لحمد لله الذي جعل الشمس ضياء، والقمر نورا، وقدره منازل، لنعلم عدد السنين والحساب، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى الال والاصحاب.
يقول الرب عز وجل: {وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون} [الذريات:56]، يحدد الرب عز وجل في هذه الاية الكريمة الحكمة من ايجاد الخلق، وهو تحقيق عبادته سبحانه وتعالى.
والعبادة في الاسلام لا تعني بعض الشعائر التعبدية فقط، بل تشمل كل ما يحقق مرضاة الله تعالى، ويجنب غضبه، فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فراى اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وان كان خرج يسعى على ابوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وان كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وان كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان”(1).
ولكن اتفق العلماء على تقسيم اصطلاحي للموضوعات الشرعية، فقسموها الى اصول وفروع، وقسموا الفروع الى فقه وسلوك، ثم صنفوا الفقه الى خمسة ابواب رئيسة هي:
العبادات، والمعاملات، والانكحة، والقضاء، والجنايات(2).
والعبادات تشمل: الصلاة، الزكاة، والصوم، والحج، كما تشمل: النذور، والكفارات، والجهاد، والزكاة، وغيرها من الفروع التي يجب استحضار نية العبادة فيها.
واذا نظرنا الى هذه العبادات نجد اغلبها لها اوقات محدودة، سواء للاداء ام للقضاء؛ لذا كان من الاهمية بمكان عظيم دراسة الاهلة والمواقيت دراسة جادة؛ لارتباط اكثر هذه العبادات بها.
وساحاول في هذا البحث المتواضع تبيين هذا الارتباط ان شاء الله تعالى، فارجو من الله تعالى العون والسداد.
1 – مفهوم الاهلة والمواقيت في اللغة والاصطلاح
ا – الاهلة في اللغة:
الاهلة: جمع هلال، وجمع – وهو واحد في الحقيقة – من حيث كونه هلالا واحدا في شهر، غير كونه هلالا في اخر، فانما جمع احواله من الاهلة، ويريدون بالاهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه، كما قال الشاعر:
اخوان من نجد على ثقة *** والشهر مثل قلامة الظفر
وقيل: سمي شهرا لان الايدي تشهر بالاشارة الى موضع الرؤية، ويدلون عليه، ويطلق لفظ الهلال لليلتين من اخر الشهر، وليلتين من اوله، وقيل: لثلاث من اوله، وقال الاصمعي: هو هلال حتى يحجر، ويستدير له كالخيط الرقيق، وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء، وذلك ليلة سبع، قال ابو العباس: وانما قيل له: هلال، لان الناس يرفعون اصواتهم بالاخبار عنه، ومنه: استهل الصبي، اذا ظهرت حياته بصراخه، واستهل وجهه فرحا، وتهلل اذا ظهر فيه السرور.
قال ابو كبير:
واذا نظرت الى اسرة وجهه *** يرقت كبرق العارض المتهلل
ويقال: اهللنا الهلال اذا دخلنا فيه. قال الجوهري: واهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله، ويقال ايضا: استهل بمعنى تبين، ولا يقال: اهل، ويقال: اهللنا عن ليلة كذا، ولا يقال: اهللناه فهل؛ كما يقال: ادخلناه، فدخل، وهو قياسه. قال ابو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره: ويقال: اهل الهلال، واستهل، واهللنا بالهلال، واستهللنا.
واسم القمر الزبرقان، واسم دارته الهالة، والفخت اسم ضوئه، او ظلمته على خلاف فيه، واسم ظله السمر، ومنه قيل: سماء، للذين يتحدثون بالليل، وانما اقتصر في جمعه على اهلة – وهو لادنى العدد، دون الفعل الذي هو للجمع الكثير – استقلالا له في التضعيف، كما قالوا فيما ليس بمضعف: حمار، واحمره، وحمر(4).
ب – الاهلة في الاصطلاح:
ولا يخرج الاستعمال الاصطلاحي للكلمة عن استعمالها اللغوي، فقد استعملها الفقهاء في نفس المعنى اللغوي(5).
ج – المواقيت في اللغة:
المواقيت: جمع ميقات، والميقات: الوقت المضروب للفعل والوضع. يقال: هذا ميقات اهل الشام، للموضع الذي يحرمون منه. وفي الحديث: انه وقت لاهل المدينة ذا الحليفة، قال ابن الاثير: وقد تكرر التوقيت والميقات، قال: فالتوقيت والتاقيت: ان يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة. وتقول: وقت الشيء، يوقته، ووقته، يقته، اذا بين حده، ثم اتسع فيه فاطلق على المكان، فقيل للموضع: ميقات، وهو مفعال منه، واصله موقات، فقلبت الواو ياء، لكسرة الميم. وفي حديث ابن عباس: لم يقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر حدا، اي لم يقدر، ولم يحده بعدد مخصوص. والميقات: مصدر الوقت. والاخرة: ميقات الخلق. ومواضع الاحرام: مواقيت الحاج. والهلال: ميقات الشهر، ونحو ذلك(6).
وفي التبيان(7)، والميقات: هو مقدار من الزمان، جعل علما لما يقدر من العمل، ومنه قوله تعالى: {الى يوم الوقت المعلوم} [الحجر:38]، [ص:81]، والتوقيت: تقدير الوقت، وقت توقيتا، ومنه قولهه تعالى: {واذا الرسل اقتت} [المرسلات:11]، وكلما قدرت غاية فهو موقت، والميقات: منتهى الوقت، ومنه قوله تعالى: {فتم ميقات ربه} [الاعراف: من الاية142]، فالاخرة ميقات الخلق.
د – المواقيت في الاصطلاح:
استعملت الكلمة في اصطلاح الفقهاء بنفس المعنى اللغوي، ولكنها غلبت في باب الحج على مواضع وازمنة معينة، لعبادة مخصوصة، وهي مواقيت الحج، التي تنقسم الى مواقيت زمانية، ومواقيت مكانية(8).
3 – التمييز بصورة عامة بين مفهوم العبادات والمعاملات ومظاهر ذلك في الفقه الاسلامي
ا – العبادات لغة:
العبادات: جمع عبادة، والعبادة في الاصل: الخضوع والذل والطاعة(9).
قال الفيروز ابادي(10): وعبد بين العبدية والعبودية، واصل العبودية الخضوع والذل. وقوله تعالى: {فادخلي في عبادي} [الفجر:29]، اي في حزبي، والتعبيد: التذليل، طريق معبد: مذلل.
واعبده: اتخذه عبدا، واعبدني فلاني فلانا: ملكني اياه، والتعبيد: الاستعباد، وهو ان تتخذه عبدا، وكذلك الاعتباد.
والعبادة: الطاعة، وهي ابلغ من العبودية؛ لانها غاية التذلل، لا يستحقها الا من له غاية الافضال، وهو الله تعالى.
والعبادة ضربان:
ضرب بالتسخير كما في السجود لادم، وضرب بالاختيار، وهو لذي النطق، وهو المامور به في قوله: {اعبدوا ربكم} [البقرة: من الاية21].
ب – واصطلاحا:
فعل المكلف على خلاف نفسه؛ تعظيما لربه(11).
هذا التعريف تعريف عام للعبادة، فهو يشمل كل عمل يقوم به العبد طالبا رضوان الله تعالى – كما بينا سابقا.
اما العبادة – بالمعنى الفقهي المحدد – فهي: الاعمال الخاصة، التي كلف العبد بالقيام بها؛ تحقيقا للعبودية لله.
وهي ما يعبر عنه بالشعائر التعبدية، كالاركان الخمسة، وما يلحق بها(12).
ج – اما المعاملات لغة:
فهي جمع معاملة، والمعاملة لغة: التصرف مع الغير في بيع ونحوه(13).
د – وفي الاصطلاح: الاحكام الشرعية المتعلقة بامر الدنيا، كالبيع والاجارة(14).
وفي الموسوعة العربية الميسرة: المعاملات: ما عدا العبادات من احكام الفقه الاسلامي، وتشمل: حقوق الاسرة، والارث، والوصية، والهبة، والتصرفات المالية، والمرافعات الشرعية، والجنايات، وعقوباتها.
وقد تطلق فقط على التصرفات المالية، بما فيها من: عقود، وقواعد عامة، وعلى المعنى الاول سارت كتب الفقه القديمة، ويلتقي المعنى الثاني مع منهج الشريعة في كليات الحقوق(15).
4 – مجمل الالتزامات الشرعية في مجال العبادات
يعتبر المسلم باعلانه الشهادتين ملتزما باحكام الاسلام وتكاليفه. جاء في مسلم الثبوت:
الاسلام: التزام حقيقة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم(16).
والفقهاء عبروا في التصرفات الناشئة عن ارادة الانسان بانها التزام، اما ما كان بغير ارادته فالتعبير فيها بالالزام او اللزوم، ذلك ان الالتزام الحقيقي هو ما اوجبه الانسان على نفسه، والتزم به؛ الا اذا اعتبرنا هذه الالتزامات حكما، وبذلك يمكن رد مصادر كل الالتزامات الى الشرع، فالشرع هو الذي رسم حدودا لكل التصرفات ما يصح منها وما لا يصح، ورتب عليها احكامها(17).
ويمكننا ان نحصر العبادات فيما يلي:
الصلوات المشروعة بانواعها – سواء كانت فريضة ام نافلة-، وشروطها، وسوابقها، ولواحقها، ويدخل في ذلك ابواب الطهارات كلها، كالوضوء، والغسل، والتيمم، والمسح على الجبائر والسواتر، وقضاء الحاجة، والحيض والنفاس، وما يلحقهما من الاحكام، واحكام المياه والاواني.
كما يدخل في ذلك صلاة الجنازة، ومقدماتها من غسل الميت وتطهيره، وما يستتبعه من الكفن والدفع والتعزية.
ولواحق الصلاة كالاذكار والادعية المشروعة عقب الصلوات.
ومنها: الزكاة وتوابعها من الصدقات، والحج، والعمرة، والزيارات المشروعة، والجهاد، وما يتعلق به من احكام، والعتق بانواعه، والضحايا والهدى، واحكامها، والنذور، والايمان، والكفارات بانواعها، وسائر اعمال البر، وما يتعلق بها(18).
وقد قسم بعض العلماء العبادات الى: عبادات بدنية، وعبادات مالية، وعبادات جامعة.
اما العبادات البدنية: فقسمها الى عبادات قلبية، وعبادات فكرية، وعبادات جسدية.
فمن العبادات القلبية:
التصديق بوجود الله، والايمان بقدرته، وعلمه، والاخلاص له، والتوكل عليه، والمحبة له، والمحبة فيه، والنية الصالحة، واجتناب الرياء والعجب والكبر.. الى غير ذلك من اعمال القلوب.
ومن العبادات الفكرية:
التفكير في صفات الله، واسمائه، والنظر في عظيم مخلوقاته وعجائب صنعه، وتدبر القران الكريم، وهي المشار اليها في كثير من الايات القرانية المخاطبة للعقل، كقوله تعالى: {ويريكم اياته لعلكم تعقلون} [البقرة: من الاية73]، {وله اختلاف الليل والنهار افلا تعقلون} [المؤمنون: من الاية80)].
ومن العبادات الجسدية:
العبادات التي تتعلق بجوارح الانسان وحواسه جميعها، كاللسان، واليدين، والرجلين، والسمع، والبصر، والذوق، والشم، واللمس، وهكذا…
فمن عبادات اللسان: النطق بالشهادتين، وتلاوة القران، وذكر الله، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق، واجتناب الكذب، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور.
ومن عبادات اليدين: حركاتها في الصلاة، والاخذ باليمين، والبطش في مرضاة الله.
ومن عبادات الرجلين: الوقوف في الصلاة، والمشي الى المساجد، والغدو والرواح في سبيل الله..
ومن عبادات السمع: الانصات الى تلاوة القران، وسماع الخير، والكف عن سماع الشر، والغيبة، والغناء المحرم، والمعازف..
ومن عبادات البصر: النظر الى الكعبة، وفي المصحف، وكف النظر عن المحرمات، والعورات.
ومن عبادات الذوق والطعام: سحور الصائم، وافطاره، وتناول الطعام والشراب المباح، واجتناب المحرم منه.
ومن عبادات الشم: التمتع بالروائح الطيبة المباحة، وكف الشم عن الحرام، كالطيب للمحرم، وطيب المراة الاجنبية.
ومن عبادات اللمس: استلام الحجر الاسود، والركن اليماني، واجتناب لمس المراة الاجنبية، وهكذا… الى غير ذلك من عبادات لا تخفى على ناظر، وترجع الى نوع من هذه الانواع(19).
ب – اما العبادات المالية:
فهي اعمال الانسان، وتصرفاته الشرعية المتعلقة بماله، من حيث الكسب والانفاق، والجمع والادخار… وهكذا.
فمن ذلك: زكاته الواجبة، وصدقاته النافلة، وبيعه وشراؤه على الطريقة الشرعية، واجتناب الربا والدخل الحرام.. وانفاقه على نفسه وعياله ورحمه، وكل تصرف يدخل في اطار قسم المعاملات في الاصطلاح الفقهي كالاجارة والرهن، والسلم.. مما يعرف في محاله من كتب الفقه.
ج – اما العبادات الجامعة:
فهي العبادات المتعلقة باكثر من جهة من جهات العبد، كجسده، وماله وفكره، وقلبه… ومن ذلك: الحج، والجهاد، وبر الوالدين.
فالحج: عبادة جامعة تتعلق بقلب الحاج من حيث النية والقصد، كما تعلق بجسده وجوارحه من حيث الاعمال والمناسك، من تلبية وطواف وسعي، ورمي، ووقوف، وتحلل، كما تتعلق بماله، من حيث: الانفاق، والهدي، والصدقات، وكذلك الجهاد بمعناه العام وهو: بذل الجهد في سبيل الله عز وجل.
فهو: عبادة جامعة، تتعلق بقلب العبد، من حيث النية، وتحديث النفس بالغزو.. كما تتعلق بجسده وجوارحه في التحرك بالدعوة، وخوض ميادين القتال، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تتعلق بماله من حيث الانفاق فيه.. وهكذا(20).
5 – مدى تاثير الاهلة والمواقيت من الالتزامات الشرعية في مجال العبادات من حيث الاداء والقضاء والاسباب الشرعية لذلك
ا – يتفق الاصوليون على تقسيم العبادات الى مؤقتة، وغير مؤقتة، والمراد بالمؤقتة: ما جعل لها الشارع وقتا محدد الطرفين، سواء كان موسعا ام مضيقا. والموسع: ما يزيد على مقدار ما يسع العبادة، كزمان الصلوات وسننها، والضحى، والعيدين والمضيق: ما كان بمقدار العبادة: كزمان صوم رمضان، وايام البيض(21).
والمراد بغير المؤقتة: ما لم يجعل لها الشارع وقتا محدد الطرفين، وذلك كالجهاد، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والذكر المطلق، واداء الكفارات، وانقاذ الغريق، ونحوه، واذا كانت بعض هذه المذكورات تطلب عند وجود مقتضياتها، فان ذلك لا يجعلها من المؤقتات؛ لان طلبها في ذلك الوقت لمصلحة في المطلوب، الذي حدث ما يقتضيه في ذلك الوقت، او في غيره، فلو لم يظهر المنكر – مثلا – في ذلك الوقت، لما تعين ذلك الوقت لانكاره، اما المؤقتات شرعا: فالحكمة في الوقت لامر تعبدي، قد لا ندركه، ويتفقون ايضا على ان العبادة المؤقتة اذا فعلت في وقتها كان فعلها اداء، سواء كانت فرضا ام نفلا.
وعلى ان العبادة المؤقتة الواجبة اذا فعلت بعد خروج وقتها كان ذلك قضاء(22)، فان كانت العبادة محددة بوقت له طرفان – سواء اكان الوقت موسعا، كوقت الصلاة، ام كان مضيقا، كرمضان فانه يجب اداؤها في الوقت المحدد، ولا يجوز ان تتقدم عليه، ولا ان تتاخر، الا لعذر؛ لانها تفوت بفوات الوقت المحدد دون اداء، وتتعلق بالذمة الى ان تقضى، ولا خلاف بين الفقهاء في تحديد الوقت الذي يجب فيه الاداء فيما كان وقته مضيقا؛ لان الوقت كله مشغول بالعبادة، وليس فيه زمن فارغ منها، الا انهم يختلفون في تعيين النية لصحة الاداء، فعند الحنفية يكفي مطلق النية؛ لان الوقت لما كان معيارا فلا يصلح لعمل اخر من جنسه، وعند الجمهور لا بد من التعيين، فان لم يعين لم يجزه(23).
اما ما كان وقته موسعا فقد اختلف الفقهاء في تحديد الجزء الذي يتعلق به وجوب الاداء، فعند الجمهور هو الكل، لا جزء منه؛ لان الامر يقتضي ايقاع الفعل في اي جزء من اجزاء الوقت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الوقت ما بين هذين”(24).
وهو يتناول جميع اجزائه؛ وليس تعيين بعض الاجزاء لوجوب الاداء باولى من تعيين البعض الاخر، الا ان الاداء يجب في اول الوقت مع الامكان، وقيل: يستحب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “اول الوقت رضوان الله، واخره عفو الله”(25). ويجوز التاخير الى اخر الوقت المختار؛ لان عدم جواز التاخير فيه ضيق على الناس، فسمح لهم بالتاخير، وعند الحنابلة وبعض الشافعية: يجوز التاخير، لكن مع العزم على الفعل، فان لم يعزم اثم.
وان ظن المكلف انه لا يعيش الى اخر الوقت الموسع تضيق عليه الوقت، وحرم عليه التاخير؛ اعتبارا بظنه، فان اخره ومات عصى اتفاقا، فان لم يمت – بل عاش – وفعل في اخر الوقت، فهو قضاء عند القاضي ابي بكر الباقلاني، اداء عند الجمهور؛ لصدق تعريف الاداء عليه، ولا عبرة بالظن البين خطاه(26).
وعند المحققين من الحنفية: وقت الاداء: هو الجزء الذي يقع فيه الفعل، وان الصلاة لا تجب في اول الوقت على التعيين، وانما تجب في جزء من الوقت غير معين، وانما التعيين الى المصلي من حيث الفعل، حتى انه اذا شرع في اول الوقت يجب في ذلك الوقت، وكذا اذا شرع في وسطه، او اخره، ومتى لم يعين حتى بقي من الوقت مقدار ما يصلى فيه اربعا – وهو مقيم – يجب عليه تعيين ذلك الوقت للاداء فعلا، وياثم بترك التعيين.
وقال بعض الحنفية العراقيين: ان وجوب الاداء يتعلق باخر الوقت، فعلى هذا ان قدمه ثم زالت اهليته قبل اخر الوقت فالمؤدى نفل، وقال بعض اصحاب الشافعي: ان الوجوب يتعلق باول الوقت، فان اخره فهو قضاء.
وكلا الفريقين ممن ينكرون التوسع في الوجوب(27).
ب – ومما قرره الاصوليون ايضا: ان الوقت قد يكون سببا(28) للحكم وخصوصا في العبادات، فقد يكون الوقت سببا للوجوب، كشهر رمضان، فانه سبب لوجوب الصوم، والزوال والغروب فانهما، سببان لوجوب الصلاة، فالزوال سبب لوجوب صلاة الظهر، وغروب الشمس سبب لوجوب صلاة المغرب(29)، وايام الاضاحي الثلاثة او الاربعة – على الخلاف بين العلماء – فانها سبب للامر بالاضحية(30)، وغروب الشمس اخر ايام رمضان الى غروب الشمس يوم الفطر، فانه سبب لوجوب زكاة الفطر عند بعض العلماء(31).
وقد ورد في القران الكريم جعله سببا للصلاة، وذلك بتعليق الصلاة به، كما قال الله تعالى: {اقم الصلاة لدلوك الشمس} [الاسراء: من الاية78]، واضافتها اليه في مثل قولنا: صلاة الظهر، وصلاة الفجر، ومطلق الاضافة يدل على الاختصاص الكامل، والاختصاص الكامل يكون بالسببية، واضافة الصلوات الى الاوقات من قبيل الاختصاص الكامل، فتكون دالة على السببية، ومما يدل ايضا على كون الوقت سببا لوجوب الصلاة: تغيرها بتغيره، صحة، وكراهة، وفسادا، وتجدد وجوبها بتجدده، وبطلان تقديمها عليه.
فانه لو كان الوقت شرطا لا سببا لصح تقديمها عليه؛ اذ التقديم على شرط وجوب الاداء صحيح، كالزكاة قبل الحول، ويحقق كون الوقت سببا للوجوب: “ان الوقت ان لم يكن مؤثرا في ذاته، بل يجعل الله تعالى، بمعنى انه تعالى رتب الاحكام على امور ظاهرة تيسيرا، كالملك على الشراء، الى غير ذلك، فتكون الاحكام بالنسبة الينا مضافة الى هذه الامور(32).
واذا كان الوقت سببا للحكم فهو يكون ظرفا لايقاع هذا الحكم المكلف به، لكن قد يكون الوقت ازيد من فعل المكلف به، بحيث يسع الفعل مرارا، ويعرف هذا الفعل بالواجب الموسع، ويسمى الايجاب المتعلق بهذا الفعل بالوجوب الموسع؛ وذلك كالوقت بالنسبة للصلاة، وايام الاضاحي بالنسبة لها، وغروب الشمس اخر ايام رمضان، الى غروب الشمس يوم الفطر، بالنسبة لوجوب زكاة الفطر عند بعض العلماء.
وقد يكون الوقت ليس ازيد من فعل المكلف به، بحيث لا يسع الفعل مرارا، ويعرف هذا الفعل بالواجب المضيق، ويسمى بالايجاب المتعلق بهذا الفعل بالوجوب المضيق، وذلك ككل يوم من ايام رمضان – بالنسبة لمن استقبله-، فان السبب ليس هو كل الوقت، بل بعضه(33).
مما سبق يتبين اهمية معرفة الاهلة والمواقيت لايقاع العبادة صحيحة وفق اسبابها وشروطها الشرعية، سواء اكانت مؤداة في وقتها ام مقضية.
وقد وردت نصوص كثيرة عن السلف تبين اهمية الاهلة والمواقيت في العبادة، من ذلك: ما اورده الطبري وغيره في تفسير قوله تعالى: {يسالونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: من الاية189].
عن قتادة قوله: “يسالونك عن الاهلة، قل: هي مواقيت للناس” قال قتادة: سالوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: لم جعلت هذه الاهلة؟ فانزل الله فيها ما تسمعون “هي مواقيت للناس” فجعلها لصوم المسلمين، ولافطارهم، ولمناسكهم، وحجهم، ولعدة نسائهم، ومحل دينهم، في اشياء. والله اعلم بما يصلح خلقه، وعن الربيع، قال: ذكر لنا انهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لم خلقت الاهلة؟ فانزل الله تعالى “يسالونك عن الاهلة، قل هي مواقيت للناس والحج” جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين، وافطارهم، ولحجهم، ومناسكهم، وعدة نسائهم، وحل ديونهم. وعن قتادة ايضا في قوله: “مواقيت للناس والحج” قال: هي مواقيت للناس في حجهم، وصومهم وفطرهم، ونسكهم.
وعن ابن جريج قال: قال الناس: لم خلقت الاهلة؟ فنزلت “يسالونك عن الاهلة، قل: هي مواقيت للناس” لصومهم، وافطارهم، وحجهم، ومناسكهم. قال: قال ابن عباس: ووقت حجهم، وعدة نسائهم، وحل دينهم.
وعن السدي “يسالونك عن الاهلة؟ قل: هي مواقيت للناس” فهي مواقيت الطلاق، والحيض، وعدة نسائهم(34).
وقال التقي السبكي رحمه الله: والمواقيت التي تحتاج الى الهلال ميقات صلاة العيد، والزكاة، وصدقة الفطر، وصيام رمضان، والفطر منه، وصيام ايام البيض، وعاشوراء، وكراهية الصوم بعد نصف شعبان، وصيام ست من شوال، ومعرفة سن شاة الزكاة، واسنان الابل والبقر فيها، والاعتكاف في النذر، والحج، والوقوف، والاضحية، والعقيقة، والهدي، والاجال، والسلم، والبلوغ، والمساقاة، والاجارة، واللقطة، واجل العنة، والايلاء، وكفارة الوقاع، والظهار، والقتل بالصوم، والعدة في المتوفي عنها، وفي الايسة، والاستبراء، والرضاع، ولحقوق النسب، وكسوة الزوجة، والديات، وغير ذلك. فكان من المهم صرف بعض العناية الى ذلك، ومعرفة دخول الشهر شرعا(35).
وقال ابن بدران الحنبلي رحمه الله:
ومما يحتاج اليه الفقيه والمتفقه: فن الميقات؛ اذ به تعرف جهة القبلة للصلوات، وتعرف به الاوقات، وتصحيح الساعات المخترعة لمعرفة الاوقات، وهذا يعرف بالاصطرلاب(36)، وللعمل به رسائل وكتب كثيرة، وبالربعين: المجيب والمقنطر(37)، ولهما ايضا رسائل، وبالات اخر مشهورة، وان يعرف من النجوم ما به يعرف القبلة، وكان للفقهاء اعتناء زائد بهذا، وهذا موفق الدين المقدسي كان من العارفين بهذا الشان، وقد ذكر في كتابه “المغني” لمعرفة القبلة عدة قواعد، تدل على تمكنه من هذا الفن، فاللازم على المتفقه ان لا يهمله(38).
ولاهمية هذا الامر، ولشدة حرص المسلمين على ضبط اوقات عباداتهم، وجدنا ان علماء المسلمين كانوا سباقين الى معرفة علوم الفلك والزيج، ومعرفة الات رصد الاوقات، ومتابعة حركة القمر ومنازله، ومدارات الكواكب ومساراتها(39).
6 – امثلة تفصيلية لبيان اثر الاهلة والمواقيت في الالتزامات الشرعية في نطاق العبادات
1 – اوقات الصلوات:
تنقسم الصوات الى صلوات لها اوقات معينة من قبل الشارع، وصلوات ليس لها وقت معين، وهي النوافل المطلقة.
اما الصلوات التي لها اوقات معينة فهي: الصلوات المفروضة، والسنن والرواتب، والوتر، وصلاة الضحى، وصلاة العيدين، وصلاة الكسوف.
واصل مشروعية هذه الاوقات عرف بالكتاب والسنة، قال تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والارض وعشيا وحين تظهرون} [الروم:17، 18].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الصلوات الخمس في القران، قيل له: اين؟ فقال: قال الله تعالى: “فسبحان الله حين تمسون” صلاة المغرب والعشاء، “وحين تصبحون” صلاة الفجر، “وعشيا” العصر، “وحين تظهرون” الظهر. وقاله الضحاك، وسعيد بن جبير(40).
وقال عز من قائل: {اقم الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل وقران الفجر ان قران الفجر كان مشهودا} [الاسراء:78].
وقد بينت السنة المطهرة اوقات الصلاة: كحديث امامة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا “امني جبريل عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الاولى منهما، حين كان الفيء مثل الشراك(41)، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وافطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالامس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب وقته الاول، ثم صلى العشاء الاخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين سفرت الارض، ثم التفت الي جبريل، وقال: يا محمد، هذا وقت الانبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين”(42).
وللفقهاء تفصيل دقيق في تحديد بدايات الاوقات ونهاياتها:
فبداية وقت الفجر – باتفاق الفقهاء – من طلوع الفجر الصادق، ويسمى الفجر الثاني.
وسمي صادقا؛ لانه بين وجه الصبح ووضحه، وعلامته بياض ينتشر في الافق عرضا، ويميزونه عن الفجر الكاذب، ويسمى الفجر الاول، ولا يدخل به وقت الصبح، وعلامته بياض يظهر طولا، يطلع وسط السماء، ثم ينمحي بعد ذلك، والفرق بين الفجرين مقدر بثلاث درجات.
اما نهاية وقت الصبح فقد اختلف فيه العلماء، فجمهور العلماء ذهبوا الى ان الوقت الاختياري للصبح الى الاسفار، وبعد الاسفار وقت ضرورة، وذهب الحنفية الى ان نهاية الوقت الى قبيل طلوع الشمس(43).
ولا خلاف بين العلماء في ان اول وقت الظهر من بعد زوال الشمس عن كبد السماء تجاه الغروب، ولا يصح اداؤها قبل ذلك.
ويعرف وقوع الزوال بالالات الدالة عليه، وهي كثيرة(44)، وابسطها العيدان المركوزة في الارض، وهي ان تغرز خشبة مستقيمة في ارض مستوية، فما دام ظل الخشبة ينقص فالشمس قبل الزوال، فاذا لم يكن للخشبة ظل، او تم نقصان الظل، فالشمس تكون في كبد السماء، وهو وقت لا تجوز فيه الصلاة، فاذا انتقل الظل الى المشرق، وبدا في الزيادة دخل وقت الظهر(45).
واخر وقت الظهر – عند جمهور الفقهاء – بلوغ ظل الشيء مثله، سوى ظل الزوال، وعند ابي حنيفة حين يبلغ ظل الشيء مثليه، سوى ظل الزوال(46).
ومبدا وقت العصر – عند الجمهور – من حين زيادة الظل على المثل سوى ظل الزوال، وعند ابي حنيفة من حين الزيادة على المثلين.
واخر وقتها الاختياري – عند الجمهور – ما لم تصفر الشمس، ثم يبقى وقت الضرورة الى غروب الشمس، وعند ابي حنيفة فوقتها ما لم تغب الشمس، ثم يبدا وقت المغرب بعد الغروب، واخر وقتها – عند الجمهور – الى غياب الشفق، والمشهور عند المالكية انه لا امتداد له.
واختلفوا في الشفق، فالجمهور انه الحمرة التي تعقب غروب الشمس، وعند ابي حنيفة الشفق هو البياض الذي يظهر في السماء بعد ذهاب الحمرة.
ثم يبدا وقت العشاء من غياب الشفق، واخر وقتها الاختياري عند المالكية والحنابلة ثلث الليل الاول، ثم يبقى وقت الضرورة الى طلوع الفجر، وعند الحنفية والشافعية يمتد وقتها الى طلوع الفجر(47).
وهناك اوقات لا تجوز فيها الصلاة، واخرى تستحب فيها(48).
ويظهر لنا مما مر ان معرفة اوقات الصلوات يتوقف على معرفة منازل الشمس في اليوم والليلة، طوال ايام السنة، لاختلاف منازلها باختلاف الفصول، فلذا اخترع اسلافنا الالات الرصدية، ووضعوا جداول للوقوت(49).
اما السنن الرواتب فتؤدى مع الفرائض، واوقاتها هي اوقات فرائضها، وسميت بالسنن الراتبة؛ لانها تبع للفرائض، وفعلها مترتب على فعل الفرائض(50).
اما صلاة الوتر فقد ذهب الامام ابو حنيفة الى ان مبدا وقتها هو بعينه مبدا وقت العشاء، الا انه لا يصلي الوتر قبل العشاء، للترتيب اللازم بينهما، وذلك الصاحبان الى ان مبدا وقت الوتر بعد صلاة العشاء، وهو مذهب جمهور العلماء.
ويظهر اثر الخلاف بين ابي حنيفة والجمهور فيما اذا صلى العشاء بغير وضوء ناسيا، ثم توضا وصلى الوتر، ثم تذكر انه صلى العشاء بغير وضوء، فعند الجمهور انه يعيد العشاء؛ لانه صلاها من غير طهارة، ويعيد الوتر؛ لانه صلاة في غير وقته.
اما عند ابي حنيفة: فانه لا يعيد الوتر؛ لانه صلاه في وقته بطهارة(51).
ويعضد مذهب الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: “ان الله زادكم صلاة، فصلوها فيما بين العشاء الى صلاة الصبح: الوتر، الوتر”(52).
وكلمة “بين” في الحديث تدل على ان الوتر بعد العشاء – والله اعلم-(53).
اما صلاتا التراويح والتهجد: فوقتها من بعد صلاة العشاء الى طلوع الفجر، وقال بعض الحنفية: وقتهما ما بين العشاء والوتر(54).
اما صلاة الضحى: فوقتها من شروق الشمس وارتفاعها قدر رمح الى الزوال، وافضل وقتها اذا مضى ربع النهار(55)؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “صلاة الاوابين حين ترمض الفصال”(56).
اما صلاة العيدين: فوقتها وقت صلاة الضحى. ويسن تعجيل الاضحى في اول وقتها، بحيث يوافق الحجاج بمنى في ذبحهم، وتاخير صلاة الفطر عن اول وقتها قليلا؛ لما روى الشافعي مرسلا: “ان النبي صلى الله عليه وسلم كتب الى عمرو بن حزم – وهو بنجران-: ان عجل الاضحى، واخر الفطر، وذكر الناس”(57)، ولانه يتسع بذلك وقت الاضحية، ووقت صدقة الفطر. واذا لم يعلم قوم بالعيد الا بعد زوال الشمس من يوم العيد، او غم الهلال على الناس، فشهدوا عن الامام برؤية الهلال بعد الزوال، او حصل عذر مانع كمطر شديد، ففي جواز العيد في اليوم التالي رايان:
فعند جمهور العلماء تصلى في اليوم التالي؛ لما روى ابو عمير بن انس عن عمومة له من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: غم علينا هلال شوال، فاصبحنا صياما، فجاء ركب في اخر النهار، فشهدوا انهم راوا الهلال بالامس، فامر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ان يفطروا من يومهم، وان يخرجوا غدا لعيدهم”(58).
اما المالكية فقد قالوا: انها لا تصلى بعد فوات وقتها؛ لان النوافل لا تقضى. والذي يظهر لي في هذه المسالة – والله اعلم – ان مذهب الجمهور ارجح؛ لصحة الدليل الذي استندوا اليه.
قال الخطيب البغدادي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم اولى ان تتبع(59).
اما صلاة الكسوف، ويقصد بالكسوف ذهاب ضوء الشمس او القمر، والغالب ان يطلق على الاول كسوفا، وعلى الثاني خسوفا، فوقتها وقت حدوث الكسوف او الخسوف، ويطيلون القراءة فيها الى ان تنجلي الظاهرة.
ولم يجوز جمهور العلماء فعلها في اوقات النهي؛ لانها نافلة، والنافلة لا يجوز فعلها في هذا الوقت.
وذهب الشافعية الى جواز فعلها في جميع الاوقات، لكونها صلاة ذات سبب سابق، وكل صلاة لها سبب سابق يجوز فعلها في اوقات النهي، ويؤيد راي الجمهور ما رواه قتادة. قال: “انكسفت الشمس بعد العصر بمكة، فقاموا يدعون قياما، فسالت عن ذلك، فقالوا: هكذا كانوا يصنعون”(60).
وتفوت صلاة الكسوف بفوات وقتها ولا تقضى(61)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “فصلوا حتى ينجلي”(62).
2 – جهة القبلة:
وسميت قبلة لاقبال الناس عليها؛ قال تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: من الاية149].
اتفق الفقهاء على انه لا تصح الصلاة بدون استقبال القبلة، الا لعاجز عن استقبالها، كمربوط، ومصلوب لغير القبلة، وعند اشتداد الحرب، او متنقل في سفر مباح”(63).
ويجب على المسلم المكلف تعلم ادلة القبلة، لحاجته اليها، ويجوز له تعلمها حتى من كافر(64).
وادلة معرفة القبلة كثيرة، منها:
ا – النجوم، واهمها النجم القطبي؛ لانه نجم ثابت، وهو نجم شمالي، حوله انجم دائرة عليه كفراشة الرحى، في احد طرفيها الجدي، وفي الاخر الفرقدان.
ويمكن به معرفة الجهات الاربع، وبذلك يمكن معرفة القبلة – ولو على سبيل التقريب-، وتختلف قبلة البلاد بالنسبة اليه اختلافا كبيرا(65).
ب – الشمس والقمر ومنازلهما
ويمكن التعرف من خلالهما على الجهات الاربع، وخصوصا في ايام الربيع والخريف بالنسبة للشمس، واستكمال البدر فيه بالنسبة للقمر، وفي كتب الفقه المبسوطة تفصيل في ذلك(66).
ج – اتجاه الرياح
واصولها اربعة:
الشمال – بفتح الشين – ومحل هبوبها نقطة الشمال تحت القطب، وتقابلها الجنوب – بفتح الجيم -، ومحل هبوبها نقطة الجنوب قبالة القطب، والصبا – بفتح الصاد -، ويقال لها: الشرقية، ومحل هبوبها نقطة المشرق، وتقابلها الدبور – بفتح الدال-، ويقال: لها الغربية، ومحل هبوبها نقطة المغرب.
وكل ريح انحرفت عن هذه الرياح الاصول فهي فرع، ويقال لها نكباء – بفتح النون – وهي ثمانية ارياح، بين كل اصلين فرعان منها.
ومعرفة اتجاه الرياح اضعف ادلة القبلة(67).
د – الحساب
وهو اقوى ادلة القبلة عند الفلكيين، ويستدل على اتجاه القبلة بالحساب عن طريق معرفة خطوط الطول وخطوط العرض، وموقع مكة بالنسبة لها(68).
ويعتمد – اليوم – الفلكيون طريقة الحساب باستخدام الات دقيقة لمعرفة جهة القبلة، وبناء على ذلك اخترعوا الات رصدية جديدة، تبين جهة القبلة بدقة.
ه – الابرة المغناطيسية
من الاستقراء المفيد لليقين تبين انها تحدد جهة الشمال – تقريبا-، وبذلك تعرف الجهات الاربع وتحدد القبلة(69).
كما يعتمد الفقهاء، ادلة اخرى لمعرفة القبلة، كمحاريب المسلمين القديمة المتواترة، وكاخبار الثقة العالم بادلة القبلة.
واقوى الادلة عند الفقهاء لمعرفة القبلة: خبر المخبر عن يقين – وخصوصا خبر العدد الكثير البالغ حد التواتر-، ثم رؤية المحاريب، فانها كالخبر، ثم رؤية القطب، ثم الاجتهاد(70).
ويتبين لنا مما عرضنا من كلام الفقهاء: ان معرفة جهة القبلة يتوقف – بشكل كبير – على معرفة منازل الشمس والقمر، ولذا نجد ان علماءنا الافذاذ قد وضعوا جداول حسابية دقيقة لذلك(71).
3 – بداية الشهور
تحديد بداية الشهور – ونعني بها الشهور الهلالية – له اهمية كبيرة بالنسبة للمسلم، حيث يتوقف على ذلك الكثير من العبادات، من ذلك الصيام، وصلاة العيد، وزكاة الفطر، والزكاة، والحج، والنذور، والكفارات، وغير ذلك كثير.
ولذلك نرى ان فقهاءنا وعلماءنا قد اهتموا اهتماما كبيرا ببيان منازل القمر، وكيفية تحديد بدايات الشهور.
والاصل في معرفة دخول الشهر رؤية الهلال، واختلف الفقهاء في الحساب الفلكي.
ورؤية الهلال تكون بالعين، وقد حث الشارع على تحري رؤية الهلال من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته”(72).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما “تراءى الناس الهلال، فاخبرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فصام، وامر الناس بصيامه”(73).
قال الحنفية والشافعية: ان التماس رؤية الهلال واجب كفائي، وذهب الحنابلة الى استحبابه(74)، والقول الاول هو الموافق للقواعد الشرعية العامة.
ويثبت دخول اي شهر برؤية هلاله، او باكمال عدة الشهر الذي قبله ثلاثين يوما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته، فان حال بينكم وبينه سحابة، فاكملوا العدة، ولا تستقبلوا الشهر استقبالا”(75).
قال العلماء: معنى ذلك لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان(76)، واشترط جمهور العلماء رؤية عدلين لاثبات دخول اي شهر من الشهور بالجملة، واختلفوا في بعض التفصيلات.
اما الحنفية: فقد اشترطوا في حالة الصحو رؤية جماعة تحصل بهم الاستفاضة، وللمالكية قول كذلك – ولكن دون تفصيل-، ولم يتعرض الشافعية والحنابلة لذلك.
اما بالنسبة لهلال رمضان: فذهب جمهور العلماء الى ثبوت الشهر برؤية عدل واحد، لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما “تراءى الناس الهلال، فاخبرت النبي صلى الله عليه وسلم اني رايته فصامه، وامر الناس بصيامه”(77).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما انه قال “جاء اعرابي الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اني رايت الهلال – يعني رمضان – قال: اتشهد ان لا اله الا الله؟ اتشهد ان محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال، اذن في الناس ان يصوموا غدا”(78).
وقيد الحنفية اعتبار رؤية عدل واحد بكون السماء غير مصحية، بان يكون فيها علة من غيم او غبار.
ومذهب المالكية – وهو قول للشافعية -: ان شهر رمضان لا يثبت الا برؤية عدلين – كبقية الشهور-، لما ورد عن الحارث بن حاطب انه قال: “عهد الينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ننسك للرؤية، فان لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما”(79).
والاخبار برؤية هلال رمضان متردد بين كونه رواية او شهادة، فمن اعتبره رواية – وهم الجمهور – قبل فيه قول المراة. ومن اعتبره شهادة – وهم المالكية، وهو الاصح عند الشافعية – لم يقبل فيه قول المراة(80).
اما اثبات دخول الشهر بالحساب فلم يعتبره جمهور العلماء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فان غم عليكم فاقدروا له”(81).
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: “انا امة امية، لا نحسب، ولا نكتب”(82).
وذهب بعض العلماء الى اعتبار الحساب لاثبات دخول الشهر، والمسالة تحتاج الى بحث مفصل لعرض ادلة كل فريق(83).
7 – اهتمام السلف بعلم الفلك:
مما سبق عرضه في خلال البحث تبين لنا مدى ارتباط العبادات بالاهلة والمواقيت، لذا اهتم المسلمون بعلم الفلك اهتماما عظيما، وخلصوه من الخرافات التي كانت تلصقها به العامة، وبعدها عن استخدامه في معرفة المستقبل؛ لان هذا محرم في شريعتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اخاف على امتي بعدي خصلتين: تكذيبا بالقدر، وتصديقا بالنجوم”(84).
فان وجد من تكلم في هذا الشان منهم فهم قوم من الدجالين، الذين لا تخلو الامم من امثالهم، ولئن راجت كتب هؤلاء الدجالين في هذه الايام فهو من الانحطاط الذي اصاب المسلمين في اخلاقهم واصولهم، اما علماؤهم الاولون فكانوا لا يستخدمون الفلك الا لمنافعه الطبيعية الحقة، ولذلك اهتموا باقامة المراصد للكواكب، في بغداد، ودمشق، ومصر، والاندلس، ومراغة، وسمرقند.
وكان المشير الاول لحركة الرصد بالالات هو المامون، فانه لما نقل له كتاب المجسطي تاليف بطليموس تاقت نفسه الى احتذاء مثاله في رصد الكواكب بالالات، فامر باتخاذ الالات ففعلوا، وتولى الرصد بها في بغداد، وجبل قاسيون بدمشق، سنة (264).
ولما توفي المامون وقفوا عن العمل، وسجلوا ما كانوا وصلوا اليه، وسموه الرصد الماموني، وكان الذين تولوا ذلك: يحيى بن ابي منصور – كبير علماء الفلك اذ ذاك – وخالد المروزي، وسند بن علي، والعباس الجوهري، فالف كل منهم زيجا منسوبا اليه.
ثم بنى بنو شاكر مرصدا في بغداد على طرف الجسر عند اتصاله بالطاق، فرصدوا الكواكب فيه، واستخرجوا حساب العروض الاكبر من عروض القمر.
وبنى شرف الدولة بن عضد الدولة رصدا في طرف بستان دار المملكة في اواسط القرن الرابع للهجرة، فرصد فيه الكواكب السبعة: ابو سهل الكوهي.
وانشئ في مصر – في عهد الفاطميين – مرصد على جبل المقطم، عرف بالمرصد الحاكمي، نسبة الى الحاكم بامر الله المتوفى سنة (411ه). وفي استخرج ابن يونس الزيج الحاكمي، ثم اعيد بناء هذا المرصد في ايام الافضل بن امير الجويشي المتوفى سنة (515ه)، وانشا بنو الاعلم ببغداد سنة 425ه مرصدا عرف باسمهم، ولما نبغ نصر الدين الطوسي بنى مرصدا في المراغة بالتركستان سنة 857ه، انفق عليه الاموال الطائلة.
ثم بنى تيمور لنك مرصدا في سمقرقند، وبنى غيره مراصد اخرى في مصر، والاندلس، واصبهان.
فاشتغل المسلمون في هذه المراصد، فوضعوا الازياج المضبوطة – ما بين مختصرة ومطولة، وكان اطولها الزيج الحاكمي الذي وضعه ابن يونس في اربعة مجلدات، وكان عليه التعويل مدة مديدة.
ومن اشهر الازياج: زيج الغزاري – صاحب المقصورة-، وازياج الخوارزمي، وابي حنيفة الدينوري، وابي معشر البلخي، وابي السمح الغرناطي، وابي حماد الاندلسي، ونصير الدين الطوسي، وابن الشاطر الانصاري، وغيرهم(85).
6 – تلخيص البحث ونتائجه
(1) كان اول امر قمنا به: هو تعريف المبحوث فيه، وهو الاهلة والمواقيت؛ لان الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
(2) ثم بينا حقيقة الالتزام، بانه الزام الشخص نفسه ما لم يكن لازما، ثم بينا مرادفاته: كالعهد، والوعد، والعقد… الخ.
(3) ثم حاولنا التمييز بين مفهوم العبادات والمعاملات، ومظاهر ذلك في الفقه الاسلامي، ونقلنا في ذلك كلاما قيما للعز بن عبد السلام.
(4) ثم بينا مجمل الالتزامات الشرعية في مجال العبادات، وقسمناها الى عبادات: بدنية، ومالية، وجامعة، وقسمنا البدنية الى قلبية وفكرية وجسدية.
(5) ثم بينا مفهوم الاداء والقضاء، وسببية الوقت للاحكام، واهتمام المسلمين بعلوم الفلك، مع ذلك امثلة تفصيلية توضح القضايا الاجمالية.
وقد تبين لنا من كل ذلك اهمية دراسة الاهلة والمواقيت، وضرورة الاهتمام بها، وضبط جداولها ومواعيدها، حتى يستطيع المسلم ان يؤدي عبادته على بصيرة، ولا يقع في حرج، لما يراه من اختلاف ونزاع بين المسلمين في تحديد اوائل الشهور، او مواقيت بعض العبادات.
فنسال الله الرشاد، وان يجمعنا على الهدى، والحمد لله اولا واخرا.
- الرقية الشرعية و اوقاتها
- اشتكت زوجة احد الانصار انه لايقوم لصلاة الفجر الا بعد شروق الشمس
- المواقيت الشرعية لقضاء المدينة