السلام عليكم
اخباركم ان شاء الله تمام
لقد قرات هذه الروايه فى منتدى اخر
وعجبتنى جدا
لذلك حبيت انى اعرضها عليكم
واتمنى تنال اعجابكم مثلى
واسمها سيدة الشتاء للكاتبه Blue me
اليكم الفصل الاول
سحر شيطان
– مئة وثمانون سنتيمترا..
قدرت (جودي) بصمت طول الرجل الواقف في احدى زوايا المطعم ..
يتحدث الى مدير المطعم مانحا اياها ظهره .. لم تكن قادرة على تمييز ملامح وجهه .. ولكنها استطاعت بالتاكيد وبوضوح ملاحظة تناسق جسده النحيل وعرض كتفيه وهو يهزهما تجاوبا مع كلمات محدثه ورشاقة يديه وذراعيه وهو يلوح بهما معترضا ..
ما الذي اصابها ؟ لم تكن هذه المرة هي المرة الاولى التي تلمح فيها رجلا جذابا .. ولكنها لم تشعر ابدا بهذا التقلص في معدتها والاضطراب من النظرة الاولى نحو اي رجل
حتى عندما قابلت طارق للمرة الاولى لم تشعر بهذه الطريقة ..راقبت بدقة كيف اخذ يسير برشاقة خطيرة الى جانب المدير متجها نحو مكان ما داخل المطعم .. لابد ان يكون وسيما ..
لايمكن ان يمتلك اي شخص كل هذه الثقة بالنفس في خطاه ان لم يكن وسيما .. فقط لو يستدير قليلا …..
بدا واضحا انه ليس نادلا .. فهو لا يرتدي الزي الرسمي للعاملين في المطعم ..
وليس زبونا ايضا فملابسه ابسط بكثير من ان تلائم مكانا بهذه الفخامة .. كان يرتدي سروالا من الجنز الباهت اللون وقميصا قطنيا اسود .. ملابس بسيطة ورخيصة ..
ما لذي يفعله رجل ذو موارد محدودة في مكان كهذا ….
ابعدت نظرها عنه مرغمة عندما دوى صوت رنين هاتف (طارق ) المحمول ..
التفتت نحو خطيبها الذي رفع هاتفه نحو اذنه مستقبلا احدى مكالماته المهمة قاطعا حديثه مع (بشار) بينما سالتها (ريما ) خطيبته وصديقتها المقربة :- اين كنت شاردة الذهن .. بدوت وكانك على بعد اميال ..
ارتبكت (جودي )وخشيت ان تكون صديقتها او احد الرجلين قد لاحظ انها كادت تلتهم شابا غريبا بنظراتها .. نظرت باضطراب الى حيث كان الشاب الجذاب واقفا الا انه كان قد اختفى .. نظرت ريما الى حيث كانت جودي تبحث بعينيها قائلة بفضول :- ما الامر ؟ هل رايت شخصا تعرفينه ؟
احمر وجه جودي للحظات ثم سيطرت على اضطرابها بسرعة قائلة :- بالتاكيد لا كم شخص مما اعرفهم معتاد على ارتياد مكان كهذا ؟
– قال بشار متظاهرا بالتفكير : – دعيني افكر كم شخص مما اعرفهم
انا قادر على ارتياد مكان كهذا ؟ اه .. اثنان .. جودي وطارق
ضحكت ريما بينما قالت جودي باحتجاج :- هذا غير صحيح ولكنا كانت تعرف تماما بان طارق مهووس بالاماكن الراقية ولا يرتاد غيرها ..
تاملت المطعم الفخم .. انه جزء من اشهر سلسلة مطاعم في المدينة ..
يتميز بديكوراته الراقية والكلاسيكية .. مع الانارة الخافتة والرومانسية للمكان وبالخدمة الممتازة والاسعار الباهظة ..
طبعا هي كانت قادرة على تحمل تكاليف مكان كهذا بفضل المصروف الكبير الذي تحصل عليه من والدها كل شهر ..ولكنها مع هذا لم تكن تحب الاماكن
الباهظة والمتكلفة .. بل تفضل تناول بعض الساندويتشات الخفيفة برفقة اصدقائها في احد مطاعم الوجبات السريعة المحيطة بالحرم الجامعي
.. ولكن طارق كان صاحب الدعوة .. ولولا حماس كل من بشار وريما لما وافقت على اختياره
قالت ريما :- يعجبني المكان .. انه اشبه بالحلم .. ولكن
لا يمكن للانسان ان يكون مرتاحا وامن ياكل بسلام وحوله كل هذه الفخامة
قال بشار مداعبا :- لهذا اصطحبك دائما الى الاماكن البسيطة التي تحبينها .. يهمني ان تشعري بالراحة اثناء الاكل معي .
قالت ساخرة :- نعم .. لهذا السبب بالتاكيد وليس لانك بخيل للغاية
وعاجز عن انفاق بعض القروش لاسعاد خطيبتك .
احاط كتفيها بذراعه وهو يقول :- لا تبداي بالهجوم ..
ما انا الا طالب مسكين على وشك التخرج ولا يمتلك اكثر من مصروف يده
قالت :- ماكان عليك التورط بخطبتي ان لم تكن قادرا على تلبية متطلباتي
اطلت من عينيه نظرة هيام وهو يقول :- تعرفين بانني
لا استطيع الابتعاد عنك لحظة .. ولو لم اتقدم لخطبتك لقتلني والدك في حال اقترابي منك .
اختفى تهكمها فجاة ومنحته ابتسمة ساحرة
وهي تقول :- ماكان ليوافق على خطبتنا لو لم اهدده بالهرب معك .. فانت الشخص الذي لن احب غيره ابدا .
حسنا … من كان صاحب فكرة دعوة هذا الزوج العاشق ؟ ..
بالتاكيد لم تكن فكرة جودي .. فبالرغم من انها تحب صحبة ريما التي كانت صديقتها طيلة السنوات التي قضتاها في كلية الاداب .. وبشار طالب الهندسة الذي تعرفت جودي الى طارق من خلاله .. الا ان تواجدهما معها يصيبها بالاحباط .. ويذكرها دائما بالحلقة المفقودة بينها وبين طارق .. مع انهما متحابان الا ان تلك
الشرارة التي تميز علاقة بشار وريما لم تكن موجودة ابدا في علاقتهما .. رمقت طارق بطرف عينها .. مازال يتحدث هاتفيا وقد تركزت حواسه بشكل تام مع محدثه .. يجب الا تقارن علاقتها بطارق ابدا بعلاقة الزوج الجالس امامها
فبينما بشار مجرد طالب يجاهد للتخرج من الكلية ..
ولديه من الوقت ما يكفي ليقضيه برفقة خطيبته .. فان طارق بالرغم من صغر سنه فهو ابن احد اثرى رجال الاعمال في المدينة .. انخرط في عالم الاعمال فور تخرجه من الجامعة .. ولا وقت لديه ليضيعه مع خطيبته الحالمة .. فعليا .. طارق هو الرجل المثالي .. تعرفت اليه منذ اشهر في حفلة زفاف كبيرة اقامها احد معارف والدها لابنه البكر .. وكالعادة كانت هي مرافقة والدها لرفض شقيقتها الكبرى القاطع حضور هذه الحفلات المزيفة والسطحية .. وطارق كان هناك بصفته ابن عم للعريس .. اعجبت به من النظرة الاولى .. اعجبتها ثقته بنفسه .اناقته المفرطة .. هدوءه وتصرفاته اللبقة والمهذبة .. ظهر اهتمامه بها منذ عرفه بشار اليها .. وهو قريب اخر للعريس .. بعد ذلك التقت به مرة او اثنتين .. ثم تقدم لخطبتها فورا .. هكذا كان دائما .. مباشرا وواضح النوايا .. لا وقت لديه لترهات العاشقين .. قابلها .. اعجب بها .. احبها .. ووجد انها الشريكة المثالية له فاتخد الطريق الاسهل والاسرع ..وافق والدها فورا .. ولم يبذل اي جهد في اقناع جودي بانه الرجل المناسب لها .. ثري .. ناجح .. ومن طبقة اجتماعية راقية تناسب اسم العائلة العريق .
لم تتردد جودي في اعلان موافقتها .. فقد كان حلمها منذ الطفولة ان ترتبط بالرجل المثالي .. في الواقع ..
لقد كان هذا حلم والدها .. ان يزوج ابنتيه الوحيدتين لشخصين مناسبين له هو .. غير مبال رايهما ..
.. ربما لهذا السبب علاقته بشقيقتها اماني ليست جيدة منذ سنوات ..فبينما يحاول هو فرض سيطرته عليها تقاومه هي كالقطة المتوحشة محاولة التحرر بشخصيتها وكيانها عنه .. لحسن الحظ ان جودي هي ذات الطبع السلس والسهل الانقياد في العائلة .. فطموحاتها لم تتجاوز ابدا ارضاء والدها وايجاد الزوج المناسب .. والعيش بسعادة وهناء ..
وهي الان في طريقها لتحقيق كل هذه الطموحات .. فهي مخطوبة الى طارق منذ ستة اشهر وستزف اليه فور انتهاء السنة الدراسيو وتخرجها من كلية الاداب .. والكل متحمس باستثناء اماني المعترضة دائما ..
ولكن ماهي الا مسالة وقت قبل ان تقتنع بطارق عندما تلاحظ كم هي سعيدة معه .
..انهى مكالمته اخيرا .. وقال مخاطبا اياها :- انا اسف يا حبيبتي .. كانت مكالمة مهمة .
منحته ابتسامة باهتة .. جميع مكالماته الهاتفية مهمة للغايةباستثناء مكالماتها .. لا تذكر عدد المرات التي قطع فيها اتصالاتها وتحاشى الاجابة عليها لانشغاله في عمله .
.. سرعان ما عاد الحديث المرج والشيق يدور بين الاربعة ..
ارتفعت ضحكة جودي عاليا عندما اخدت ريما تحكي عن الرسومالكاريكاتورية التي رسمتها جودي والتي تمثل معظم اساتذة الكلية .. وطبعت منها عدة نسخ ونشرتها بين الطلاب .. وعن ردة فعل الاساتذة على مبادرتها بين معجب وساخط .. قالت ريما ضاحكة :- والمعجزة ان احدا لم يعرف بان جودي هي الفاعلة
ضحك طارق وهو يداعب شعرها الكستنائي الطويل والمحيط بوجهها البيضاوي الجميل بنعومة وقال :- يجب ان تقلعي عن شقاوتك هذه بعد ان نتزوج .. لا اعتقد بان قلبي قادر على احتمال احد مقالبك
منحته ابتسامة عريضة وقالت :- ستلاحقك شقاوتي الى اخر يوم في حياتك .. هل تظن بان تجرؤك على طلب يدي والزواج مني قد يمر دون ان تعاني من العواقب ؟
.. ارتفع في هذه اللحظة صوت عزف رقيق على الجيتار .. لحن ناعم وشاعري ..
تعرفت جودي على اغنيتها المفضلة فاستدارت تبحث بعينيها عن العازف الذي ظهر فجاة .. وقد كان هناك .. جالسا فوق المنصة الصغيرة التي تصدرت المطعم .. ممسكا بجيتاره بين يديه معانقا اياها وكانه يعانق حبيبته .. مسبلا عينيه المظللتين برموش كثيفة داكنة . في
اندماج تام مع اللحن الذي يعزفه
.. خفق قلب (جودي ) بقوة .. لقد تعرفت على صاحب الملابس البسيطة والجسد الطويل الساحر .. انه نفس الرجل الذي لفت نظرها منذ دقائق دون حتى ان ترى وجهه .. ومن مقعدها المواجه له ..
تمكنت من تبين ما ظهر من ملامحه تحت الانارة الخافتة وعبر المسافة الفاصلة بينهما .. ميزت حاجبين كثيفي السواد منعقدين بتاثر مع الالحان الرائعة التي كان يبدعها .. انف مستقيم وفم مغر بشفتين ممتلئتين شهوانيتي التاثير .. وجنتين منحوتتين اعطت وجهه شكلا كلاسيكيا فريدا ..
يا الهي .. هل يمكن ان يمتلك رجلا واحدا كل هذا الكمال .. لك تتبين عينيه جيدا .. ولكنها حدثت نفسها برجاء بانهما ربما كانتا ضيقتين .. او مقاربتين .. وربما جاحظتين .. اي شيء الا ان تكونا بمثل كمال ملامحه ..
تعلقت انظارها بيديه وهما تداعبان اوتار الجيتار بحنان واحتراف .. بدت اصابعه طويلة و نحيلة .. ولسبب ما توردت وجنتاها .. وابتلعت ريقها باضطراب ..
ما الذي اصابها ؟ لقد فقدت عقلها تماما .. لو عرفت اماني بما يتصارع داخلها من مشاعر لسخرت منها طويلا .. وتشفت في كل ذرة اضطراب تغزو روحها ..
.. احس طارق بنظراتها فقال باسما :- هل اعجبك عزفه؟
اعرف انك تحبين الموسيقى .. يبدو انه عازف جديد فانا لم اره هنا من قبل
تمتمت بصوت حاولت ان يكون لا مباليا :- حقا ؟ لا باس به .
عادت تنظر الى عازف الجيتار المجهول .. وهي لا تكاد تسمع شيئا من ثرثرة مرافقيها ..
هناك شيء يمنعها من ازاحة عينيها عنه.. لم تعرف ما هو .. لم يكن اول رجل جميل تقابله .. فطارق لا يقل عنه وسامة ..
ولكن هناك شيء لا تفهمه يميز هذا الرجل .. الذي رفع راسه فجاة ونظر اليها ..
وكانه قد احس بنظراتها المركزة عليه ..
.. احست جودي بالمكان يظلم من حولها .. وبوجود الاخرين يتلاشى ..
حتى الموسيقى لم تعد تجد طريقها اليها .. شيء ما حبس انفاسها في اللحظات التي التقت فيها نظراتهما .. شعور غير مالوف بالخوف امتد ليزحف على طول عمودها الفقري . . كحال الفريسة عندما تشعر بعيني قناصها عليها ..شهقت اخيرا سامحة للهواء ان يدخل الى رئتيها .. وحررت نفسها من اسره بالالتفات بعيدا وهي تحاول السيطرة على اضطراب انفاسها ..
مما جذب انتباه طارق الذي سالها بقلق :- هل انت بخير ؟
ظرت اليه بذعر .. ثم الى صديقيها اللذين نظرا اليها بحيرة ..
ثم قالت بعصبية :- عن اذنكم .. ساجري مكالمة هاتفية .قفزت من مكانها فلحقت بها ريما قائلة :- سارافقك
غابتا داخل اخد اروقة المطعم الداخلية المؤدية الى الحمامات ..
راقبت ريما صديقتها وهي تخرج هاتفها وتضغط ازراره باصابع مرتعشة ..
وقالت بريبة :- انت لست طبيعية .. ليس من عادتك قطع احدى جلساتك لتتصلي باماني .
رفعت جودي الهاتف الى اذنها قائلة بتوتر :- احتاج الى ان اكلمها علها تستعيد شيئا من تعقلها .. او تستمد من اختها القليل من قوتها ..
كالعادة كان هاتف اماني مقفلا .. تاففت بضيق فقالت
ريما وهي تنظر الى وجهها متفحصة :- انه طارق .. تنتابك من جديد تلك الشكوك والوساوس بشان علاقتك به صحيح ؟
تنهدت جودي قائلة :- انت محقة .. مازال ذلك الاحساس ينتابني بان ثمة شيء ناقص في علاقتنا
والا ما الذي يفسر انجذابها الى رجل غريب بينما خطيبها على بعد سنتيمترات منها ؟
قالت ريما بانزعاج :- انها اماني بالتاكيد .. هل عادت تعبث بعقلك مجددا ؟
ليس سرا انها لا تطيق طارق .. ولكن ليس من حقها ابدا ان تفسد عقلك بوساوسها ..
تمتمت جودي :- كل مافي الامر انها تريدني ان اتاكد من مشاعري قبل ان ارتبط به نهائيا
قالت ريما بسخرية غاضبة :- ما الذي تعرفه اماني عن المشاعر ؟ انها فتاة عاملة قررت ان تكرس حياتها لصنع تلك الهالة حولها مانعة اي رجل من الاقتراب منها وتريد ان تصنع منك نسخة اخرى عنها .. في الواقع اظنها تغار منك لانها لن تجد ابدا رجل كطارق يحبها كما يحبك
.. حسنا .. لم تدهش جودي لمشاعر ريما السلبية اتجاه اماني ..فهي تعرف من زمن بكراهية كل منهما للاخرى .. ولكن ما تظنه ريما باماني غير صحيح .. هي اكثر من يعرف اماني ..
تعرف جيدا كم هي عاطفية وضعيفة .. وان عاطفيتها كانت السبب في تحطيم علاقتها بوالدها وبجنس الرجال ككل
تمتمت في النهاية :- لا علاقة لاماني في الموضوع
:- ما المشكلة اذن ؟
زفرت اماني عاجرة عن البوح بالسبب الحقيقي لتوترها فصاحت فجاة بحنق :-
:- ايجب ان تقومي انت وخطيبك في كل مرة يتلك المشاهد الغرامية المبتذلة امامي ؟
ان لم تعلمي فهناك فنادق رخيصة وجدت خصيصا لهذا الغرض ..
او ربما عليكم الزواج عل مشاعركما الحبيسة تتحرر اخيرا.. حدقت فيها ريما بدهشة وهي تقول غير مصدقة :- اهذا ما يضايقك ؟
قالت جودي بعصبية :- طبعا هذا يضايقني عندما يجلس خطيبي كاللوح الى جانبي عاجز عن توجيه كلمة رقيقة واحدة نحوي .. يا الهي احيانا لا احس بانني مخطوبة .. كيف سيكون الحال بعد عشر سنوات من الزواج ؟ بالكاد سيوجه لي الكلام
ساد الصمت لبضع ثوان قبل ان تنفجر ريما ضاحكة وهي تقول :-
انت مجنونة بالتاكيد .. طارق يحبك جدا .. انه متحفظ بطبعه ليس الا .. انا متاكدة بانه سيجد اكثر من طريقة ليعبر لك عن حبه دون ان يتكلم بعد عشر سنوات من الزواج .. توقفي عن التصرفات الطفولية ..
ولنعد الى طاولتنا قبل ان يقلق الشباب .
قالت جودي بعناد :- لست جاهزة بعد .. ساصلح زينتي
استدارت نحو المراة غطت الجدار خلفها .. ونظرت الى وجهها الشاحب وعينيها الزيتونيتين المنحرفتي الزوايا والشبيهتين بعيني القطة وقالت :-
ابدو مرعبة تماما .. لا عجب ان طارق لا يعيرني اي اهتمام
لم تشعر بان صديقتها قد تركتها وعادت الى الطاولة بينما اقتربت هي ممن المراة وتحسست ذقنها قائلة برعب :- هل ترين هذا ؟
لقد ظهرت بثرة مخيفة في دقني .. ان لم اجد حلا للفراغ العاطفي الذي اشعر به .. فسيمتلئ وجهي بالبثور
دوى صوت رجولي ذو بحة مثيرة :- هل يمكنني المساعدة ؟
استدارت بسرعة مجفلة .. لتنتفض برعب لرؤية الشخص الواقف امامها .. كان ينظر اليها بعينين داكنتين واسعتين .. يتفحص ملامحها المتشنجة دون حرج .. انه ذلك الرجل الجذاب الذي دفعها للهرب من صالة المطعم .. الا انه هذه المرة على بعد اقدام عنها .. تلاحقت انفاسها وهي تقول باضطراب :- ريما .. اين ؟ …
توقفت عن التفوه بالكلمات المتقطعة والغير مفهومة .. واخذت تنظر من فوق كتفه بحثا عن ريما
القى نظرة عابرة الى الخلف قائلا:- هل تقصدين الفتاة التي تجاوزتني منذ لحظات ؟
لا .. هي لم تخطئ .. فلصوته العميق رنين غير عادي يشبه الموسيقى .. موسيقى غامضة ومثيرة .. مثله تماما .. تنحنحت قائلة :- سالحق بها اذن .. عن اذنك
ما ان تحركت .. حتى اعترض طريقها بذراعه مسندا اياها الى الجدار .. فاطلقت شهقة مكتومة وهي تتراجع ذعرا .. وقد قربته تلك الحركة منها بشكل جعل جسدا ينتفض بالم غيرمفهوم عندما لفحته جاذبية الجسد النحيل الصلب
احنى راسه ليجتذب بصرها قائلا بنعومة :- بهذه السرعة .. ظننتك استدرجتني الى هنا للتعرف الي
عندما نظرت الى عينيه مذهولة فكرت بانه لي من العدل ان يمتلك رجلا مثله عينين كهاتين .. لقد بدا لها من بعيد خطيرا بجاذبية خيالية لم تقابل مثلها من قبل .. اما الان .. وقد رات عينيه اللوزيتين العميقتين .. بلونهما البندقي الدافئ .. ونظراته القادرة على اذابة جبل من الجليد .. ادركت جودي بان هذا الرجل شيطان يمشي على قدمين .. والدليل كلماته المستفزة التي بثت شيئا من الغضب داخلها ومنحتها القوة لتقول بشجاعة :-
:- انا لا اعرف عما تتحدث
شعرت به يقترب منها فتراجعت حتى التصقت بالجدار .. وضغطت عليه بجسدها وهي ترفع عينيها نحوه بعجز وقد انتابها احساس بالاسر .. تمتم بخفوت ودون ان يحرك شفتيه تقريبا :- بل تعرفين بالضبط ما اتحدث عنه .. لقد ضبطتك تنظرين الي قبل دقائق .. ولا تحسبي انني لم افهم مغزى نظراتك .. استطيع تمييزها عن بعد اميال.
حبست انفاسها عندما اخترق عطره الرجولي رئتيها .. واثر بشكل سحري على حواسها المرتعدة .. رطبت شفتيها باضطراب وهي تقول :- اسمع ايها السيد .
قاطعها بنعومة :- (تمام محفوظ)
فكرت مبهورة .. (تمام ) اي اسم غريب لشخص غير عادي مثله .. هزت راسها لتستعيد تركيزها قائلة :- سيد .. تمام .. لقد اسات فهمي .. لم اقصد شيئا من بالنظر اليك .. كما انني لست وحدي هنا .. انا برفقة خطيبي
نطقت بالكلمة الاخيرة بحدة .. كالغريق الذي تعلق بقشة .. واخفت ذهولها من نسيانها التام لخطيبها الجالس على بعد امتار في انتظارها .. او عدم لجوئها حتى الان الى الصراخ اجتذابا لمن ينقذها من هذا الجحيم الذي وجدت نفسها فيه ..
ذكرها لخطيبها جعل بريقا قويا يشع في العينين الداكنتين .. والشفتين الجذابتين تتوتران للحظة .. ثم سرعان ما انفرجتا عن شبه ابتسامة مدمرة وهو يقول بتهكم :- هل من المفترض بذكرك لخطيبك ان يصرفني ؟ او يبعدني عنك ؟ لو انك تهتمين لامره حقا لما بادلتني تلك النظرات التي طالبتني فيها باللحاق بك .. لما كنت هنا الان .. معي .. ولا شيء يرغمك على البقاء
فقدت اعصابها عندما مست كلماته وترا حساسا .. وصاحت بحدة :- هلا ابتعدت عن طريقي
وعندما لم يتزحزح من مكانه رفعت يديها بلا وعي الى صدره لتدفعه عنها .. ولكن ما ان شعرت اصابعها بعضلات صدره القاسية تحت القميص القطني الرقيق .. حتى احست بتيار عنيف يسري في جسدها على شكل انتفاضة قوية .. انزلت يديها بسرعة بعيدا عنه .. وعادت تلتصق بالجدار وقد احالها الرعب الى قطعة منه .. شعر الشيطان بذلك البركان الذي ايقظه داخلها .. بالتاكيد .. فهو كما يبدو خبير بتاثير في النساء .. بعكسها هي التي لم تعرف يوما شعورا مشابها
ولكن عندما نظرت الى وجهه .. وجدت لهيبا يتراقص في العينين العابثتين .. وقد انفرجت شفتاه باضطراب اذهلها هي نفسها .. لقد احس بدوره بذلك التيار الغامض الذي سرى في الاتصال الجسدي الوحيد الذي جمع بينهما
همس :- اترين ؟ هناك شيء ما يجمعنا .. لقد قدر لنا ان نلتقي وقد عرفت هذا منذ وقعت عيناي عليك عناك بينما كنت اعزف
فتحت فمها في محاولة يائسة منها للاعتراض ..ولكنه سبقها قائلا :-
:- لا تحاولي ان تفهمي .. ولا تقاومي الحقيقة التي اكتشفها كلانا منذ لحظات .. انت لي .. ولن تكوني لغيري ابدا .
عقد لسانها .. واتسعت عيناها الخائفتان .. الا ان انفاسها اخذت تتلاحق باثارة .. جذبت عينيه الى حركة صدرها السريعة .. رفع نظره الى وجهها ليتامل تقاطيعه الناعمة والجميلة .. عينيها البريئتين .. انفها الدقيق وفمها الوردي المثير .. ثم وقف نظره عند تلك البثرة الحمراء الصغيرة التي اشارت اليها قبل دقائق .. رفع يده ليلمسها بانامله .. فاغمضت عينيها كابحة رجفة الاثارة التي لحقت بلمسته الخفيفة .. وقال بصوت مثير :-ان كان سببها الفراغ العاطفي .. فانا اعدك بانها ستختفي قريبا
فتحت عينيها .. وترقرقت فيها دموع لم تفهم سببها .. وبدون ان يقول شيئا .. تناول هاتفها المحمول من بين اصابعها المرتعشة وعبث به للحظات .. فصدر ازيز خافت من هاتفه المعلق بحزامه الجلدي .. ثم اعاد هاتفها الى يدها .. وابقاها بين يديه طويلا وهو ينظر الى عينيها قائلا بثقة :- سنتحدث لاحقا
واذ بصوت ريما يدوي من خلفه بتوتر :- جودي
اعادها صوت ريما الى الواقع فسحبت يدها من بين يديه بسرعة .. ونظرت الى صديقتها باضطراب .. اما هو فلم يبدو مستعجلا وهو يعتدل في وقفته ببطء دون ان يلتفت الى ريما او يعيرها اي اهمية .. اطلت من شفتيه ابتسامة جانبية حملت الكثير من السخرية والعبث وهو يردد :- جودي
وبهدوء تجوز ريما واختفى عن ناظريهما .. هنا سمحت جودي لساقيها ان تخذلاها .. فتشبثت بالجدار لاهثة .. محاولة اكتشاف ان كان ما حدث لتوه مجرد حلم ام لا
اقتربت ريما قائلة بحدة :-من يكون هذا الرجل يا جودي ؟.. ولماذا كان قريبا منك الى هذا الحد ؟ لقد كاد طارق يبحث عنك بنفسه عندما تاخرت .. ماذا كنت ستفعلين لو ضبطك في هذا الوضع المشبوه مع … مع عازف الجيتار الجديد ؟ ما الذي اصابك يا جودي ؟
لم يبدو على جودي انها قد فهمت كلمة مما قالته ريما .. اذ كانت نظراتها مذهولة وشاخصة على بعد اميال .. ثم همست اخيرا بصوت مرتجف :-
:-اريد العودة الى البيت .. ارجوك
لسبب ما ابتلعت ريما غضبها .. واجلت استجوابها الى وقت لاحق .. فقد ادركت بان صديقتها الشاحبة الوجه على وشك فقدان الوعي في اي لحظة فتمتمت :-
لا باس .. لنخبر بشار وطارق ثم لنخرج من هنا
عندما عادتا الى صالة المطعم الرئيسية .. لم تجد اثرا لذلك الشيطان الادمي الساحر الذي خطف منها انفاسها وعقلها قبل لحظات .. تفهم طارق بلا عناء الارهاق المفاجئ الذي ادعته ولم يمانع عندما تناولت حقيبتها وطالبته بالمغادرة .. خاصة انه قد سدد الفاتورة منذ دقائق ..
في طريقها الى سيارة طارق حمدت الله على انها لم تحضر بسيارتها .. فهي من جهة لن تتمكن من القيادة مترا واحدا باعصابها المهزوزة .. ومن جهة اخرى لم تكن مستعدة للانفراد بريما والخضوع لاستجوابها المؤجل
وخلال الطريق الى البيت .. لم تفوه بحرف واحد بينما اخرط الباقون في حديث لم تفهم مضمونه .. تاهت بعينيها عبر النافذة تراقب الطرقات التي انارتها مصابيح الليل العمودية الشاحبة .. محاولة ان تنسى تفاصيل الحديث الذي دار بينها وبين ذلك الرجل ..
(تمام محفوظ) .. فكرت بانها لا تريد ان تقابله مجددا مهما كانت الظروف .. ولكن جزءا دفينا منها كان يصر بياس على انها لاكاذبة ..كاذبة تماما
الفصل الثاني
ابنة عاقة
اصدر محرك سيارة اماني القديمة ضجيجا كبيرا قبل ان يتوقف تماما امام فيللا والدها الكبيرة .. اعادت ظهرها الى الخلف مسندة اياه الى المقعد البعيد تماما عن الراحة .. وزفرت بقوة حامدة الله على وصولها سالمة الى البيت
هذه الخردة القديمة التي اشترتها مستعملة وتقودها منذ اكثر من عامين بحاجة الى تغيير .. ولكنها مضطرة لاحتمال ضجيجها ومشاكلها حتى تدخر ثمن سيارة جديدة .. وهي مستعدة لقتل نفسها شنقا قبل ان تطلبه من والدها ..
فتحت الباب الكبير للسيارة بحذر وبطء خوفا من ان يسقط الى جانبها على قارعة الطريق ولكن عندما ترجلت من السيارة .. اضطرت لصفقه بعنف كي تتاكد من اغلاقه جيدا
كان الجو دافئا بالنسبة لاحدى ليالي منتصف شهر اكتوبر .. وضوء القمر الشاحب الذي اتخذ شكل هلال لم ينجح في تخفيف الجو الكئيب للمبنى المكون من طابقين . والمحاط بحديقة صغيرة
من الغريب ان تشعر كل مساء بانها مرغمة على العودة الى المكان الذي ولدت فيه وعاشت قرابة الخمسة وعشرين عاما .. نظرت الى ساعة معصمها .. التاسعة ليلا .. هذا يعني المشاكل .. فقد تاخرت 3 ساعات عن موعد عودتها المعتاد الى البيت .. لاباس .. لقد اعتادت على الجدال مع والدها العجوز كل ليلة تقريبا .. وربما ستفسد ما تبقى من ليلتها برؤية وجه ابن عمها الوسيم في حال كان موجودا ليناقش والدها في امور العمل كالعادة .. ثم ترى وجهه الجميل مجددا في ابشع كوابيسها
لمحت سيارته الانيقة تقف خلف سيارة والدها .. فزفرت بقوة وقد احست بالامتعاض .. انه موجود .. ثم لمحت سيارة جودي البيضاء الصغيرة . هذا لا يعني انها موجودة
فغالبا ما تخرج برفقة خطيبها المتانق الشبيه بالدمى المحشوة .. دون ان يحاسبها احد على الوقت الطويل الذي تقضيه خارجا معه .. ما دامت الابنة العاقلة والمطيعة في البيت
زفرت بضيق متمنية لو انها كانت تنتمي الى عائلة اخرى تقل ثراء وتعقيدا عن عائلتها .. كانت انوار حديقة المنزل مضاءة جزئيا .. بفوانيس صفراء منحت المكان طابعا خياليا وقد انعكست اضوائها على النباتات الخضراء التي اصطفت بتناسق حول ممر حجري مؤدي الى الباب
دست مفاتيحها في قفل الباب الزجاجي الضخم وفتحته ثم دخلت
لجزء من الثانية تنفست بارتياح لعدم وجود لجنة الاستقبال التقليدية في انتظارها .. ولكن املها خاب عندما هدر صوت والدها الجهوري يقول بصرامة :-
:- اين كنت حتى الان ؟
رفعت عينيها نحو الرجل الستيني النازل عبر الدرج الرخامي الفخم الرابط بين الطابقين مستعينا بعصاه الثقيلة التي قلما فارقته .. وروبه المنزلي يحيط بجسده الرياضي الممتلئ .
تصلب جسد اماني بتوتر لرؤية والدها وانتظرت حتى اصبح يقف على بعد امتار منها وكرر سؤاله الصارم :- ينتهي دوامك في تمام السادسة .. فاين كنت حتى الان .؟
بذلت جهدا خرافيا لتسيطر على التاثير الازلي لمهابة والدها عليها .. ثم قالت بهدوء يميل الى البرود :-
:- لم لا تسال صلاح ؟ فجواسيسه يخبرونه بالتفصيل اين اقضي كل دقيقة منذ خروجي في الصباح وحتى عودتي في المساء
التمعت عينا والدها الخضراوان والشبيهتان بعينيها .. صاح بغضب :-
:- تكلمي عن ابن عمك باحترام والا اجبرتك على هذا
التقت عيناهما لدقيقة كاملة .. خيم خلالها صمت مشحون بالتوتر قبل ان تقول ببرود :- انا متاكدة بانك قادر على هذا .. فانت تحقق كل ما تريده باحدى الطريقتين .. اما بنثر اموالك هنا وهناك واما ……
نظرت الى عصاه السوداء الثقيلة ذات الراس المدببة .. والى اصابعه التي احاطت بها بتوتر .. وسرت في جسدها رجفة خوف جاهدت لاخفائها .. ثم قالت باقتضاب :- لقد مررت على الميكانيكي ليلقي نظرة على سيارتي .. مؤخرا تصدر اصواتا مزعجة عندما اقودها
لم يظهر على وجهه اي تعبير يذكر .. ثم قال بجفاف :- تعرفين تماما سبيلك الى التخلص منها
قفز الازدراء الى ملامحها بلمح البصر وقالت باباء :- تعجبني كما هي .. ولا احتاج الى غيرها او اي شيء اخر منك .. او منه
وبدون ان تتيح له فرصة للتعليق .. تركته هاربة الى المطبخ فاللجوء الى غرفتها يعني المرور الى جانبه .. ومازالت تذكر نتائج اخر مرة اقتربت فيها منه الى هذا الحد ازعجتها انارة المطبخ الخافتة .. ولكنها لم تهتم بانارة المكان .. فتحت الثلاجة وتناولت زجاجة مياه معدنية وحاولت ان تتذكر اخر مرة تبادلت فيها حديثا وديا مع والدها فلم تنجح… ولكنها مدركة بان اكثر من خمس سنوات مرت منذ اعلنت الحرب بينهما ..وانتهى خلال لحظة واحدة كل ما يشير الى روابط الدم بينهما
صفقت باب الثلاجة بعنف عندما احست بالشبح الذي تسلل دون ان تشعر .. استدارت لتجده عاقدا ساعديه اما صدره .. مستندا الى خزائن المطبخ وينظر اليها بهدوء واثق مستفز
تغلبت على قشعريرة الخوف التي اصابتها بتاثير نظرته المظلمة كظلام المكان وقالت ساخرة متصنعة القوة:- لماذا لا تدهشني رؤيتك وانت تتسلل كالاشباح في الظلام داخل منزل لا يرغب سكانه في وجودك فيه ؟
قال الشبح بهدوء :- اذكرك يا ابنة عمي العزيزة بانك الفرد الوحيد في المنزل الذي يرفض وجودي فيه .. فعلى حد علمي .. عمي يعتبني كالابن له وجودي تهتم لامري كاخ اكبر لها
قالت باشمئزاز :- افضل الموت الف مرة على ان احظى باخ مثلك
لوى فمه ساخرا وهو يقول :- ابادلك الشعور تماما يا عزيزتي .. فاخر ما اريده هو ان اكون اخا لك
تراجعت بضع خطوات مبتعدة عنه وهي تصيح بشراسة :- لن تكون اي شيء اطلاقا بالنسبة لي يا صلاح
مط شفتيه متاسفا على عنادها وقال :- سنرى
.. واجهته بنظراتها المتحدية بينما اكتفى هو بتامله المستفز لها .. تاملت بدورها قامته المتوسطة الطول التي لم تخفي تناسق جسده القوي .. كان ابن عمها وسيما كاي فرد اخر في العائلة ولكن وسامته كانت دائما من ذلك النوع المزعج .. الذي يعطي شعورا غريبا بالحذر وعدم الراحة .. قال اخيرا بهدوء :-
:- سمعتك تتحدثين الى عمي قبل دقائق .. متى ستتوقفين عن محاربته وازعاجه يا اماني .. انه والدك ان كنت قد نسيت
نظرت اليه قائلة بمقت :- بسببك انت انتهى كل ما يربطني به كابنة .. فاياك ان تقدم لي المواعظ .
اقترب منها خطوة وهو يدس يديه في جيبي سرواله الاسود الانيق وهو يقول بحزم :- بل بسبب عقوقك وشذوذك انت يا اماني .. تصرفاتك المتهورة والوقحة هي ما كادت تودي يحياته يوما .. وبحياتك انت ايضا
اجبرت نفسها على التسلح بالهدوء .. فصلاح بارع للغاية في افقادها رصانتها .. واشعال كل كراهيتها بكلمة واحدة . قالت بتهكم :- وكانك تهتم حقا لصحته .. اعلم تماما بانك تنتظر موته بفارغ الصبر كي تضع يدك على امواله شاكرا حظك لعدم وجود وريث ذكر له بين ابنائه .. الشيء الوحيد الذي يخيفك من حدوث هذا هو فقدانك الامل مني .. فانت مازلت متاكدا بانه قادر على ارغامي على منحك ما تريد .. ولكن هذا لن يحصل يا صلاح .. لا الان ولا لاحقا
استحالت ملامحه الوسيمة الى جليد فعرفت بانها قد نجحت في اثارة غضبه .. فصلاح كوالدها تماما .. رجل اعتاد على الحصول على مراده مهما كان الثمن .. وهي كانت الشوكة الوحيدة التي تمكنت من وخز كبرياءه وكرامته .. اقترب منها فتراجعت بتوتر حتى التصقت بالثلاجة .. واحست ببرودة المعدن خلف ظهرها .. تبينت في الظلام ملامحه الشيطانية .. وانتابها رعب كبير لاستعادتها تلك الذكرى التي لم تنجح السنوات في محوها .. قال ببرود جمد الدماء في عروقها ..:- ستكونين زوجتي يا اماني .. شئت ام ابيت .. بحياة ابيك ام بعد مماته .. ساجبرك على هذا ولو كان اخر ما سافعله في حياتي
قربه الكبير منها حرك الغثيان داخلها .. ولكنها سيطرت على ملامحها وبرودة اعصابها حتى تراجع فجاة دون ان يلمسها قائلا باستفزاز :-يمكنك الذهاب الى غرفتك الان لتتقلبي طوال الليل بين احقادك .. فمهما طال الزمن .. ومهما ظننت بانك قد حققت كيانك واستقلالك .. ستكتشفين في النهاية بان مكانك تالطبيعي هو هنا .. تحت قدمي
جاهدت لتمنع نفسها من الجري الى غرفتها .. بل صمدت امامه رافعة راسها بتحدي للحظات ثم قالت بشجاعة :- في اليوم الذي سيحدث فيه هذا ساكون ميتة يا صلاح .. اؤكد لك هذا
ثم تركت المطبخ مندفعة الى الطابق العلوي .. لم تتجه الى غرفتها .. بل الى الحمام حيث اقفلت الباب ورائها .. ثم افرغت معدتها في الحوض قبل ان تنهار على الارض باعياء مكافحة دموع الضعف المهددة بخذلانها .. لااحد يعرف كم يكلفها الصمود اما والدها رحل الاعمال القاسي (محمود النجار ) وابن عمها المشابه له في لؤمه وتسلطه .. لا احد يعرف كم تبذل المستحيل لتكافح الذكريات .. وكيف تحاول جاهدة قبل الاخرين ان تنتقم من نفسها قبل الاخرين على اخطائها السابقة .. وكيف تصر بقسوة على عدم الوقوع فيها مجددا
لم تحسب الوقت الذي قضته هناك قابعة في زاوية الحمام تلملم شظايا روحها قبل ان تستعيد شجاعتها وقوتها .. وتقف مكافحة ضعفها .. مقررة بان الوقت ليس مناسبا بالمرة للانهيار
الفصل الثالث
الفصل الثالث
شكوك ومخاوف
( تمام محفوظ) (تمام محفوظ )
ظلت جودي تخط الاسم لدقائق معدودة فوق اوراقها وهي تتظاهر بالدراسة .. منذ عودتها من عشائها الكارثي برفقة طارق واصدقائها
لحسن حظها ان ريما لم تجد الفرصة لسؤالها عما حدث .. ولكنها ستراها غدا في الجامعة .. ولحظة الاستجواب قادمة لا محالة
(تمام محفوظ) .. (تمام ) اسم غريب .. تذكرت ملامح عازف الجيتار الوسيمة والخيالية .. وفكرت بان اي اسم عادي لن يليق به .. فهو رجل غير عادي .. بحاجة الى اسم غير عادي ..
يا الهي .. انها تفكر به منذ ساعات .. وهاهي تبدا برسم خطوط وجهه التي حفظتها عن ظهر قلب فوق اوراقها البيضاء .. لماذا لا تفكر بطارق .. طارق .. طارق .. رددت الاسم مرارا بصوت عالي ولكنها لم تنجح الا في العودة الى ذلك الوجه الساحر لتمام .. ما الذي اصابها ؟. اهو توتر طبيعي تواجهه كل فتاة مخطوبة قبل اشهر من موعد زفافها ؟ فتظل في شك بصحة اختيارها للشريك .. وتظل ترى في كل وجه ذكوري بديل عنه ؟
يا للهول من الافضل ان تبدا بتاليف كتاب عن حماقتها
اجفلت للطريقة العنيفة التي فتحت فيها اماني باب غرفتها ودخلت قائلة بلهجتها الساخرة والجافة :- انت هنا اذن .. لم اتوقع عودتك باكرا .. لا تقولي لي بانك قد تشاجرت مع عريس الهنا .. فلست في مزاج جيد لمواساتك ..
اعتدلت جودي بقلق .. لم يكن من عادتها السكوت عن سخرية اماني .. ولكنها لاحظت بان عدائية اختها لم تكن طبيعية هذه المرة .. او انها طبيعية اكثر من اللازم ؟ سالتها :- مع من تشاجرت هذه المرة ؟ مع ابي ام مع صلاح ؟
قالت اماني وهي تدعك شعرها الرطب من تاثير الاستحمام بمنشفة صغيرة ناعمة :- الاثنين معا .. هل تصدقين هذا ؟ الواحد تلو الاخر كان في انتظاري ليحيل ليلتي الساحرة الى جحيم
تاملتها جودي للحظات ثم قالت بهدوء :- لقد سمعتك تتقيئين بالحمام
وقفت اماني امام المراة التي توسطت خزانة الملابس الضخمة بينما تساءلت جودي بخفوت :- هل حاول ان يلمسك ؟
هتفت اماني بخشونة اظهرت كل البغض الذي يملا قلبها :- كنت قتلته قبل ان يفعل
صمتت للحظات طويلة وهي تنظر الى نفسها في المراة .. ومن خلفها كانت جودي تتامل بدورها اختها الكبرى .. ذات القامة الطويلة والنحيلة .. لقد فقدت الكثير من الوزن خلال السنوات السابقة .. ولكن نحولها لم يؤثر ابدا على جمال تكوين جسدها الانثوي .. او جمال وجهها المميز .. بل زاد من اخضرار لون عينيها الواسعتين .. ما منحها مظهرا جذابا وغامضا متناسقا مع شعرها النحاسي الاشقر القصير
كانت هذه هي احدى المرات القليلة التي تبعد فيها اماني شعرها الكثيف عن صدغيها .. فظهرت لجودي وبكل وضوح اثار ذلك الجرح الذي امتد من منابت شعرها حتى اذنها اليسرى .. السنوات احالتها الى مجرد ندبة بالكاد كانت ظاهرة للناظر عن قرب .. ولكن بالنسبة لاماني ما زال الجرح طازجا وينزف بغزارة
تمتمت اماني قبل ان تمنع نفسها :- اكرههما
قالت جودي باشفاق :- لماذا تصرين على محاربتهما يا اماني ؟ لن تستطيعي التغلب على قوتهما ونفوذهما وتعرفين هذا جيدا
استدارت اليها اماني قائلة باستنكار :- افضل الموت الف مرة على منحهما ما يريدان
قالت جودي بتوتر :- ان فكرت في الامر جيدا لما وجدته بذلك السوء .. صلاح شاب وسيم جدا وثري .. واي فتاة تتمنى الارتباط به
قالت اماني بحدة :- اي فتاة غيري انا .. وما دمت متحمسة الى هذا الحد فلماذا لم تتزوجي انت به ؟
هزت جودي كتفيها قائلة :- لقد كنت دائما بمثابة الاخت الصغرى لصلاح
:- لماذا لم يعتبرني انا الاخرى اختا له ؟
تنهدت جودي قائلة :- لانك ومنذ الطفولة كنت تكرهين صلاح .. تنفرين منه وتبعدينه عنك .. ربما هذا ما جعلك بالنسبة اليه تحدي يريد الفوز به
وجرت عيناها على الفيللا لاخذ القمامة .. فقدمني هدية لابن اخيه المفضل
قالت جودي بانزعاج :- انت تفسرين الامور بطريقة بشعة
قالت اماني بقسوة :- وانت تحبين ابي بحيث لا ترين الوحش المختبئ داخله
اشاحت بوجهها بفتور قائلة :- لم لا ؟ لطالما كنت لبنته المدللة .. القطة الصغيرة الشبيهة بامها .. اظن احد اسباب كرهه لي هو شبهي الكبير به .. فانا متاكدة بانه لا يحتمل حتى نفسه
هزت جودي راسها يائسة من التفاهم مع اختها حول هذا الموضوع .. ولكنها اقرت داخلها بان اماني تشبه والدها تماما .. في قوته وعناده وكبريائه .. وهذا ما يسبب التصادم المستمر بينهما ..قالت لتغير من موضوع الحديث الكئيب :- كيف كان العمل لهذا اليوم ؟
تغيرت ملامح اماني بسرعة مذهلة .. وارتسم التفكه على وجهها وهي تقول :- كان مميزا
التقطت منها جودي روح الفكاهة وهي تسالها باسمة :-ما الذي فعلته لمديرك هذه المرة ؟
اطلقت اماني ضحكتها الجميلة النادرة وهي تقول :- لقد كان الامر مذهلا .. لن تصدقي ما حدث
قطعت الطريق عبر الغرفة الفسيحة والانثوية الديكور وجلست الى جانب جودي على حافة السرير قائلة :-
:- اتذكرين تلك الصورة التي ظهر فيها مديري برفقة وزير الاقتصاد في جريدة صباح الامس ؟ .. لقد علقت الصورة على جدار المكتب .. ودعوت باقي الموظفين لمشاركتي في رميها بالطائرات الورقية
اتسعت عينا جودي وهي تقول غير مصدقة :- لا تقولي بانه قد ضبطك تسخرين منه علانية بين الموظفين ؟
كانت اجابة اماني ضحكة عالية .. فشاركتها جودي الضحك . اكملت اماني عندما هدات :- لقد دخل السيد هشام الى المكتب فجاة بع ان وصلت الى اسماعه الضجة التي عمت الطابق باكمله .. لك ان تتخيلي الصدمة على وجوه الموظفين لرؤية رئيسهم امامهم وجها لوجه يراقب ما يفعلونه بهدوء شديد متوعد
قالت جودي بقلق :- هل وبخك ؟
لوحت اماني بيدها قائلة بعدم اهتمام :- كالعادة .. استدعاني الى مكتبه دون ان ينسى توبيخي امام الاخرين .. وان يتبرع ساخرا بتوفير سهام حقيقية بدلا من الطائرات الورقية لاشفي بها غليلي .. ولم ينسى ان يذكرني بانه لم يوظفني الا ارضاء لخالته .. وانه لن يتورع عن طردي ان اتضح له اي تقصير مني في عملي
فكرت جودي قائلة :- كوني صادقة مع نفسك .. انت تستحقين هذا
هزت اماني كتفيها قائلة ببساطة :- اعرف هذا .. ولكنه لن يجرؤ على طردي .. فانا كفؤة تماما في عملي .. مازلت غير فاهمة كيف يمكن ان يكون لامراة بلطف سمر ابن اخت بسماجته وجفافه .. انه اشبه بقطعة جليد تمشي على قدمين .. اه .. ومن يكون (تمام محفوظ) هذا ؟
تناولت احدى الاوراق المتناثرة فوق السرير .. فانتزعتها جودي منها قائلة بارتباك :- لا شيء يذكر .. زميل في الكلية
راقبتها اماني بتسلية وهي تلملم اوراقها وتضعها جانبا ثم قالت :- يبدو من احمرار وجهك انه اكثر من هذا بكثير
صاحت جودي بعصبية مفاجئة :- هلا غيرت الموضوع ؟
تفحصتها اماني بصمت للحظات ثم رفعت حاجبيها مستسلمة وسالتها :- كيف كان عشاءك مع طارق هذا المساء ؟
:- جيد .. استمتعنا كثيرا بصحبة بشار وريما كالعادة .. والمطعم كان مميزا
قالت اماني بتهكم :- بالتاكيد لن يختار طارق مطعما يقل فخامة عنه .. لن يهدر تانقه المعتاد على الاماكن الرخيصة
نهضت جودي من السرير وسارت نحو النافذة لتتامل الليل الهادئ الذي خيم على الحي الراقي الذي ولدت فيه .. وسمعت اماني تقول من خلفها :- حسنا .. ما الذي يشغل بالك حقا يا جودي ؟
استدارت جودي قائلة باضطراب :- كنت ارغب بطرح سؤال ما عليك .. اعرف بانك لا تحبين طارق .. ولكنني اطلب اجابة محايدة عن سؤالي
فكرت اماني للحظات ثم هزت كتفيها قائلة :- اعدك ان احاول
بدا على جودي التردد ما اقلق اماني حول ما يشغل بال شقيقتها الصغرى .. حسمت جودي امرها وقالت:- هل من الطبيعي لفتاة مرتبطة ان تعجب برجل اخر .. او تفكر به ؟
بالرغم من سرور اماني لشكوك جودي حول علاقتها بطارق .. الا انها لم تفصح عن افكارها .. وقالت ببساطة :- حبيبتي .. هناك نساء متزوجات وامهات مازلن يصرخن كلما ظهر نجمهن المفضل على شاشة التلفاز
قالت جودي بضيق :- لم اقصد هذا النوع من الاعجاب
عادت تجلس مقابلة لاماني كي تجذب انتباهها وقالت :- اقصد ان تقابلي رجلا جذابا يخطف بصرك وعقلك دون ان تكلميه .. اذا نظر الى عينيك تنسين الدنيا من حولك تماما .. حتى خطيبك الجالس الى جوارك يفقد وجوده معناه
ارجعت راسها الى الخلف وقد برقت عيناها وهي تكمل :- وان حصل وكلمك .. فانك تقضين الليل بطوله تستعيدين كلماته .. ونبرة صوته الجذابة .. فيقشعر بدنك من مجرد الذكرى
حدقت اماني في وجه شقيقتها المتاثر بذهول .. ثم تمتمت :- هل انت متاكدة بان لا علاقة للمدعو همام بحديثنا ؟
صاحت جودي بانزعاج قبل ان تفكر :- اسمه (تمام)
احمر وجهها عندما لاحظت جمود اماني .. قفزت مبتعدة وهي تخفي وجهها بين يديها فقالت اماني بهدوء :- من الواضح ان المشكلة اكبر بكثير مما ظننت
انزلت جودي يديها توهي تقول بياس :-المصيبة انها اتفه بكثير مما تبدو عليه .. ولكنني لا اعرف لماذا لا اتوقف عن التفكير في ذلك الرجل ولا استطيع نزع صورته عن عقلي
حكت لاماني باختصار عما حدث في المطعم وهي تتجول في انحاء الغرفة بعصبية .. بينما اماني تستمع اليها وتراقبها بصمت .. قالت جودي في النهاية بغضب :- لا اعرف ما الذي اصابني ؟ انا مخطوبة الى شاب وسيم جدا .. ثري جدا .. ويحبني بجنون .. وخلال لحظة واحدة ارمي فيها كل هذا ورائي وافكر كالبلهاء بشاب متسكع بالكاد يكسب قوت يومه من عزفه على الجيتار
قالت اماني بهدوء :- عازف الجيتار بشر مثلنا كما تعلمين يا جودي
زفرت جودي قائلة :- اعرف هذا بالتاكيد ..ولكن اعجابي وهوسي الغريب به لمجرد امتلاكه اجمل عينين رايتهما في حياتي ولطريقة كلامه الجذابة المكتسبة من خبرة طويلة مع النساء كما يبدو .. ليس منطقيا .. صحيح ؟
تاملت اماني اختها التي تصغرها باربع سنوات بتعاطف .. مهما كان ما تمر به جودي الان فسببه تلك الطريقة الجافة التي قرر والدها تزويجها فيها .. طارق شاب جيد بشكل عام .. وعريس لقطة .. ولكن مهما ادعت جودي .. فهي ليست متاكدة تماما من مشاعرها نحوه .. اما راي اماني .. فهو ان جودي تحتاج الى رجل اكثر عاطفية ورقة من طارق العملي البارد .. شخص قادر على تفهم الجانب الحساس والعاطفي من شخصيتها
نهضت اماني قائلة :- انت تحملين الامر اكثر من حجمه يا جودي .. اي فتاة طبيعية قد تضطرب للقاء شاب وسيم يعرف كيف يسمعها ما تحتاج اليه من كلمات الغزل .. قد تفكرين به ليوم او اثنين .. ولكن الامر سينتهي عند هذا الحد .. خاصة وانك على الاغلب لن تقابليه مجددا
.. تذكرت جودي الطريقة التي حصل فيها على رقم هاتفها .. ولكنه على الارجح فقده الان مع الكم الهائل من ارقام هواتف الفتيات الذي يحتفظ به .. ما قالته اماني صحيح .. هي لن ترى ذلك الرجل مجددا .. خاصة ان امتنعت تماما عن زيارة ذلك المكان الذي يعمل فيه .. ولسبب ما شعرت بالحسرة لهذه الفكرة .. فجزء منها مهما حاولت الانكار .. متشوق لرؤيته مجددا ..او حتى لسماع صوته المثير
ربتت اماني على وجنتها برقة قائلة :- لا تشغلي عقلك الصغير باوهام العروس التقليدية .. ساتركك لتنامي الان وفي الصباح .. ستنسين تماما ما حصل .. وتعودين خطيبة مملة ومغرورة .. لخطيب اشد مللا وغرورا
.. وعندما غادرت الغرفة .. كانت جودي قد ارتاحت جزئيا لكلمات اماني البسيطة والمنطقية .. ولكنها عرفت تمامما بانها لن تتمكن تلك الليلة من النوم .. ولا حتى ساعة واحدة
ظلام .. ظلام حالك يحيط بها في كل مكان . . والضباب الكثيف يسبح من حولها .. هذا غير ممكن .. فاماني متاكدة بانها قد تركت المصباح الصغير مضاء قبل ان تنام .. حاولت ان تنهض من سريرها لتضيئه .. ولكنها لم تستطع حتى تحريك راسها .. ما سبب ثقل جسدها الغريب ؟ اهو شيء اكلته خلال العشاء ؟
ربما ان نادت جودي بصوت مرتفع قد تستيقظ وتاتي لمساعدتها .. ولكن صوتا لم يصدر عنها .. فلسانها كان ثقيلا بدوره وكانه قطعة من الحجر
احست بانها بالفعل ليست وحيدة في الغرفة .. هناك من يتنفس في مكان قريب منها .. حاولت اختراق الظلام بعينيها تراه .. فلمحت خياله الاسود يقترب منها ببطء .. جودي .. اهي انت ؟ الا ان السؤال القلق لم يتجاوز شفتيها .. تسلل شعور غريب بالخوف الى داخلها عندما بدات ملامحه تتضح لها .. التقاسيم الوسيمة المالوفة ذات التعبير الساخر المخيف .. اتسعت عيناها .. وازدادت محاولاتها للحركة والهرب دون فائدة
هنا .. قال الصوت الساخر ليجفف الدماء في عروقها :- لا تحاولي المقاومة يا اماني . فاينما هربت .. ستجدين نفسك هنا مجددا .. في مكانك الطبيعي .. عند قدمي
تدفقت دموعها وهي تراقبه يقترب منها .. وملامحه تستحيل تدريجيا الى اخرى شيطانية .. والمخالب تبدا بالظهور من اطراف اصابعه الطويلة المدببة
اطلقت اماني صرختها المختنقة وهي تهب جالسة فوق السرير وقد تبلل جسدها تماما بالعرق .. نظرت حولها لاهثة برعب عبر الغرفة التي خفف من ظلمتها نور المصباح الاحمر الصغير المتدلي من زاوية السقف .. ثم قفزت نحو مفتاح النور الرئيسي لتضيئ الغرفة تماما ثم تنهار جالسة على الارض وهي ترتجف يقوة .. وتجاهد لتتنفس ..ثم بدات تبكي بصمت .. انه ذلك الكابوس مجددا .. والذي يطاردها كل ليلة دون رحمة منذ سنوات .. مهما حاولت التظاهر بالشجاعة والقوة .. فان الحقيقة تظهر دائما في النهاية .. وهي انها ربما ليست بالقوة الكافية لمحاربة والدها .. وابن عمها صلاح
عند هذا الحد من الافكار مسحت دموعها واتجهت نحو المنضدة المجاورة لسريرها .. واخرجت من الدرج ذلك الدفتر الصغير الذي تقرا بعض صفحاته كل ليلة تقريبا كيس تتمكن من النوم .. وقد نسيته هذه الليلة بسبب توترها الناتج عن صدامها مع صلاح .. تمددت فوق السرير وفتحت الدفتر .. وجرت عيناها فوق خط امها الناعم وبعد نصف ساعة من القراءة .. اقفلت الدفتر وقد هدات روحها .. وضمته الى صدرها
منذ وجدت الدفتر الذي اعتادت امها كتابة افكارها ويومياتها فيه .. بعد وفاتها بايام قليلة .. وهو سلاحها الذي يندها بالقوة التي تحتاجها لتتابع كفاحها .. مازالت تذكر ذلك اليوم الذي وجدت فيه امها تكتب فيه باهتمام عندما كانت طفلة لم تتجاوز الثانية عشرة .. سالتها بفضول طفولي عما تكتبه .. فابتسم وجه امها الجميل وهي تقول :- اماني
دهشت الطفلة وسالتها بسذاجة :- اتكتبينني ؟
ضحكت امها .. ومازال صدى ضحكتها الرقيقة يدوي في اذني اماني حتى الان ..توقفت عن الكتابة ودعت اماني للاقتراب منها .. احاطتها بذراعيها قائلة :- بل هي نوع اخر من الاماني
نظرت طويلا الى عيني اماني الخضراوين ثم قالت بهدوء :- هل تعرفين لماذا اطلقت عليك هذا الاسم يا اماني ؟
هزت اماني راسها بحيرة .. فاطل حزن عميق من عيني والدتها وهي تقول :- كي لا تخيب امالك وامنياتك ابدا
سالتها اماني وقد احست بحزنها :- وهل خابت امالك يا امي ؟
لم تمنحها امها جوابا .. ابتسمت فقط وقالت ملوحة بالدفتر :- هل ترغبين بقراءته ؟
:- نعم
:- عندما تكبرين بما يكفي ساعطيه لك
ولكن والدتها لم تعش لتمنحها الدفتر ينفسها.. كانت اماني في الخامسة عشرة عندما ماتت امها بسبب مرض خبيث .. لم تكن قد صحت من صدمتها بعد عندما وجدته بين اغراض امها وقد ساهم بشكل كبير في التخفيف من حزنها
اعادته بحذر الى مكانه داخل الدرج .. لا.. لم يحن الوقت بعد لاطلاع جودي عليه فما كتبته والدتها خلال لحظات كابتها وحزنها من شانه ان يسبب لجودي صدمة كتلك التي اصابتها عندما قراته اول مرة منذ عشر سنوات ..فما يحتويه هو مزيج من الحزن والخيبة .. والامل .. والاماني ..كما اخبرتها والدتها بالضبط
تقوقعت حول نفسها فوق السرير . وغرقت في رحلة طويلة مع افكارها قبل ان تنام اخيرا .. وبدون احلام هذه المرة …
الفصل الرابع
مجرد اتصال
ابعدت جودي نظرها عن اوراقها مجبرة وهي تستجيب لثرثرة ريما التي لم تتوقف منذ الصباح وسالتها :-عم تتحدثين بالضبط؟
عبس وجه ريما الاسمر الدقيق القسمات وقالت بحدة :- عن معرض الفنون الذي تقيمه الجامعة بالتاكيد .. الا تستمعين الى ما اقوله منذ ساعة ؟
زفرت جودي قائلة بسام :- لقد سبق واخبرتك من قبل بانني ساشارك في ذلك المعرض .. لماذا لا تسامين من تكرار الموضوع ؟
انقدهما من الشجار المراقب المسؤول عن قاعة المطالعة الملحقة بالكلية وهو يشير اليها بالصمت او بمغادرة المكان .. ففضلتا مغادرة المكان عندما ايقنتا بانهما لن تدرسا حرفا واحدا .. استقرتا اخيرا في كافيتريا الكلية الواسعة والمزدحمة على الدوام . . وقفتا لبضع دقائق حتى خلت لهما طاولة في الزاوية الى جانب النافذة
تابعتا حديثهما بان قالت جودي :- انا اجهز بعض الاعمال منذ ايام .. وقد بدات بلوحة ليلة الامس ..واظنني سانهيها اليوم
قالت ريما بصبر :- هنيئا لك .. ولكنني مهتمة بمعرفة ان كنت قد قمت بالاجراءات اللازمة للاشتراك في المعرض لقد تحدثت الى دينا صباح الامس وهي قريبة لاحد منظمي المعرض .. واخبرتني بان الامر يحتاج الى بعض الاجراءات .. اه .. هاهي قادمة .. ساناديها لتخبرك بنفسها
لوحت بيدها لدينا التي لفتت الانظار فور دخولها الى الكافيتربا برفقة صديقتين .. بملابسها الانيقة والمميزة .. وشعرها القصير الاجعد .. وشرارة الشقاوة المطلة من عينيها
كانت جودي تحب صحبة دينا للشبه الذي تجده في شخصيتها المرحة بالفتاة التي كانتها اماني قبل ان تتحول الى المراة المشبعة بالمرارة والسخرية التي هي الان
ما ان راتهما دينا حتى لوحت لهما وتركت صديقتيها لتنضم اليهما .. تحدثن طويلا حول التحضيرات للمعرض .. ليتجه الحديث بعد ذلك الى الفتيان كالعادة كلما كانت دنيا موجودة .. كانت تتحدث عن حادث مضحك تعرضت له عندما حاول شاب غريب مضايقتها .. فقالت ريما معلقة :- ما الذي اصاب الرجال هذه الايام ؟لماذا لا يتركوننا وشاننا ؟ فنحن لدينا ما يكفي من المشاكل
قال دينا ضاحكة :- من النموذجي ان تقول فتاة مخطوبة هذا الكلام .. فانت لديك بالفعل رجل رائع كما هو الحال مع جودي .. في الواقع .. اظن مجرد وضعكما لخاتم الخطوبة يمنحكما الحماية من المضايقات
قالت ريما ساخرة :- لا تكوني متاكدة .. لو عرفت ما حدث مع جودي الاسبوع الماضي لسحبت كلماتك فورا
هتفت جودي بحذر :- لا اظن دينا مهتمة لسماع التفاصيل
ولكن اللهفة والفضول المطلين من عيني دينا جعلا ريما تتجاهل تحذيرات جودي وتبدا بسرد ما حكته لها جودي عن لقائها بتمام وهو مالم يكن كثيرا
قالت دينا غير مصدقة :- اتقولين بان عازف الجيتار قد ترك مقعده فوق المنصة وحاول الايقاع بجودي بوجود خطيبها ؟ انه احمق بالتاكيد .. كان عليه اختيار فتاة اخرى ليست مخطوبة الى طارق منصور .. لااعتقد بان فتاة عاقلة قد تترك اكثر شباب المدينة وسامة وثراء لاجل عازف جيتار
رفعت ريما حاجبيها بشكل معبر وهي تقول :- لا تستخفي بعازف الجيتار هذا .. فاقل ما يمكنني وصفه به هو انه رجل مدمر .. لا اذكر انني قابلت يوما رجلا بجماله وجاذبيته
نهضت جودي قائلة بانزعاج :- ستبدا محاضرتنا التالية بعد دقائق يا ريما .. هلا ذهبنا ؟
تناولت كتبها وحقيبتها وغادرت دون ان تنظر الى ريما التي لحقت بها قائلة :- ما الذي ازعجك الان؟
هتفت جودي بحدة :- هلا توقفت عن التحدث عني امام الاخرين وكانني غير موجودة ..
قالت ريما بحيرة :- لا اظنني اخطات .. دينا تحكي لنا دائما قصصا مشابهة
صاحت بها جودي :- تكلمي عن نفسك اذن .. ماذا ان وصلت القصة في النهاية الى طارق ؟
:- لماذا قد يزعجه الامر ؟ لم تكن المرة الاولى التي تتعرضين فيها للمضايقة .. انت لم تبادلي ذلك الشاب الاعجاب او ما شابه .. صحيح ؟
من حسن حظ جودي ان دوى رنين هاتفها المحمول من داخل حقيبتها فقالت لريما :-اسبقيني الى القاعة وسالحق بك
ابطات سيرها بينما تابعت ريما طريقها .. واجابت على المكالمة التي لم تتعرف الى مصدرها :- نعم
لم تدرك بان صوتها قد عكس توترها حتى سمعت صوتا عميقا يقول :- هل قاطعتك عن شيء ما ؟
توقفت فجاة عن السير .. وتسارعت نبضات قلبها بشكل غريب وهي تقول باضطراب :- من .. من المتكلم؟
:- لا تقولي انك قد نسيت صوتي
انه هو .. هو دون غيره موضوع شجارها مع ريما .. همست دون ان تفكر :- تمام
ساد الصمت للحظات قبل ان يقول برقة :- يسرني انك مازلت تذكرين اسمي
اغمضت عينيها وهي تشتم نفسها بصمت .. سارت عبر احد الاروقة الجانبية بعيدا عن ازدحام الطلاب وقالت باضطراب :- ما الذي تريده ؟ لماذا تتصل بي ؟
:- ظننت بان اتصالي بك كان متوقعا بعد حصولي على رقم هاتفك سابقا
وعندما مرت عدة لحظات من الصمت قال بلهجة غريبة :- لقد كنت في انتظاري .. اليس كذلك ؟
اسندت نفسها الى الجدار باعياء كان نتيجة ليالي من الارق والخوف من اتصاله .. تمتمت :- ما الذي تريده مني ؟
:- ان اراك طبعا .. ظننت هذا واضحا
اذعرتها فكرة لقائه مجددا .. فاعتدلت وهي تقول بحدة :- هذا لن يحدث ابدا .. ارجو الا تتصل بي مجددا .. لقد سبق واخبرتك بانني مخطوبة .. ولست مهتمة بمعرفة اي شيء عنك
قال بصرامة :- كاذبة
اجفلت من لهجته القاسية وصحة تخمينه .. اكمل بحزم :- لو انك غير مهتمة حقا .. لما كنت تستمعين الي الان عوضا عن اقفال الخط في وجهي فور تعرفك الى صوتي
فكرت بياس .. لم افعل لانني غبية .. وحمقاء .. ولانني كنت اتحرق شوقا لسماع صوتك
تمكن من ان تقول اخيرا بجفاف :- هذا ما سيحدث ان حاولت الاتصال بي مجددا
قال بهدوء وثقة :- في المرة القادمة التي ساتحدث فيها اليك .. اعدك بان الهاتف لن يكون الوسيط بيننا
.. كانت قادرة على الاحساس بابتسامته الواثقة وكانها تراها .. اكمل :- لن اؤخرك كي لا تبدا المحاضرة بدونك .. اراك لاحقا يا جودي النجار
انتهت المكالمة فجاة .. فحدقت في الهاتف مذهولة .. كيف عرف اسمها الكامل ؟
كيف جمع كل هذه المعلومات عنها ؟
انتبهت فجاة الى انها قد استقطبت بعض الانظار الفضولية .. فابتلعت ذهولها واكملت طريقها نحو القاعة حيث تنتظرها ريما .. ولكنها لم تستطع ابتلاع الخوف الذي كان يتعاظم داخلها اكثر فاكثر
الفصل الخامس
بلا قلب
كانت اماني مستغرقة تماما في عملها عندما ارتفع رنين الهاتف الداخلي .. رفعت السماعة لتسمع صوت (سحر) .. سكرتيرة المدير يقول :- ماذا دهاك ؟ انا احاول الاتصال بك منذ دقائق
اشتمت اماني رائحة المشاكل .. فزفرت قائلة :- لقد عدت منذ دقائق من استراحة الغداء ثم انهمكت في العمل ولم اسمع صوت الهاتف .. مالامر ؟ هل يطلبني الكونت في مكتبه ؟
كانت قد اطلقت عليه منذ عام لقب الكونت كدلالة على تعجرفه واستبداده .. وقد اعجب اللقب باقي الموظفين ودفعهم لاستعماله بحرص فيما بينهم كي لا يصل الامر الى المدير
قالت سحر بتوتر :- الكونت غاضب لتاخرك .. لذا انصحك بترك ما في يدك والقدوم الى هنا فورا بكامل اسلحتك .. في حال قرر ان يلتهمك كتحلية بعد الغداء
انهت اماني المكالمة .. وتنهدت بسام .. لا مزاج لديها اليوم للشجار معه .. ولكن ان كان مصرا فهي مستعدة له دائما
تناولت بعض الاوراق التي طلبت منها سحر احضارها معها .. وتاكدت من حسن مظهرها واناقتها قبل ان تغادر مكتبها
وقبل ان تدخل الى مكتب المدير .. اخذت سحر تلقي عليها عشرات التعليمات ( ارجوك .. كوني مهذبة – لا تغضبيه هذه المرة – فقط استمعي الى ما يقوله و ……..)
كان خوف سحر منه طبيعيا كاي موظف اخر في الشركة من المدير الصارم الذي اسس ثروته من لا شيء .. وفقا للقليل الذي اخبرتها به خالته سمر عنه .. فانه لم يترك عملا شاقا او مهينا الا ومارسه منذ كان في العاشرة من عمره .. وهذا يفسر بالتاكيد صلابته .. وافتفاره التام الى العاطفة في التعامل مع الغير
اخذت نفسا عميقا وطرقت الباب .. ثم دخلت عندما سمعت الصوت الصارم يدعوها الى الدخول .. خطت الى داخل المكتب الفسيح .. وركزت اهتمامها نحو مركز الغرفة حيث استقر (هشام عطار)
وقد ملا مقعده الجلدي بكتفيه العريضتين .. منهمكا في احدى مكالماته الهاتفية المهمة .. رفع بصره اليها .. واشار لها بيده ان تقترب .. ثم تجاهلها تماما وهو يستمع الى محدثه
اقفلت الباب ورائها بهدوء .. وظلت واقفة على بعد مترين على الاقل عن مكتبه بمناى عن الخطر .. تململت بضيق عندما استغرق وقتا اطول مما توقعت في مكالمته .. وان كان الحديث كما فهمت يتعلق بصفقة مهمة .. ظهرت على ملامحه السمراء الخشنة علامات الاهتمام وهو يتحدث بصوته الاجش المتسلط .. اشفقت على محدثه الذي يجفف عرقه الان في الغالب محاولا مجاراة خصمه الذكي والحازم .. الذي اعتاد على الحصول على ما يريده باي ثمن كان
ازاحت عينيها عنه نحو محتويات المكتب الخشبي الضخم الذي تراصت فوقه الاجهزة الحديثة بانواعها .. ثم دارت ببصرها حول المكان تتامل الاثات الفخم الذي ملاه .. وغيرها من مظاهر الثراء التي لا يتردد امثاله في اظهارها للاخرين .. لم تدرك بان نظرة الازدراء كانت مرتسمة بوضوح في عينيها حتى سمعت صوته البارد يقول :- هل انتهيت من تقييمك للمكان ؟
رفعت عينيها اليه بسرعة . وغضبت من نفسها عندما احمر وجهها بحرج .. متى انهى مكالمته وبدا بمراقبة تفحصها الدقيق لمحتويات مكتبه ؟ لم ترغب بزيادة الامر سوءا فتنحنحت قائلة بتهذيب :- اخبرتني سمر انك طلبت رؤيتي
تراجع فوق مقعده ورمقها باحدى نظراته السوداء وهو يقول ببرود :- انا لا اطلب في هذا المكان يا انسة اماني .. ونعم لقد امرت سحر باستدعائك منذ نصف ساعة على الاقل .. وارغب بشدة في ان اعرف سبب هذا التاخير
تمالكت اعصابها وقد عرفت بان مزاجه اليوم يتوق الى توبيخ احدهم وقد وقع اختياره كالعادة عليها .. قالت بصبر محافظة على تهذيبها :- لم تنته استراحة الغداء الا منذ ربع ساعة ..
:- كنت في صالة الطعام اذن
:- نعم .. برفقة باقي الزملاء
كست الصرامة ملامحه وهو يقول :- اذن .. فلتبلغي زملاءك بان استراحة الغداء تعتبر ملغاة منذ هذه اللحظة و حتى شهر من الان .. واي تقاعس عن العمل خلالها او مغادرة للشركة من اي موظف .. ستؤدي الى تمديد العقوبة الى اجل غير مسمى
صرت على اسنانها بغيظ .. سيقتلها زملاؤها في حال عرفو بالكارثة الجديدة التي جلبتها عليهم بسبب تاثيرها غير المسبوق على هذا الرجل .. لم تتمالك نفسها .. ورمت بتهذيبها عرض الحائط .. قائلة بحدة :-
:- مفهوم .. ساخبر الجميع بالحمية الاجبارية الجديدة .. وانصحهم بتسريب سندويتشات منزلية داخل معاطفهم منذ الغد لاستراق اللقيمات من وراء ظهرك ريثما تصدر اوامرك التالية بمنعنا عن التنفس
.. رمى قلمه من يده فاجفلت لحركته المفاجئة .. لاحظت عينيه السوداوين تلمعان بغضب شديد .. ولكنه تاملها طويلا حتى احست بنظراته ستقتلعها من مكانها .. ثم ارتفع صوته الجهوري فجاة :- انت تستمتعين بهذا .. اليس كذلك ؟
قالت بحذر :- ماذا تقصد ؟
:- انت تستمتعين باعتماد اللامبالاة في تصرفاتك .. واحالة جو العمل الى نوع من السخرية والفوضى
قالت بتوتر :- لقد سبق واعتذرت عما حدث الاسبوع الماضي .. ووعدتك بالا يتكرر
قال بجفاف :- وماذا عما حدث اليوم ؟
ارتفع حاجباها بدهشة وهي تقول :- ماذا ؟؟
لوى فمه القاسي بابتسامة بالكاد ظهرت .. بدا واضحا مدى استمتاعه بحيرتها .. نهض واقفا ودار حول المكتب فتراجعت تلقائيا عندما دنا منها بطوله الفارع وجسده الضخم المكسو بالبذلة الانيقة .. توترت وهو يزيد من اقترابه ببطء قائلا :- دعيني اخمن .. هل تبادلت حديثا شيقا مع زملاءك اثناء تناولكم الغداء في كافيتيريا الشركة ؟
شحب وجهها وقد فهمت قصده .. لقد انخرطت في حديث ساخر مع مجموعة من زملائها .. وقد كانت اصواتهم مرتفعة بحيث سمع الحديث جميع الجالسين حول طاولتهم .. اخذت تقلد المدير الصارم باسلوب
فكاهي اضحك الجميع .. ثم استرسلت في الحديث عن الجليد الذي يجري في عروقه بدلا من الدماء .. وافتقاره التام للاحساس .. وعن قناعتها بان السبب في عزوفه عن الزواج رغم تجاوزه الثلاثين بسنوات هو هروب النساء من وجهه العابس الذي لا يبتسم الا لكسب صفقة او مال وفير كغيره من محدثي النعمة ..
لقد قالت الكثير من الكلام المسيء والمهين له .. ولكن من يلومها اذا كان صورة لا تختلف كثيرا عن والدها او صلاح ؟
لقد كان هشام عطار نموذجا للرجل المستعد لفعل اي شيء لاجل زيادة ثروته .. قد تتفهم دوافعه نظرا الى نشاته الصعبة .. ولكنها لن تتفهم ابدا تصرفاته المتسلطة والمتكبرة وقسوته الغير مبررة نحو موظفيه .. تمالكت اعصابها وقالت ببرود :- كيف عرفت هذا ؟
نظر اليها ببرود اخافها .. لطالما اخافتها نظراته الغير مفهومة والغامضة المطلة من عينيه الحادتين كعيني الصقر .. فال :- لدي مصادري
قال بحدة :- تقصد جواسيسك
رفع حاجبيه القاتمين فلاحظت بوضوح ذلك الاثر القديم لجرح طولي قاطع احدهما .. مما ذكرها بندبتها المخفية تحت خصلات الشعر المسدلة بعناية حول وجهها وقال :- ربما
تراجعت خطوتين كي تجد الشجاعة لان تقول بعصبية :- ان كنت تطالبني باعتذار فلن تحصل عليه .. عملي لديك لا يمنحك السلطة للتحكم بافكاري ورايي بك ..
هدر بصوت جمد الدماء في عروقها :- موقف اخر من هذا النوع وستجدين نفسك خارج جدران هذا المبنى دون رجعة
هتفت باستنكار :- هل تهدد بطردي ؟
:- ولم العجب ؟ انا رجل عديم الاحساس والعاطفة .. ومحدث نعمة لا اخلاق له .. ما الذي يمنعني من القائك خارجا بدون اي تردد ؟
احمر وجهها وهي تستمع الى صدى كلماتها المهينة من خلال صوته الغاضب .. انه محق بغضبه بالتاكيد .. ولكن طردها لهذا السبب لن يكون عادلا
تراجع عنها وعاد الى عرشه الواقع خلف المكتب وهو يقول بهدوء :- من حسن حظك ان علاقتك بسمر تشفع لك .. والا لكنت تبحثين عن عمل اخر منذ فترة طويلة
قالت بحدة :- انت لا تبقيني هنا اكراما لسمر فانا موظفة كفؤة وانت تعرف هذا تماما
عاد يرسم على شفتيه تلك الابتسامة الساخرة .. ورفض منحها تاكيدا شافيا .. بل قال وهو يسترخي فوق مقعده :- في الواقع ..استغرب ان يكون لامراة مثلك اي علاقة صداقة بسمر .. فهي امراة دافئة ورقيقة .. لا تكف ابدا عن العطاء .. اما انت …
ارتجفت عندما جرت عيناه السوداوان الحادتان فوق ملابسها الانيقة بتقييم مشمئز وهو يقول :-
:- طفلة مدللة وثرية .. اعتادت الحصول على ماتريده باي ثمن .. تكاد تدمرك عقدة التفوق التي ولدت معها .. وهذا واضح من طبيعتك العدوانية والمتهكمة .. التي لاتعرف ابدا كيف تحب او تعطي
تمنت لو انه لا يلاحظ شحوب وجهها .. فهو قد اصابها بالصميم دون ان يدري 00 بذلت جهدا خرافيا كي تحافظ على ثبات ملامحها وتحاشت النظر اليه كي لا يقرا الالم في عينيها .. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد .. بل تاملها طويلا قبل ان يقول بهدوء :- لقد كنت محقا .. اليس كذلك ؟ كلماتك التي قصدت وصمي بها لم تكن الا انعكاس لك ولقلبك الميت .. كامثالك ممن ولدوا وفي افواههم ملعقة من ذهب ..يمتلكون كل شيء .. ولكن هذا يخلق داخلهم فراغا هائلا وافتقار الى الاحساس والادمية .. في المرة القادمة التي تتبجحين فيها وتبداين بتعداد نواقص الغير .. تذكري نواقصك فهي اكثر مما تظهرين على ما يبدو
رفعت راسها بصلابة لتواجهه .. كان قادرا على ملاحظة الحقد الوحشي يلمع في عينيها الواسعتين .. قالت ببرود :- هل استطيع العودة الى مكتبي الان ؟
اشار بيده قائلا بتهكم :- لم استدعيك لنتبادل حديثا اجتماعيا .. سنتحدث في العمل ثم تنصرفين الى مكتبك
ثم اعتدل على كرسيه وهو يقول بجدية :- اجلسي من فضلك .. واخبريني عن ……
اختفى تماما اي اثر لتهكمه وقسوته .. وعاد من جديد رجل الاعمال المحترف .. من يراهما الان وهما يتناقشان بهدوء ماكان ليصدق مدى كراهية كل منهما للاخر
كان يتحدث .. ويلقي عليها بملاحظاته وتعليماته .. بينما تمنحه هي الاجابات المقتضبة وعقلها بعيد تماما عن العمل .. لقد كان غارقا بمدى اصابة هشام عطار للواقع في كلماته التي قصد بها اهانتها
ترى هل يعرف بان قلب اماني قد مات حقا قبل سنوات قليلة ؟
وانها لا تعرف ان كان سيعود يوما الى الحياة .. او انها ستكمل ما تبقى من حياتها بلا قلب ..
الفصل السادس
الخيار الاخير
كان طارق في انتظار جودي كما وعدها عند بوابة الحرم الجامعي في تمام الساعة الثالثة من بعد الظهر .. اوقف سيارته بعيدا ثم تمشيا معا على الرصيف المحاذي لسور الجامعة العالي حيث تعالى ضجيج السيارات في هذا الوقت من اليوم
بعد بضع كلمات تحية وسلام .. ساد الصمت بينهما لبعض الوقت وهما يسيران جنبا الى جنب قبل ان يقطعه طارق قائلا بهدوء :- ماهو الموضوع الضروري الذي طلبت رؤيتي لاجله ؟
قالت بحيرة :- انا لم اقل ابدا بانني ارغب بمناقشة اي موضوع معك
:- لماذا طلبت مني الحضور الى هنا اذن ؟
قالت بارتباك :- وهل من الغريب ان تطلب فتاة لقاء خطيبها ؟
قال بلهجة حملت بعض العتاب :- بل من الغريب ان تطلبي مني ترك عملي وموافاتك في الجامعة في منتصف النهار كي نسير جنبا الى جنب بصمت
قالت بعصبية :- لنقل بانني قد اشتقت اليك .. وشعرت بحاجة الى رؤيتك .. ان كان هذا يزعجك فانا لن اتصل بك مجددا
زفر بقوة معلنا رفضه لتصرفها الطفولي .. ثم توقف عن السير واستدار الى جودي التي توقفت بدورها وقال :- حبيبتي .. انت تعرفين بانني اشتاق اليك دائما .. واتمنى ان يتم زفافنا بسرعة كي لا نضطر الى الانفصال ابدا .. اسف لانني كنت فظا .. اتصلي في اي وقت تشائين .. وسارمي كل الدنيا ورائي لاراك
ابتسمت وقد خففت كلماته الرقيقة توترها واضطرابها الذين لم يفارقاها منذ اتصل بها تمام قبل ساعات .. لقد كانت بحاجة الى ان تشعر بقرب طارق منها .. وانها امنة من اي اغراء قد يقدمه لها رجل ساحر متحالف مع الشيطان .. امسكت بيد طارق قائلة بعينين لامعتين :- لنذهب من هنا
اجفل قائلا :- الى اين ؟
:- وهل هذا مهم ؟ سنكون معا .. قد نتناول الغداء في مكان ما .. او نقود السيارة لساعات خارج المدينة .. او
قاطعها ضاحكا :- على مهلك .. متى وضعت كل هذه الخطط ؟ يجب ان تخبريني بمشاريعك مسبقا كي ارتب اموري على الاقل
اختفى حماسها بنفس السرعة التي اشتعل فيها .. قالت بقلق :- هل ستعود الى المكتب؟
:- لقد سبق واخبرتك بانني مشغول
وعندما راى الاحباط في عينيها ربت على وجنتها قائلا برقة :- ساعوض عليك في يوم اخر .. اعدك
منحته ابتسامة باهتة .. ثم سارت معه حتى سيارته وراقبته يختفي .. ثم عادت الى حيث تركت سيارتها داخل اسوار الجامعة .. وكل ما ترغب بفعله هو العودة الى البيت وعدم رؤية اي مخلوق حتى يختفي احباطها
.. عندما وصلت الى البيت .. ترجلت من السيارة وقد عصف بها القلق لرؤية صلاح خارجا من الفيللا برفقة طبيب العائلة .. وصديق والدها القديم .. ما الذي حدث ؟. هل والدها مريض ؟ انتظرت حتى ابتعد الطبيب بسيارته ثم اقتربت من صلاح تساله بتوتر :- ما الذي كان الدكتور سليمان يفعله هنا ؟
عبس وكان وجودها المفاجئ قد ازعجه .. ولكنه استسلم وسمح للتوتر والتعب في الظهور من خلال خطوط وجهه وهو يقول :- لقد احس عمي ببعض الارهاق .. فاوصلته الى البيت واستدعيت الطبيب لنطمئن عليه .. وهو بخير الان
ولكنه كان يكذب .. عرفت جودي هذا عندما رفض النظر الى عينيها اثناء حديثه .. قالت بحدة :-
لم لا تخبرني الحقيقة ؟ هل ابي مريض ؟
امسك بمرفقها وسحبها قائلا باقتضاب :- سنتحدث في الداخل
كان البيت مظلما على غير عادته هذا اليوم … اصر صلاح على ان تجلس قبل ان يقول بجمود :- لقد اصيب عمي بنكسة هذا الصباح .. وفقد وعيه داخل المكتب
شهقت وهي تخفي فمها بيدها قائلة :- اهو قلبه مجددا ؟
اوما براسه ايجابا فتدفقت الدموع من عينيها وهي تقول :- ما الذي يفعله هنا اذن ؟ يجب ان يكون في المستشفى الان
:- لقد كان هناك .. ولكنه اصر على العودة الى البيت .. سمح له الاطباء بذلك لان الازمة لم تكن حادة ولكنهم لم يخفوا خطورة الامر في عمره هذا
لم تستطع تخيل والدها القوي مريضا او ضعيفا .. همست بصوت مرتجف :- هل هو في غرفته الان ؟ اريد ان اراه
:- انه نائم .. من الافضل ان نتركه ليرتاح قليلا
ثم انتقل ليجلس الى جوارها .. وامسك يدها قائلا بلطف :- لا تشغلي بالك كثيرا .. والدك سيكون بخير .. انا متاكد من هذا
حاولت ان تبتسم فلم تستطع .. ولكن وجود صلاح منحها الكثير من الطمانينة .. فحبه لوالدها لا يقل عن حبها له .. وقد ترعرع منذ الطفولة تحت ظله
انها ازمة عابرة وسيتمكن والدها من تجاوزها كما فعل مع غيرها .. وبالرغم من تاكيدها لهذه الحقيقة لنفسها الا انها كانت حقا خائفة هذه المرة
دخلت اماني الى البيت بهدوء شديد .. لم يكن لديها ما يكفي من الطاقة كي تتشاجر مع صلاح او والدها هذه المرة .. فقد كانت مرهقة تماما .. ومصابة بحالة ثقيلة من الاكتئاب .. كل هذا بسبب مديرها المتغطرس .. لقد حطم شيئا مهما داخلها بكلماته الجارحة .. وذكرها بما تحاول جاهدة كل يوم الا تتذكره
لحسن حظها لم تصادف احدا في طريقها الى غرفتها .. ولكن ما ان فتحت الباب حتى سمعت صوت جودي يقول :- انا سعيدة لانك قد وصلت اخيرا .. حاولت الاتصال بك مرارا ولكن هاتفك كان مقفلا
لاحظت اماني وجه جودي الحزين وهي تغادر غرفتها وتقترب منها .. قالت اماني بقلق :- ما الامر؟هل تشاجرت مع طارق ؟
:- لا .. انه ابي .. لقد سقط مريضا صباح اليوم
نزلتا الى المطبخ وجلستا حول الطاولة الصغيرة الخشبية .. لم تعرف اماني كيف تفسر مشاعرها بعد سماع ماحدث من جودي .. شعرت بالم حاد في صدرها لتخيل ذلك الرجل القوي طريح الفراش
قالت جودي :- الن تذهبي لرؤيته ؟
اخافتها الفكرة فتمتمت :- لماذا افعل ؟ لقد اخبرتني بنفسك بانه قد تحسن الان
:- لانه طلب رؤيتك فور وصولك
اضطربت اماني .. فامسكت جودي بيدها تتوسلها :- اذهبي اليه يا اماني .. انه مجرد رجل عجوز مريض الان .. اظنه يرغب باصلاح الامور بينكما قبل فوات الاوان ..
لم تستطع اماني تقبل الفكرة .. والدها ليس من ذلك النوع المستسلم .. انه يجلس على عرشه منذ سنوات في انتظار استسلامها وزحفها نحوه متوسلة اليه ان يسامحها ويعيدها تحت جناحه .. ولكن جزءا منها تاق فعلا الى اصلاح الامور.. اهذا ممكن ؟ ان تعود الامور بينهما كما كانت قبل وفاة والدتها ؟
لمحت جودي الضعف في عيني اماني فكبر الامل داخلها .. ربما حان الوقت لتنتهي تلك الحرب الطاحنة التي استمرت لسنوات بين والدها واماني
سحبت اماني يدها قائلة بجفاف :- سارى ما الذي يريده مني هذه المرة
صعدت الى الطابق العلوي .. ووقفت امام الباب العريض الذي تصدر الرواق .. استجمعت كل ما لديها من شجاعة .. وطرقت الباب .. اتاها صوت والدها الصارم يقول :- ادخل
فتحت باب الغرفة الفسيحة التي لم تدخلها منذ فترة طويلة .. ونظرت الى السرير العريض حيث تمدد والدها مسندا ظهره الى مجموعة من الوسائد .. وعلى مقعد قريب كان يجلس صلاح الى جانبه .. وعندما راها برقت عيناه وهما تجريان فوقها بتلك الطريقة التي اعتاد اهانتها بها
احمر وجهها واشاحت بنظرها عنه قائلة لوالدها بصلابة :- اخبرتني جودي بانك ترغب في رؤيتي
.. رغم شحوبه واثار المرض عليه قال بغطرسة :- نعم وقد تاخرت في الحضور .. اين كنت حتى الان ؟
تذكرت شجارها مع مديرها ظهر هذا اليوم والذي بدا بنفس الطريقة ولم ترغب ان ينتهي هذا اللقاء ايضا بخسارتها .. فقالت بفتور :- لقد حضرت في النهاية .. فما اللذي تريده مني ؟
التقت عيناهما للحظة عرفت خلالها مدى غضبه .. وادركت من نظرة صلاح التحذيرية بان تعريضه للانفعالات قد يكون خطرا عليه
قال والدها بصوته الخشن :- اتركنا وحدنا يا صلاح
بكل هدوء اطاعه صلاح .. ولكنه لم ينسى ان يحذرها مجددا بعينيه اثناء مروره الى جانبها في طريقه الى الخروج .. وعندما اقفل الباب وراءه .. عادت تركز اهتمامها نحو الرجل العجوز.. ولاول مرة تلاحظ مدى شحوب وجهه وضعفه .. فتحرك العطف داخلها للحظات حتى ادركت بان عينيه تحملان كل شيء الا الضعف
قال بهدوء :- اظن الوقت قد حان لنتكلم بجدية .. اجلسي
قالت بتوتر :- انا مرتاحة كما انا
هدر صوته بعنف :- قلت اجلسي
تحركت بانزعاج لتطيع امره فتجاهلت المقعد القريب الذي كان صلاح يحتله .. وجلست بعيدا عن السرير .. قال بعد ان جلست :- كيف حال عملك ؟
قالت بحذر اذ لم يكن من عادته سؤالها عن عملها :- بخير
:- لقد سبق واخبرتك بانك لست مضطرة للكدح بين الوظائف
قالت بفتور :- سبق واخبرتك بانني احب عملي ولا اشتكي منه
ضيق عينيه قائلا :- انت تعرفين قصدي جيدا
التزمت الصمت رافضة التعليق خشية ان تفقد اعصابها .. فقال :- ساوجه عرضي هذا اليك للمرة الاخيرة .. انا مستعد لمسامحتك على اخطائك .. وتحمل مصاريفك مجددا .. سامنحك كل ما ترغبين به .. مقابل زواجك من ابن عمك صلاح
شعرت برغبة عارمة في مغادرة الغرفة فورا .. وسجن نفسها في غرفتها لساعات طويلة وهي تبكي .. لقد كانت جودي مخطئة .. فاخر ما يريده والدها هو اصلاح الامور بينهما
قالت بحدة :- لماذا تصر على هذه الفكرة؟ انا لن اتزوج بصلاح ولو كان اخر رجل على وجه الارض
قال بصرامة :- واين ستجدين خيرا منه ؟ هل كنت تفضلين متبطلا حقيرا .. لا يمانع في بيعك مقابل قروش قليلة كذلك الفتى الذي تعلقت به منذ سنوات ؟
هبت واقفة بحركة عنيفة ادت الى سقوط الكرسي على الارض .. وصاحت بثورة :- كن مطمئنا .. انا لن اتزوج صلاح او غيره ابدا .. اما اموالك .. فاحتفظ بها لانني لا احتاج اليها
واثناء اتجاهها نحو الباب هتف خلفها بعنف :- انني احذرك يا اماني .. ان لم تعودي الى رشدك وتفكري بالامر جديا هذه المرة .. ساستخدم كل وسيلة امتلكها لاجبارك
نظرت اليه بازدراء قائلة :- افعل ما شئت
وغادرت الغرفة مغلقة الباب ورائها بهدوء شديد . الا ان جسدها كان يرتعش من شدة الغضب .. ككل مرة تواجه فيها والدها .. وهذه المرة ذكرها بخزي حياتها .. بالمرة الاولى التي تشاجرت فيها مع والدها عندما ظنت بانها قد حققت الاحلام التي عجزت والدتها عن تحقيقها .. وانها قد جدت اخيرا الحب الحقيقي .. لقد اقسمت بعدها بالا تمنح قلبها لرجل ابدا .. وفي الوقت ذاته .. لن تقع في خطا امها وتتزوج برجل لا تحبه
يمكنها ان تحل هذه المعادلة الصعبة بطريقة واحدة .. وهي ان تمتنع عن الزواج نهائيا .. لم يكن هذا الخيار صعبا مادام صلاح يحوم حولها دون توقف .. وطالما افقدها فراس سابقا الثقة في جميع الرجال
في شرفة الطابق الثاني من الفيللا .. والمطلة على الحديقة الجميلة .. وقفت اماني تستنشق بعمق هواء اكتوبر المنعش .. لقد كان املها الوحيد هو ان تجد جودي يوما تلك السعادة التي لن تعرفها ابدا .. الحمقاء .. ستتزوج من طارق مع تخرجها في نهاية العام الدراسي .. مهما كان طارق شابا جيدا فان جودي لا تحبه .. مهما حاولت فهي لن تنجح في اقناع اماني بالعكس
اتاها صوت صلاح من الخلف ليجفلها :- هل تفكرين بكلمات والدك ؟
استدارت اليه قائلة ببرود :- كلامه لم يستحق اي جزء من تفكيري
تنهد باسف واقترب ليقف الى جانبها ويتامل السماء المرصعة بالنجوم وقال :- دائما تضطرينه لاتباع الطريق الاصعب
ثم التفت اليها فجاة ليقول بخشونة :- لماذا تفعلين هذا ؟ كلانا يعرف بانك في النهاية ستكونين لي
قالت ببرود :- ساكون لك جثة هامدة فقط يا صلاح
شهقت عندما اقترب منها وحاصرها بينه وبين سياج الشرفة .. لاول مرة تجده اماني فاقدا لاعصابه مما اخافها :- اهناك رجل اخر ؟
صاحت بعنف محاولة التخلص من حصاره دون جدوى :- ابتعد عني ياصلاح والا صرخت
ولكنه امسك كتفيها وهزها بقسوة :- اهناك رجل اخر في حياتك ؟
جن جنونها لملمس يديه على كتفيها فصرخت به :- ان لم تتركني رميت نفسي من هذه الشرفة .. اقسم على هذا
الهستيريا في صوتها جعلته يصدقها .. فرفع يديه عنها ونظر اليها مطولا قبل ان يقول بهدوء :- لا .. كنت لاعرف ان دخل الى حياتك اي رجل
قالت من بين انفاسها المضطربة :- ما الذي ستفعله ان حدث هذا ؟
ابتسم بثقة قائلا:- لن يحدث .. لانك ذكية بما يكفي لتبعدي اي رجل عنك قبل زواجنا
لمس وجنتها برقة .. فابتعدت عنه مشمئزة .. ضحك باستهزاء وهو يقول :- تصبحين على خير يا حبيبتي
تركها وحدها في الشرفة .. فاخذت تشتمه سرا بكل ما تعرفه من كلمات بذيئة .. لا .. لن تبكي .. ان صلاح لا يعرف بان محاصرته لها كانت تزيدها اصرارا وعنادا .. عادت قناعتها بان مرض والدها قد يكون مجرد محاولة رخيصة تهدف الى اقناعها بالزواج من صلاح .. وقد كانت محاولة فاشلة كالعادة .. ثم تذكرت جودي التي تنتظرها في غرفتها على امل سماع اخبار جيدة .. فتنهدت محاولة ايجاد ما تبرر لها به ما حدث .. ثم عادت ادراجها الى الداخل .
طرق صلاح باب غرفة عمه ودخل عندما سمع صوته يدعوه للدخول .. نظر اليه عمه بهدوء قائلا :- هل تحدثت معها ؟
جلس صلاح قائلا باقتضاب :- لا فائدة .. انها لا تزداد الا عنادا
لم يكن صلاح يتوهم عندما لمح شبح ابتسامة اعجاب تفتر عن شفتي عمه الذي قال بعد لحظات بحزم :- اظنني استنفذت كل وسائلي السلمية في الاقناع .. الا ترى هذا يا صلاح ؟
اوما صلاح براسه موافقا .. شاعرا بالقلق على عمه الذي رفض نصائح الاطباء في تجنيب نفسه التوتر والغضب .. وكل ما يؤدي اليهما
بدا التفكير العميق على الوجه المسن قبل ان يقول :- اظن الوقت قد حان لتنفيذ ما تحدثنا عنه يا صلاح
اسرع صلاح يقول بانزعاج :- الامر سابق لاوانه .. لقد اكد الطبيب بانك …..
قاطعه عمه بصرامة :- هل تناقشني يا فتى ؟
اسرع صلاح يقول :- بالتاكيد لا
:- اذن ابدا بتجهيز الاوراق
اوما صلاح براسه مذعنا .. وبالرغم من اعتراضه على المعنى المتشاءم لقرار عمه .. الا ان شعورا عارما بالانتصار اجتاحه .. فاماني ستكون له في النهاية .. ومهما طال يه الانتظار
الفصل السابع
قطة حمراء
كانت جودي منزعجة حقا في صباح ذلك اليوم الذي افتتح فيه معرض الفنون في الكلية .. فلا احد ممن يهمها امرهم قد تمكن من الحضور .. فكل من طارق واماني مشغول بعمله .. ووالدها لم يغادر سريره منذ اسابيع .. حتى ريما لم تكن موجودة اليوم
ولكن ماخفف عنها ..هو الاقبال الشديد من الزوار على المعرض والاعجاب الذي قوبلت به اعمالها التي عرضت في زاوية صغيرة من المعرض
بالرغم من استمتاعها بالاجابة عن اسئلة المشاهدين حول لوحاتها ..الا انها لم تلبث ان بدات تشعر بالضيق والاختناق من شدة الازدحام .. فما كان منها الا ان كلفت احد زملائها المشاركين بالمعرض باخذ مكانها لدقائق .. وغادرت القاعة والمبنى كله واخذت نفسا عميقا من هواء الصباح البارد .. لماذا عليها ان تغضب من تخلف عائلتها عن الحضور ؟ فهم قد شاهدو بالفعل لوحاتها قبل ان تقدمها للمعرض .. ولكنها رغبت بان يشهدو النجاح الذي حققته ..
عادت بعد دقائق الى الداخل .. حيث وجدت زميلها يقف بعيدا ويتحدث مع احدهم .. فغضبت وهي تنظر الى زاويتها حيث اجتمع بعض المشاهدين دون وجود من يمثلها .. فاتجهت اليه لتقطع حديثه مع مرافقه قائلة :- الا استطيع الاعتماد عليك لدقائق ؟
نظر اليها ثم الى رفيقه قائلا :- انا ايضا لدي ما افعله يا جودي .. كما انني قد ابليت حسنا .. بعت
احدى لوحاتك قبل دقائق قليلة .. تلك التي تمثل القطة الحمراء
اتسعت عيناها واستدارت تلقي نظرة سريعة على احب لوحاتها اليها ..ثم عادت تقول له بسخط :- كيف فعلت هذا ؟ لوحاتي ليست للبيع .. وخاصة تلك اللوحة
:- لم تخبريني بهذا .. على كل حال لم يفت الاوان بعد .. فالمشتري ما يزال واقفا امامها .. تستطيعين الاعتذار اليه وسحب البيع
تمتمت ببعض الكلمات الغاضبة .. ثم اتجهت نحو الرجل الذي منحها ظهره وانهمك تماما في تامل لوحاتها .. خففت سرعتها تدريجيا .. ولم تعرف سبب القلق الذي بدا يتصاعد داخلها مع اقترابها المستمر من الجسد الطويل والنحيل
بدت الجاذبية الخطرة التي فاحت من الكتفين العريضتين المغطاتين بسترة داكنة انيقة مالوفة .. ادركت بعد فوات الاوان بانها يجب ان تهرب .. فعندما تعرفت اليه .. كانت قد اصبحت خلفه تماما .. ارتعاشة جسدها الخفيفة اثارت انتباهه بطريقة ما فاستدار ليواجهها وليؤكد لها مخاوفها
ظلت تنظر اليه للحظات طويلة وقد اسرت عيناه عينيها .. تلاشت الجموع من حولها واختفت الاصوات .. جمدتها نظراته مكانها وهي تتفحص كل جزء من وجهها الشاحب .. ثم ملابسها البسيطة والانيقة .. احست بقلبها يخفق بعنف حتى خشيت ان يصل صوته الى مسامع الرجل الواقف امامها فيشعر بذعرها واضطرابها
حررها اخيرا من قيود نظراته .. وابتسم بهدوئه الواثق قائلا :- كيف حالك يا جودي ؟
سماع صوته ذي النبرة المنخفضة الجذابة اثملها .. لقد ظنت بانها قد نسيت كيف يستطيع بنظرة او همسة من اسرها والاستحواذ عليها .. اين شجاعتها وقوتها ؟ اين القرارات العديدة التي اتخذتها بشانه ؟ والخطط التي وضعتها في حال قابلته مجددا ؟
استيقظت من سباتها وتراجعت خطوة وهي تنظر حولها بتوتر .. ثم سالته بحدة :- ما الذي تفعله هنا ؟
قال ببساطة :- افي بوعدي .. الم اخبرك سابقا باننا سنلتقي قريبا ؟
نعم .. منذ اسبوعين بالضبط .. لقد ظلت تنظر حولها كل يوم منذ خروجها في الصباح وحتى عودتها الى البيت مساءا خوفا من ان يظهر فجاة .. وهاهي عندما فقدت حذرها وجدته امامها كما تذكره تماما .. وسيم .. جذاب .. وساحر .. اشار الى اللوحة ليقطع افكارها قائلا :- ولكنني لم اخطط لشراء لوحة .. لم اتوقعك بهذه البراعة
قالت بعصبية :- لقد ارتكب زميلي خطئا .. لوحاتي ليست للبيع .. انا اعرضها فقط
لم تظهر عليه الدهشة .. وهو يعاود النظر الى اللوحة .. تاملت جانب وجهه الوسيم بقلب خافق .. وفورا اشتعل داخلها حس الفنان .. وادركت بان هذه الوجه المثالي قد خلق ليرسم ويوثق …. ويعشق
عند هذه الفكرة الجريئة .. اخفضت راسها فورا وقد تورد وجهها خشية ان يقرا افكارها .. سمعته يقول :- لقد عرفت بانك ما كنت لتبيعي صورتك الشخصية لاي كان
احست كمن صفع على وجهه عندما نطق بكلماته .. لقد راى اللوحة الكثير من الاشخاص ولم يدرك احدهم بانها كانت ترمز الى نفسها بالقطة الممدة بتكاسل فوق مقعد وثير مذهب .. وترفع راسها لتنظر بعينين حائرتين الى كل من يتامل اللوحة
استمر في تامل اللوحة قائلا :- نفس لون الشعر البني المائل الى الحمرة .. والعينين الزيتونيتين بنظرتهما القلقة
حتى طارق لم يفهمها الى هذا الحد .. لقد ابتسم عندما راى اللوحة معبرا عن جمال القطة وغنجها .. ثم لم يتعب نفسه بالقاء نظرة ثانية نحوها
تمتمت :- لماذا رغبت في شرائها ؟
اختفت ابتسامته وقال :- احببت فكرة اقتناء صورة لك… وان كانت على شكل قطة
تورد وجهها فاشاحت به بعيدا .. ظلا واقفين دون ان يقول احدهما كلمة .. ارتفع الضجيج مع تزايد الوافدين الى داخل المعرض .. لم تعرف جودي سبب تجمد ساقيها وعدم قدرتها على التحرك بعيدا عنه فمجرد الوقوف معه خطا كبير
واذ باحدهم يصطدم بها . . فشهقت بقوة عندما وجدت جسدها يندفع تلقائيا نحو غريمها الذي امسك بكتفيها قبل ان تصطدم بصدره .. تقلصت المسافة بينهما بشدة حتى تمكنت من سماع صوت انفاسه العنيفة .. فارتعشت بقوة وقد احست بدفء يديه يتسرب عبر قماش قميصها الرقيق ليصل الى اعماقها .. مما دفعها لابعاد نفسها عنه بسرعة قبل ان تفقد اعصابها .. سمعته يقول بخشونة :- لنذهب من هنا
نظرت اليه بذعر قائلة :- لماذا ؟
:- يجب ان نتحدث .. ولا اظن هذا هو المكان المناسب لنقوم بهذا .. لنذهب الى كافيتريا الكلية
صاحت بحدة :- لا .. ليس الى هناك
فنصف طلاب الكلية يعرفونها .. ورؤيتها مع شاب غريب وعلامات الارتباك ظاهرة عليها في وسط الكلية كفيلة باثارة الاقاويل حولها .. وسرعان ما تصل الى طارق
ولكن هذه المواجهة ستتم عاجلا ام اجلا .. ومن الافضل ان تتم في مكان تختاره هي
قالت باقتضاب :- ساقابلك بعد نصف ساعة في مقهى اناناس .. هل تعف كيف تصل اليه
تاملها مليا فاحست بانه قادر على قراءة افكارها ومخاوفها .. ثم قال بهدوء :- ساكون في انتظارك هناك
وعندما غادر .. احست برئتيها تستعيدان القدرة على التنفس مجددا .. استندت الى الجدار تقاوم الاعياء .. مجرد وجودها معه يسبب لها الاجهاد والتوتر .. هذه علامة واضحة .. اليست كذلك ؟ هذا الرجل خطر عليها .. كل شيء حوله يشير الى هذا .. كيف ستذهب للقائه في مكان عام وهي لا تعرف عنه اي شيء سوى اسمه ؟ هذا ا‘ذا كان (تمام محفوظ) هو اسمه الحقيقي
اوقفت سيارتها في احد الشوارع الجانبية القريبة من المقهى المنشود .. وترجلت منها بعد ان تاكدت بان شعرها الطويل مرتب بعناية .. وان زينتها المتقنة غير متكلفة .. رتبت قميصها الحريري الانيق .. ثم سالت نفسها باحباط عما تفعله .. اما كان من الاسهل عليها ان تتجاهله وترفض لقاءه ؟ سيمل في النهاية ويتوقف عن مطاردتها .. ولكن الفضول الذي قتل القط هو ما جاء بها الى هنا .. تحتاج الى ان تعرف المزيد عنه .. من يكون ؟ ماسر كل هذه الثقة بالنفس ؟ ما الذي يريده منها بالضبط ؟.. كانت تعرف بانها ان استسلمت لهذه النزوة المجنونة فسرعان ما ستقع في النهاية .. فما تفعله الان يعتبر بجميع المفاهيم خيانة لطارق .. ولكنها وصلت الى هنا ولا تستطيع التراجع عند هذا الحد
ما ان دخلت الى المقهى حتى التقت عيناها بعينيه .. كانت تامل بان يجلسا في مكان قصي لا يلفت الانظار .. ولكنه اختار مائدة وقعت في منتصف المكان .. حيث يكونا على مرمى بصر الداخل والخارج .. وحتى المارق من امام الباب الزجاجي المطل على الشارع
نهض واقفا باناقة عندما لمحها واقفة عند الباب .. ولكنها اخذت وقتها في تامله .. لاحظت فجاة كم يبدو مختلفا هذه المرة .. كان مايزال نفس الرجل الذي قابلته قبل اسبوعين .. الرجل الجذاب بلا مبالاته و وثقته بنفسه .. الا ان ملابسه كانت اكثر اناقة هذه المرة .. اختفى عازف الجيتار البسيط .. وظهر الشاب الساحر اللعوب الذي يعرف تماما تاثيره على النساء
حسمت امرها وخطت نحوه وقد عزمت على انهاء الامر بينهما قبل ان يبدا .. وعندما لاحظ عبوس وجهها ابتسم .. وكان توترها يسليه .. وكان لابتسامته تاثيرا خياليا اذ كادت تتعثر في مشيتها وتسقط امامه
قال برقة :- لم لا تجلسين قليلا قبل ان تبداي القتال ؟
رفعت حاجبيها بدهشة .. ثم ادركت بان ملامحها كالعادة لا تستطيع اخفاء مشاعرها .. قال عندما جلست :- هل تشربين شيئا ؟
قالت بفظاظة :- لا .. اريد فقط ان انهي هذا الامر
قال ساخرا :- تريدين انهاء الامر قبل ان تصل اعين خطيبك الى هنا .. اليس كذلك ؟
شعرت بانزعاج لقراءته افكارها .. فسالته مباشرة :- ما الذي تريده مني ؟
نظر الى عينيها المتمردتين بتمعن وقال بهدوء :- ما الذي تظنين انني اريده يا جودي ؟
قالت بحدة :- لا اعرف.. ولا اريد ان اعرف . اريدك ان تبتعد عني وتكف عن ملاحقتي او الاتصال بي
رسم ابتسامة جانبية صغيرة على شفتيه وهو يعلق :- كاذبة
توترت عندما اعتدل ليواجه هجومها قائلا بهدوء :- عندما التقينا ذلك المساء في المطعم .. حصل شيء بيننا .. لا اعرف ما هو .. ولكنني واثق بانك قد شعرت به مثلي تماما .. احسست تلك اللحظة بانني اعرفك منذ سنوات طويلة .. لقد قدر لنا ان نكون معا يا جودي .. وهذا ما سيحصل
اثارت كلماته اضطرابها .. نعم .. لقد احست بدورها بذلك الرابط الذي جمع بينهما في تلك اللحظات .. ولكن ما يقوله حول القدر .. ومصيرهما بان يكونا معا مجرد هراء
يخيفها الا يكون كذلك
قالت بتوتر :- هذا غير صحيح .. انا حتى لا اعرف عنك شيئا
قال ببساطة :- اما انا فاعرف عنك ما يكفي .. انت جودي النجار .. ابنة رجل الاعمال المعروف .. تدرسين اللغة الانجليزية في كلية الاداب .. ورسامة موهوبة
ثم مال راسه نحوها لينظر في عينيها قائلا :- وبمجرد النظر الى عينيك يستطيع اي انسان ان يقرا روحك .. انت رقيقة .. شفافة .. رومانسية للغاية .. لديك احلام كبيرة وجامحة تخفينها عن المجتمع المغلق الذي تعيشين فيه
حبست انفاسها عندما رقت نظرته وهو يقول :- استطيع تحقيق كل احلامك يا جودي
اخفضت عينيها لاهثة وهي تشعر بيديها المضمومتين بشدة تعرقان .. سمعت صوته يقول برقة :-
اساليني فقط .. وساخبرك بكل ما ترغبين بمعرفته عني
ساد صمت طويل بينهما .. لم يتخلله سوى ضجيج بعض الرواد الشباب المندفعين الى المقهى طلبا لعض الاسترخاء .. كانت مضطربة .. وكل خلية في جسدها تتجاوب مع كلماته .. وكل ذرة من كيانها تتوق لمعرفة المزيد عنه .. ولكن ما تبقى من رشدها ظل يذكرها باصرار بان ما تفعله خطا .. خطا كبير .. انها لاتخون طارق فحسب بافعالها وافكارها .. بل تخون والدها الذي منحها ثقته العمياء .. فهي ابنته المفضلة التي ستحقق له جميع احلامه وستشرفه امام الناس .. وهاهي تعرض جميع خططه للخطر بالتسكع برفقة عازم جيتار لا يمتلك سوى وسامته وشخصيته المدمرة .. لا .. لن تقع في خطا اماني الذي دمر جميع احلامها .. وحطم علاقتها بوالدها الى الابد .. ولكنها لم تستطع سوى ان تهمس :- ساتزوج قريبا ب …..
قاطعها بضجر :- بطارق منصور .. اعرف .. ولكن ما اتوق لمعرفته هو ان كنت تحبينه ام لا ..
قالت متوترة :- بالطبع احبه
:- كاذبة .. انت لا تحبينه .. بل لا تحملين نحوه اي شيء من العاطفة .. ذلك الرجل لن يسعدك ابدا
قالت بحدة مدافعة عن نفسها :- طارق هو الانسان المناسب لي
قال ساخرا :- بالتاكيد .. بمفهوم البيع والشراء .. انه ثري وابن عائلة عريقة .. اخبريني كم دفع لك مهرا مقابل ما سيحصل عليه من متعة بعد الزواج
شهقت بعنف لوقاحة كلماته .. اختطفت حقيبة يدها و هبت واقفة .. فاسرع يمسك بمعصمها قبل ان تتحرك وهو يقول :- لا تتسرعي يا جودي .. قد تقضين حياتك كلها تتساءلين عما خسره كل منا لمجرد انك تجاهلت قلبك واستمعت لصوت عقلك
اضطربت وهي تنظر اليه من علو .. الى اصابعه التي التفت حول معصمها باحكام .. الى عينيه القاتمتين وملامحه المتوترة .. سرت في جسدها موجة غريبة من العاطفة .. وعرفت بانها لن تصمد طويلا اذا ظل ينظر اليها بهذه الطريقة .. قالت بصوت اجش :- اترك يدي لو سمحت
التفتت الانظار نحوهما باهتمام وفضول مما نبه تمام الى مظهرهما الدرامي .. فنهض واقفا دون ان يتركها .. فانتفض جسدها لاحساسه بجاذبية الجسد الطويل على بعد بوصات عنها .. سحبها الى خارج المقهى .. حيث خلا الشارع من اعين الفضوليين .. اقترب منها كثيرا هذه المرة فاستنشقت رائحة عطره الغامضة والمثيرة .. ففقدت كل صلابتها وهي تنظر الى عينيه قال لها بخفوت :- عديني بانك ستمنحيننا تلك الفرصة يا جودي .. سنلتقي مجددا ونتحدث كاي شاب وفتاة يلتقيان في الظروف الصحيحة … وسيعرف كل منا الكثير عن الاخر .. عندها ستوقنين بنفسك باننا قد خلقنا لنكون معا
همست لاهثة:- لا استطيع ان اعدك
لمس ذقنها الصغيرة وابتسم برقة قائلا :- اما انا فاعدك بانك لن تكوني ابدا لرجل اخر
ابتعد عنها قليلا وهو يقول :- اما بالنسبة للوحة فانا لم اعد اريدها بعد الان .. لا اظنني سارضى ابدا باقل من النموذج الاصلي
بابتسامة واعدة ومغرية .. تركها ومشى مبتعدا
اما هي فقد لاحظت جيدا كيف ارتجف جسدها كرد فعل على كلماته وتلميحاته المتملكة .. هذا الرجل يريدها باي طريقة كانت .. والمصيبة ان مجرد التفكير بهذا يجعل قلبها يرتعش باستسلام وترقب
احمر وجهها .. وتدفقت دموع الخوف الشديد من اكتشافها مدى ضعفها
وعندما بدات بجذب المزيد من الانظار .. قدرت بان الوقت قد حان كي تهرب الى ملجا امين يحميها من وساوسها .. الى طارق .
- تعبير في إقناع زميلي أن المعرض مهمة
- رواية سيدة الشتاء