حشد كبير وجد في جنازته ملاذا للتعبير عما اصابنا. شيع مصحوبا بالثناء والاشادة. اسرع النعش بنا بصورة مذهلة كعصفور قاصدا ايكه او محبوب يسعى للقاء الاحبة.
رحيله فجر الجمعة وسرعة التجهيز والجامع الذي امتلا عن اخره في صلاة الجمعة بشارات جاءت كلها مطمئنة. غياب حازم القى على عاتقي المسؤولية ودورا ثقيلا حرصت على تاديته كما لو كان بيننا.
حضوري الغسل ونزولي القبر لاواريه الثرى زادني هما فوق الهموم المكدسة. ومع ذلك اشفقت على المسكين الذي عندما يعود سيجد اباه وقد تنحى.
عند القبور تهون الدنيا، ففي اللحد يستوي ما نتقاتل عليه وما نزهده. ففقط بنظرة الى كل تلك الاجداث المرصوصة وشواهد القبور المتلاصقة استشعرت قيمة اني ما زلت احيا، وادركت قيمة تلك الفرصة التي لا يحظى بها كل من هنا.
اربك الجميع تزامن العزاء والخطاب المعلن عنه مسبقا. خروجنا المتدافع الى الشارع انسانا فقيدنا واعادنا فتية نهرع اليه اذ دعانا كما في ايام الثورة الاولى. ميدان التحرير بحر هادر من لحوم الرافضين لقراره المصرين على استمراره في موقعه.
نفس توسل خالتي وبناتها صباحا عند خروج فقيدهم الغالي. سحبي معهم في تيار التعدي على حرية من يابى الا ان يتركنا اخذ مني البقية الباقية من عافيتي الخائرة، وتركني في الرمق الاخير على شفا السقوط في هاوية اقدام المتدافعين هنا وهناك بشدة، لاستحالة الخروج من نهر جارف ضفتاه نساء يبكين ويلطمن الخدود، ورجال يصرخون باعلى صوت “ابقى؛ ابقى”، فالشعب اختار زعيمه برغم النكسة، فهو يراها بالنسبة لقامته العملاقة مجرد كبوة لا بد ان يتخطاها. فمن ذا الذي يرضى ان يدفن اباه حيا حتى ولو كان مصابا او مهزوما؟
هذا هو العزاء الحقيقي الذي استحقه في هذا اليوم كل منهما.
* * * * *
وكان كل شيء بعد الماساة جائز: “وان اتنحى تماما ونهائيا عن اي دور سياسي…”
كيف يعقل ان نقبل. الا يكفي عمي.
بصرختها التي ارعبتني واسراعي اليها وانا كلي يقين انه لا يمكن ان يخذلني. لم ينتظر الصباح. كانت ليلته من الصعوبة بحيث اتمها بالكاد، ومع الاذان ودعته نسائم الحياة لتنضم خالتي لجموع ارامل هذا المنزل، ويخيم الحزن عليها بمخلبه الابدي.
ارتميت عليه احتضن البقية الباقية من الاب الذي لم اعرف غيره ابا.
برودة الموت ورهبته تحدث بالبدن قشعريرة غريبة كالواقف على بحر لجي تخطفه الوحدة. قدسية الرحيل برمتها احاطت اجسادنا المكلومة فكستنا بالسواد من اول لحظة.
لها تنحى لتتسلم القياد ولاول مرة. كونه قعيدا لم يسلبه ابدا الهيمنة. صوت الرجل في البيت لا يوازيه شيء يا هدى حتى ولو كان همهمة. يشعرك ان الدنيا دنيا. حتى بعد الحادث ورحيل ماجد والحزن الذي خيم بظلاله على الاسرة باكملها وعدم مقدرته على المشاركة في الحياة او الحركة الا انه ظل دعامة هذا البيت لنا ولكل الاسر من حولنا.
طنط اليجرا تستشيره في كل امورها: كيفية السيطرة على سامي وسمير بعد موت ابيهم في سن حرجة. ايجاد مشتر للعزبة. المعاملة مع المستاجر الذي يحاول اغتصابها منها. والموافقة على المهندس اسحاق بباوي كخطيب لسيسيل كانت شيئا اساسيا والا ما تمت الخطبة وخاصة انه كان حديث التخرج وامكانياته المادية ضعيفة. وساطتي عنده بدافع من سيسيل عجل بالموافقة. وطنط بهية تاخذ رايه في كل صغيرة وكبيرة وفى اختيار المستاجرين لشقتها المفروشة.
الشلل انتصر على الاطراف، لكن العقل ظل متقدا يعمل بكفاءته الاولى، الا انه ظل لاخر ايامه يبحث عن ملابسات ما جرى: اكان عبد الفتاح مخمورا ام مخدرا؟ ام ان ماجدا هو من كان يقود مستغلا حب عبد الفتاح له بالرغم من تحذير عمي بالا يسمح لمن لم يتجاوز السابعة عشرة بالقيادة؟
لن انسى ما حييت منظره وهو ينصرف يوم الحادث ضاربا عنقه بكفه، مؤكدا لعمي الولاء والطاعة. عنتريته الزائفة اضاعت رقبته التي لم تف بمسؤوليتها ليستمر بعدها في البكاء ليومين كاملين دون ان ينبس ببنت شفة، لتجده زوجته الثانية صباحا ميتا في سريره.
اكان انتحارا ام موتا طبيعيا؟ ما عرفنا. رحلا ليدفن معهما سرهما، ومن منهما كان المتسبب في تلك المصيبة. ظل السؤال المحير لنا جميعا ليومنا هذا.
– See more at: http://www.oudnad.net/spip.php?article999#sthash.j4YtOezq.dpuf