السؤال
فى تاريخ علماء المسلمين والمحدثين ما يحكى عن ان كثيرا منهم عندما يخرج لطلب العلم كان يمشي ولا يركب واذا عرض عليه الناس ان يركب معهم اكراما له يرفض ويقول ما كان لي ان اركب وانا اطلب حديث رسول الله, كذلك في الحديث ان رجلا كان ابعد الناس عن المسجد ولما طالبه الناس ان يتخذ دابة تعينه رفض منتظرا الثواب من الله ثم اخبره الرسول صلى الله عليه وسلم ان الله جمع له ما يتمنى من الثواب، والسؤال هو: لماذا يرفض العلماء ان يركبوا او هذا الصحابى، اليس فى ذلك اخذا لاسباب الله التي يسرها لنا، ثم ثانيا: اليس فى ذلك تيسيرا اكثر فى الوقت ومن ثم يتسنى وقت اخر لامور اخرى يتقربون بها الى الله او ينفعون بها الناس، وثالثا: اليس فى ذلك راحة الجسد وذلك فيما ليس فيه حرام؟
الاجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه، اما بعد:
فقد وردت عدة احاديث في بيان ان المشي الى بعض العبادات افضل من الركوب اليها، فمن ذلك المشي الى صلاة الجماعة كما في الحديث الذي اشار اليه السائل وهو في صحيح مسلم عن ابي بن كعب قال: كان رجل لا اعلم رجلا ابعد من المسجد منه وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني ان منزلي الى جنب المسجد، اني اريد ان يكتب لي ممشاي الى المسجد ورجوعي اذا رجعت الى اهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك ذلك كله.
فهذا الصحابي كان مستقرا عنده ان مشيه الى المسجد اعظم لاجره من ركوبه اليه وقد اقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومن ذلك ايضا المشي الى صلاة الجمعة لما اخرجه احمد وابو داود والنسائي وابن ماجه، عن اوس بن اوس الثقفي، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الامام فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة اجر صيامها وقيامها.
ومن ذلك ايضا المشي الى صلاة العيد، فقد روى الترمذي عن الحارث عن علي بن ابي طالب قال: من السنة ان تخرج الى العيد ماشيا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن والعمل على هذا الحديث عند اكثر اهل العلم يستحبون ان يخرج الرجل الى العيد ماشيا.
ومن ذلك المشي عند تشييع الجنازة كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 24279.
فيدل ذلك كله على استحباب المشي الى العبادات والقربات وان ذلك افضل من الركوب، ولكن ذلك مقيد بما اذا لم يشق المشي مشقة ظاهرة ويضعف ويقعد عما هو اولى منه وافضل، او يكون مفوتا لما هو احب الى الله، فان الله تعالى لا يحب ان يترك الاحب اليه بفعل ما هو دونه، ولذا جاء في نهاية المحتاج الى شرح المنهاج: ويشبه ان يكون الركوب افضل لمن يجهده المشي لهرم او ضعف او بعد منزله بحيث يمنعه ما يناله من التعب الخشوع والحضور في الصلاة عاجلا.
ويتايد ذلك بانه قد ثبت في الاحاديث الصحيحة ان النبي صلى الله عليه وسلم حج من المدينة راكبا ولم يمش اذ ان المشي هذه المسافة الطويلة مظنة التعب والاجهاد الزائد الذي يمنع مما هو اولى منه، وفي حديث عقبة بن عامر: ان اخته نذرت ان تحج ماشية فسال عقبة عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مرها فلتركب فظن انه صلى الله عليه وسلم لم يفهم عنه فلما خلا من كان عنده عاد فساله، فقال: مرها فلتركب فان الله عز وجل عن تعذيب اختك نفسها لغني. رواه احمد.
وبهذا يظهر جواب ما استشكله السائل من كون الركوب اولى اخذا بالاسباب التي يسرها الله لنا وحتى يتم انجاز واستثمار اكثر للوقت مع اراحة البدن فان محل افضلية المشي هو اذا لم يشق مشقة كبيرة او يمنع مما هو افضل واحب الى الله تعالى، وفي هذا يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: مما ينبغي ان يعرف ان الله ليس رضاه او محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كل ما كان اشق كان افضل كما يحسب كثير من الجهال ان الاجر على قدر المشقة في كل شيء، لا ولكن الاجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته… الى ان قال: هذا في كل عبادة لا تقصد لذاتها مثل الجوع والسهر والمشي.
والله اعلم