهو التنصير .

وقبل ان ادخل في تفصيل هذه المسائل اذكر ان هذه المسائل الفكرية الموجهة للامة الاسلامية بدا النقاش فيها ، ومحاولة استخدامها منذ وقت الحملة الصليبية المرقمة بالخامسة ، في اواخر عام 1217م في تفاهم بين بابا روما هونوريوس الثالث ( 18 تموز 1216 18 اذار 1227 م)، ومؤسس الرهبنة الفرنسيسكانية فرنسيس الاسيزري ، ثم ازدادت اهميتها في نظر النصارى بعد فشل الحملة الصليبية المرقمة بالسابعة، واسر قائدها الملك الفرنسي لويس التاسع في المنصورة، فعندما خرج من سجنه عام 1250م اشار الى النصارى بالاهتمام بحرب المسلمين من الداخل بضرب عقيدتهم مكمن القوة فيهم، وفي الدس بينهم واثارة الخلافات بينهم والعمل على بقائها مستعرة ، مع تجنيد بعض الصليبيين لمحاربة تعاليم الاسلام ، كما ان وصية الملك الفرنسي لويس التاسع عشر في ضرب المسلمين من الداحل دخلت بقوة في دائرة التنفيذ والاهمية الكبرى بعد سقوط عكا من ايديهم الى ايدي المسلمين في عام 1219م، وفتور المواجهة العسكرية عند الغرب بشكل عام ضد المسلمين، فقامت مشاريع صليبية تبين الطريقة المناسبة للهجوم على المسلمين لا تجعل المواجهة العسكرية هي الاساس وان كانت اغلبها متمسكة بالمواجهة العسكرية متى سنحت الفرصة لذلك ، واهم هذه المشاريع ما تقدم به ريموند لول سنة 1305م لبابا الكاثوليك المنتقل من روما الى افينون بفرنسا البابا اكليمنضوس (كلمنت) الخامس ( 5 حزيران 1305 20 نيسان 1314م)، وقد كانت قيمة هذا المشروع الصليبي في ان صاحبه (ريموند لول)، له معرفة باللغة العربية، ودراية كبيرة بطبيعة بعض البلدان العربية الاسلامية، فقد كان مشروعه قائما على كسب المسلمين من الناحية الفكرية مع تمسكه بارسال حملة صليبية قوية ان امكن ذلك .

ثم تجلت هذه الافكار بغزو المسلمين وبالطريقة التي كان يراها المنصر والمستشرق ريموند لول على يد الملك الفرنسي نابليون بونابرت عندما غزا مصر بالطريقة العسكرية والفكرية عام 1798م ، فتمكن الاستشراق الصليبي وبدا يتسلل التغريب الى المسلمين منذ ذلك الوقت ، وفي كل المراحل كان التنصير هو الهدف الاعظم للصليبيين .

والان ساقف باختصار مع ركني الغزو الفكري :

الركن الاول : الاستشراق

مفهوم الاستشراق ( Orientalism ) :

من الناحية اللغوية فان الاستشراق اشتقه الغربيون من لفظة (الشرق) ..

وعرف قاموس اكسفورد الاستشراق بانه: (( دراسة الشخصية الشرقية ، من ناحية الاسلوب والخواص والصفات وطرق التفكير والتعبير … الخاصة بتلك الامم الشرقية ، كما انه يعني ايضا دراسة العلوم الشرقية او معرفة لغات الشرق)) .

ويقول النصراني العربي ادوارد سعيد في كتابه الاستشراق ، ص 39 : ((الاستشراق اسلوب غربي للسيطرة على الشرق ، واستبنائه ، وامتلاك السيطرة عليه)) ، واستبناؤه اي : بناء ذلك الشرق طبقا للمفاهيم الغربية .

وكما هو ملاحظ ان مثل هذه التعريفات شديدة العموم ، فالشرق هو مجموعة الاقطار المنتشرة في اسيا وبعض الاقطار في افريقية مما يطل على حوض البحر الابيض المتوسط وبعض اجزاء من اوروبا الشرقية[1]، وكثير من هذه الاقطار لا تدين بالاسلام

ثم لا شك ان تسمية هذه المناطق بالشرق هو من ابتداعات اوروبا مما يدل على غطرستها والنظر الى الاخر بالنظرة الدونية له والاعجاب بنفسها، واستخدام مثل هذه المصطلحات (الشرق) ، و(الشرق الاوسط) ليس تاييدا لها ، او اعترافا بغطرسة ما يسمى بالغرب بقدر ما فيه من مجاراة المفهوم العام ، ثم بيان ما فيها من مكر وخديعة للاخرين في انهم هم الاصل ومنهم يجلب كل نفع .

والذي اقصده من مسالة الاستشراق هذه ، هي الدراسات النصرانية للاسلام والمسلمين ؛ لان هذا هو المقصود الاعظم عند نصارى الغرب كما ذكر غير واحد من مستشرقيهم .

فمفهوم الاستشراق من هذا المنطق سيكون : دراسات متخصصة يقوم بها النصارى للاسلام في شتى جوانبه : العقدية ، والتشريعية ، والتاريخية ، واللغوية ، والحضارية ، وفي النظم والامكانات … بهدف تشويه الاسلام ، ومحاولة تشكيك المسلمين فيه ، وتضليلهم عنه ، وادعاء تفوق حضارتهم النصرانية (الغربية) على الحضارة الاسلامية (الشرقية) ومحاولة فرض التبعية لهم على المسلمين ، ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدعي العلمية والموضوعية [2] .

فهذا الاستشراق يمثل الخلفية الفكرية للصراع الديني بين الاسلام والنصرانية في الغرب والذي بدا واضحا منذ الحروب الصليبية التي امتدت قرنين من الزمان ( 489ه 691ه )، ( 1095 1291م)،لم تنته ، ولن تنتهي مصداقا لقول الباري I :] ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير [ [3] .

ثم ان حجر الزاوية للدراسات الاستشراقية هو الدافع الديني الذي استمر وظهر واضحا منذ بدايتها الى يومنا هذا ، فما نشا الاستشراق وقوي امره في الغرب الا تحت عين الفاتيكان وبرعايته ، فقد كانت طلائع المستشرقين من رجالاته الذين لم تكن اعمالهم ودراساتهم بمعزل عن دورهم الكنسي .

ثم ظهر دافع اخر للدراسات الاستشراقية الغربية ، وهو الدافع السياسي العسكري ، والذي جعل نصب عينيه وفي مقدمته الدافع الديني لتسهيل طريق دوله الغربية النصرانية الى العالم الاسلامي .

والدافع الديني للدراسات الاستشراقية يسير في اتجاهات ثلاثة :

الاتجاه الاول : صد الاسلام عن ان ينتشر في اراضيهم النصرانية ، وبين ابنائهم .

الاتجاه الثاني : محاربة الاسلام والطعن فيه ، وتشويه محاسنه وتحريف حقائقه ، والبحث عن اي نقطة يظنون انها نقطة ضعف فيه فيبرزونها ، والحط من قدر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وانه استمد دين الاسلام من اليهودية والنصرانية .

الاتجاه الثالث : دعوة المسلمين الى النصرانية ، وتمجيدها بينهم ، فالمحاولات التنصيرية استفادت ، وقامت على الدراسات الاستشراقية لمعرفة ماهية المجتمعات الاسلامية وكيفية احتوائها .

ولقد طرقت تلك الدراسات الاستشراقية الكاثوليكية مواضيع متعددة لتحقيق ذلك الدافع الديني، ومن هذه المواضيع :

افتراؤهم على خاتم الانبياء وسيد المرسلين ، الرحمة المهداة للعالمين ، محمد بن عبد الله عليه افضل الصلاة واتم التسليم ، وقد وصفوه باوصاف لا تتفق والحقائق العلمية التي يتشدقون بالبحث عنها والسعي وراءها .

ومن مواضيعهم ايضا : انكارهم ان القران وحي من الله تعالى اوحاه الى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حيث ان انكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم اقتضى بالضرورة انكارهم ان القران وحي ، وان له قداسة الالهية وانه معجز ، فقد ذهب جميع المستشرقين النصارى واليهود ان القران من صنع محمد صلى الله عليه وسلم، اقتبسه من اليهودية والنصرانية واوضاع البيئة العربية في ذلك الوقت .

ومن مواضيعهم ايضا : طعنهم في السنة النبوية ، ومحاولتهم المستمرة لاسقاطها من مكانتها الرفيعة كمصدر تشريعي ثان بعد كتاب الله العزيز .

بعد هذه الخطورة في الدراسات الاستشراقية الا انا نجد ان بعض مثقفي المسلمين يرى ان المحرك الاول ، والدافع الاكبر لاولئك المستشرقين هو البحث العلمي النزيه والحقيقة العلمية المجردة ، سبحان الله العظيم! كيف لا يكون كذلك والعديد منهم قد تتلمذ (( على ايدي هؤلاء المستشرقين عن طريق ايفادهم الى بلاد الغرب النصراني واستقدام اعلام المستشرقين في بداية الامر الى البلاد العربية والاسلامية ليعملوا في مؤسساتها الفكرية والتعليمية ))[4].

بل ان كثيرا من المستشرقين يرى ان الاسلام كتعاليم وعقيدة ودين جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو العدو الاكبر للحضارة والعلم والحرية ، وعلى راس اولئك المستشرقين المستشرق الفرنسي ارنست رينان (1823 1892م) والذي كان يقول دائما في كتبه ومقالاته ان الاسلام اضطهد دائما العلم والفلسفة ، وان العقيدة الاسلامية اثقل قيد حملته الانسانية ؛ ولهذا فان المسلمين عنده هم اول ضحايا الاسلام ، وتحريرهم من دينهم ، هو اكبر خدمة يمكن ان تسدى لهم ، ويرى رينان ان تحديد ميلاد البلاد العربية او اعادته لن يتم بواسطة الاسلام، بل سيتم باضعاف الاسلام ، فالاسلام عنده السبب في اضمحلال الحضارة العربية .

ولقد اثرت هذه الاراء المنحرفة كثيرا في عقول العلمانيين من ابناء المسلمين ، بل بعض من ادعى العلم الشرعي في زمانه وافقه على كثير منها ، وعلى راس هؤلاء جمال الدين الافغاني. يقول الفيلسوف العربي الدكتور عبد الرحمن بدوي : ((وقد كان رد جمال الدين الافغاني على رينان شديد الترفق الى درجة انه ساير رينان في كثير من الملاحظات التي ابداها عن اضطهاد الاسلام للعلماء … لقد كان جمال الدين الافغاني (الاسد ابادي) سياسيا في المقام الاول ، ومفكرا متحررا من العقيدة الدينية ، ولم يكن الاسلام عنده الا وسيلة … ولم يهدف ابدا الى الاصلاح الديني بالمعنى المفهوم الدقيق لهذا التعبير . والمسؤول عن تصويره الزائف بصورة المصلح الديني هو الشيخ محمد عبده واصحاب مجلة المنار ومن شايعهم من السطحيين في مصر والشام )) [5] .

وان من اخطر ما سلكه المستشرقون في دراساتهم تحطيم الوحدة الفكرية للمسلمين، وذلك باثارة الخلافات الفكرية من اراء الفرق والمذاهب المخالفة لمذهب اهل السنة والجماعة، وتقويتها وتمجيدها ونشرها بين عامة المسلمين ليشغلوا انفسهم بها عن التفكير في عظائم الامور؛ فتمزقت بهذا الامة الاسلامية اشلاء متناثرة هنا وهناك ، وقام بين ابنائها الخلافات والمشاحنات لاختلاف النظم والمبادئ والمناهج ، ولا سيما بعد اشتداد عزائم الاذناب في الاستمرار في اثارة تلك الخلافات .

ومن اشهر هؤلاء المستشرقين الذين سلكوا هذا المسلك الراهب الدومنيكي الاب جورج شحاته قنواتي مدير معهد الدراسات الشرقية للاباء الدومينيكان بالقاهرة وكان له دور كبير في مسالة ( بدعة ) الحوار بين الاسلام والنصرانية ، وكان من ابرز تلامذته استاذ الفلسفة في جامعة القاهرة عاطف العراقي ، والذي سار على نهجه .

ومن اخطر المستشرقين اولئك الذين يصفهم البعض بالنزاهة في كتاباتهم ، فهم مثلا في ابحاثهم عن الدين الاسلامي، يذكرون عيبا واحدا، ويجودون لتمكينه في النفوس، بذكر عدة محاسن ليست لها اهمية كبيرة، وذلك كي يقف القارئ خاشعا مؤدبا امام سعة قلوبهم وسماحتهم ، فيستسيغ ذلك العيب الواحد الذي يكفي لطمس جميع المحاسن. فهم يدسون في كتاباتهم مقدارا خاصا من (السم) ويحترسون في ذلك ، فلا يزيد على النسبة المعينة لديهم، حتى لا يستوحش القارئ، ولا يثير ذلك فيه الحذر، ولا يضعف ثقته بنزاهة ذلك المستشرق .

ومن ذلك : ما يفعله المستشرق الهولندي دوزي (1820 1883م)، الذي انخدع بابحاثه بعض المسلمين، ووصفوه بالانصاف، فكان يذهب الى القول بصحة قسم كبير من الاحاديث النبوية التي حفظت في الصدور قبل التدوين ثم دونت بدقة في الكتب ، ولكنه في اثناء كلامه يرى انها احاديث لها نظرات في الكون والحياة والانسان مخالفة للعقل والميزان الصحيح .

وما ذهب اليه المستشرق لويس مايو في كتابه (مدخل لدراسة القانون الاسلامي) ان القران يعد المصدر الرئيس للشريعة الاسلامية، ثم ذهب الى صحته وان فيه قداسة وان جمعه كان صحيحا من قبل الصحابة ، ولكنه يذكر بان القران مصدر ضيق للشريعة الاسلامية ، فيرى ان القواعد القانونية تتحدث عنها ستمائة اية فقط .

ان كتابات هؤلاء المستشرقين اشد خطرا على القارئ المسلم والنصراني وغيرهم في الدين الاسلامي من كتابات المستشرقين الذين يكاشفون العداء للامة الاسلامية ويشحنون كتبهم بالكذب والافتراء عليها ، وعلى دينها وحضارتها ، ويصعب على رجل متوسط في عقليته ان يخرج منها سليم الفكرة او ينتهي في قراءتها دون الخضوع لها.

منافذ الفكر الاستشراقي الى العالم الاسلامي :

لو ننظر كيف استطاع الفكر الاستشراقي ان يغزو افكار بعض ابناء المسلمين بافكارهم المنحرفة واطروحاتهم المشبوهه، لو جدنا ان هناك منافذ وصلوا من خلالها الى ابناء عقولنا ، من اخطر هذه المنافذ : التدريس في جامعات بعض البلدان الاسلامية، ومن خلال التدريس في وزارات المعارف التربية والتعليم في بعض البلدان الاسلامية .

وبهذا استطاع المستشرقون ان يصلوا بافكارهم المنحرفة الى عقول ابناء المسلمين في كل مراحل التعليم ومنذ الصغر ، وبقدر معين، وكميات مدروسة، حتى لا يثيروا عليهم حفيظة الاباء المسلمين .

فهذه مصيبة عظمى حلت بالامة الاسلامية لتشويه الدين الاسلامي ، وتعاليمه في نفوس ابنائه (الجيل الجديد للامة الاسلامية)، قادة المستقبل الاسلامي فكريا وسياسيا واجتماعيا .

وقد تمكن الاثر السيىء للمستشرقين في نفوس ابناء المسلمين عن طريق مناهج الوزارات التعليمية والتربوية عندما امسك زمامها في البلدان الاسلامية تلامذة اولئك المستشرقين من ابناء الوطن، فحاربوا عقيدتهم الاسلامية، وضيعوا ابناءهم بسلاح اعدائهم الكفار، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .

الركن الثاني من اركان الغزو الفكري : (( التغريب )) :

التغريب هو الدعامة الثانية ، والركن الثاني من ركني الغزو الفكري الموجه الى الامة الاسلامية .

التغريب ، نقل للحضارة الغربية بسلوكياتها وافكارها الى العالم الاسلامي لتنافس الحضارة الاسلامية ، عقيدة ، وشريعة ، وسلوكا في قلوب المسلمين وعقولهم ، بل لكي تحل محلها عند بعضهم ، وذلك بايد اسلامية او كان بعضها اسلاميا متربية على المنهج الغربي النصراني المنحل والمخالف للدين الاسلامي .

فالغرب النصراني استخدم بعض ابناء المسلمين من الذين تلوثت عقولهم وافئدتهم بالفكر والمنهج الغربي لجر ابناء دينهم ووطنهم من المسلمين الى ما عليه الغرب النصراني، من فكر وسلوك ومنهج حياة مخالف لما جاء به الاسلام ، وقرره القران الكريم والسنة المطهرة واجمع عليه سلف الامة الكرام .

فعمليات التغريب هي اقسى ما واجهه الفكر الاسلامي في عصوره المختلفة .

وقد ساعد على ظهور التغريب بين المسلمين في بداية الامر اسباب من ابرزها سببان ، وربما غيرها من الاسباب يدخل ضمنا فيها :

السبب الاول : ظهور التخلف العقدي ، والذي ترتب عليه التخلف العلمي ، والحضاري ، والاقتصادي ، والسياسي ، والحربي في حياة الامة الاسلامية في قرونها المتاخرة [6].

لقد كانت الحضارة الاسلامية حضارة روحية ، ومادية في الوقت ذاته ، حضارة ملتزمة بما انزل الله، تمارس نشاطها الانساني في الاتجاهات كافة دون ان تحتاج لتحقيق ذلك ان تكفر بالله، ولا ان تنبذ اخلاقها وتقاليدها .

ولكنها سنة الله، فاذا اتبع الناس اهواءهم، وحكموا عقولهم ، وغيروا ما بانفسهم، غير الله ما بهم، فمن عز الى ذل ومن علم الى جهل، ومن تقدم الى تاخر، وما كان التخلف والانحطاط في الامة الا بسبب ما وقعت فيه من انحرافات كبيرة، من اخطرها ما كان في قضايا العقيدة، ومن ذلك اهمال الامة لمعاني توحيد الالوهية مما ترتب عليه شيوع الشرك وانتشاره في كثير من بلاد الاسلام، والانحراف في مفهوم القضاء والقدر ففهم ان معناه الاستسلام للواقع، حيث هو نتيجة لتقدير الله السابق وقضائه النافذ، فلا يجوز تغييره، فادى بهم هذا الفهم الى نتائج سيئة، فترك الجد في العمل، وتركت محاولات تغيير الواقع السيىء، وكان السكوت عن المنكر بحجة ان هذا قضاء الله وقدره، فانتشر الفساد ، وقويت الصوفية وروجت لمفاهيم مغلوطة في كثير من بلدان العالم الاسلامي .

ومن الانحرافات ايضا في المجالات العلمية : ابعاد العلوم الدنيوية، من طب، وفلك وصناعة، وتجارة، ونحوها من ان تدرس الى جانب العلوم الشرعية …، وغيرها من الانحرافات في مجالات الحياة المختلفة [7] .

فالمسلمون وللاسف في تلك الاوقات لم يضيعوا ساعات واياما، بل ضيعوا احقابا واجيالا، انتهزت فيها الشعوب الاوروبية النصرانية كل دقيقة وثانية، وسارت سيرا حثيثا في كل ميدان من ميادين الحياة، وقطعت في اعوام مسافة قرون .

السبب الثاني : الانبهار بحضارة الغرب، مما ادى الى الاخذ عنها بلا تمييز :

وهذا الانبهار بحضارة الغرب النصراني حدث للمسلمين كردة فعل بسبب ما وجدوه من تقدم غربي نصراني كبير علميا وحضاريا، وهم متخلفون عنهم في ذلك مع وجود جهل عام بين المسلمين في مسلمات امور العقيدة الاسلامية؛ مما جعل هذا الانبهار يتقدم اثره الى ان يصير هزيمة نفسية واعجابا اعمى بكل ما عند الغرب النصراني من امور. حتى لقد دعى احد ابناء المسلمين ، وهو الدكتور طه حسين ، الى تناول الحضارة الغربية بقضها وقضيضها، حلوها ومرها[8]، وذهب اخر، وهو الشيخ الازهري (الفرنسي) رفاعة رافع الطهطاوي، الى انه لا بد ان تتوثق العلاقات بين المسلمين وبين الدول الغربية النصرانية وعد ذلك شرطا لتحقيق التمدن المنشود[9]

فهذه ولا شك مناداة بالتقليد والتبعية العمياء حولت شعور كثير من المسلمين الى الانبهار بالغرب النصراني وان ابناءه اصبحوا هم السادة والقادة والرواد ، وتلك هي الطامة الحقيقية .

فقد كان هذا الانبهار بالغرب وحضارته بين عموم المسلمين سببا في تجرؤ اصحاب المنهج التغريبي بابراز ما عندهم من اراء وافكار تدعو الى تغيير المجتمع المسلم بالاقتداء بالغرب النصراني وحضارته الفكرية والمادية، بل وصل الامر ببعضهم ان يتجاهل الاسلام بالكلية في اطروحاتهم وارائهم .

لذا فقد تطرق رجالات التغريب ( من ابناء المسلمين نسبا وجسدا ، وهم ابناء الغربيين النصارى فكرا وثقافة ومنهجا ) ، الى مواضيع متشعبة خطيرة وحساسة فيما يتعلق بالدين الاسلامي، وعقيدته، وشرائعه، وادابه، ومرورا بمجالات الحياة المختلفة

وعملوا على تشويه التاريخ الاسلامي الناصع البياض ، واظهاره بمظهر التاريخ الاسود الحاقد على البشرية ، وتشويه صورة ابطال الاسلام الحقيقيين ، لا الملمعين زورا وبهتانا ، خاصة من له دور في الفتوحات الاسلامية المشرفة ، وهزيمة الصليبيين ، وهم كثر ، والحمد لله اسال الله ان يكثرهم كخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعماد الدين زنكي ، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الايوبي، والظاهر بيبرس، ومحمد الفاتح … وغيرهم من جنود الله المجاهدين ، واظهار هؤلاء الابطال بمظهر غير لائق ، وغير حضاري .

كما انهم بحثوا في امور كثيرة تتعلق بالمجتمع الاسلامي ؛ لتحويله الى مجتمع مدني علماني ، لا يقيم للشريعة وزنا في حياته اليومية ، ومن هذه الامور : الدعوة الى فتح المجالات للاختلاط ، والسفور ، والبرامج الهابطة للمراة المسلمة العفيفة باسم تحررها ، تحررها مم ماذا ؟! تحررها من احكام الشريعة الطاهرة التي تصنع مجتمعا عفيفا طاهرا متماسكا ، واسرة مصونة طاهرة ! .

وغيرها من المواضيع التي طرقها اولئك التغريبيون من ابناء المسلمين ضد امتهم الاسلامية ، اطروحات مشبوهة ماكرة على كل الاصعدة ، وفي كل المجالات الدينية ، والسياسية ، والوطنية ، وغيرها من المجالات التي يدعون انهم دعاة اصلاح فيها ، ومريدو خير لامتهم من خلالها ، وهم في حقيقتهم دعاة فساد فيها ، ومريدو شر لامتهم من خلالها بضياع هويتهم الاسلامية ، وعدم استقلالهم بما عندهم من خير عميم ، ووضوح لا يشوبه غبش ، ومنهج مستقيم لا يعتريه اعوجاج ، وسحبهم امتهم الاسلامية الى تبعية مقيتة للغرب النصراني ، وتربيتهم على هزيمة نفسية قد تؤثر بل اثرت في اجيال اسلامية عديدة حاضرا ، ومستقبلا ، قال تعالى :{ واذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون (11) الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) } [10] .

السابق
تفسير الاحلام ما تفسير المال
التالي
رسائل حب وغزل رومانسية