يقول ميخائيل باختين في كتابه “الملحمة والرواية” ترجمة د.جمال شحيد: “الرواية هي النوع الادبي الوحيد الذي لايزال في طور التكوين، والنوع الوحيد الذي لم يكتمل بعد” اي ان علينا، في الرواية، الا نضيق على انفسنا، وان نجرب فيها تجريبا جريئا، فكل كم يفضي الى نوع، ومع النوع ترتقي الرواية وتتطور حتى يتكامل تكوينها، والمهم في كتابة الرواية، ان يكون الكاتب قد عاش الحياة، جربها، خبرها، عانى فيها معاناة هينة، لينة، او شديدة قاسية، وانا مع المعاناة الشديدة، لان منها تكون التجربة، المكتوية بنار الحقيقة، ومن هذه النار يتولد الحدث، وليس من قيمة لرواية دون حدث معاش، وهو الاهم، او مسموع، وياتي في الدرجة الثانية من الاهمية. ففي رواية الحدث، على راي منظري الرواية، تفتننا المتعة بما يجري من حياة امامنا، وما تاخذه، من انطباع عن هذا الذي يجري، وهذا تماما ما عناه هنري جيمس بقوله: “تظل الرواية انطباعا مباشرا عن الحياة”.
لكن الحدث الحي، زمنه الماضي، والا ما كان حدثا منتهيا، ودون حدث تم وانتهى، تبقى الاشياء متخيلة، والخيال وحده، رغم ضرورته في العمل الروائي، لا يشكل حدثا، اذا لم يستند الى واقع، وحتى الاحداث الصغيرة ضرورية، لانها النواة، وكل نواة، حين تنبت، وتصير غرسة، مالها ان تكبر، ان تتجذر، ان تصبح شجرة، وفي كل شجرة جذع واغصان، وزهر وثمر، توفر التفاصيل عندما نتصدى الى وصفها، في كلام موجز، او غزير.
الحدث، اذن، يقوم في الماضي، ويعطي انعكاسه، في تطاول السياق، للحاضر والمستقبل، وفي الاسقاط، وهو معروف ومعمول به في الادب، نستطيع ان نجعل القارئ يقرا ما بين السطور، ويفهم الرمز الدال على ان الكلام على الماضي يقصد به الحاضر، والقصد، في الرمز كما في الاسطورة، يسبغ على العمل الادبي متعة ورؤية، وبكلمة اخرى، فكرة تترسخ في الذهن، وبقدر ما تكون السوية الفنية جيدة، والحل المرتقب بارعا، تؤثر الفكرة، وتشكل رايا في الاحداث يتطلب اتخاذ موقف منه، او يكشف للمرء الحقيقة المضمرة، او الغائبة، تاركا له تحديد موقف منها، والعمل يبدا، دائما، بفكر يتحول الى موقف، ومنه يكون الانطلاق الى ايما ابداع.
ترى مجموعة من الباحثين السوفييت، في كتاب “الادب والعلوم الانسانية” ترجمة يوسف حلاق: “ان الجديد يكون حين يكون لدى الكاتب ما يقوله لقرائه، وهذا الذي يريد ان يقوله، هو الذي يحدد شكل التعبير الذي لم يسبقه اليه احد، وهو التجديد والابتكار الفعليين والحقيقيين”.
ان المستخلص من هذا الكلام، بل شرطه الاساس، ان يكون لدى الكاتب ما يقوله لقرائه، وهذا القول، في الرواية، ياتي من خلال الحدث وبدلالته، وبهذه الصفة يكون قولا جديدا، في اي من الازمنة الثلاثة وقع، ما دام الترابط، في الزمن، يحيل بعضه الى البعض الاخر، وفي هذه النقطة يتحدد شكل التعبير، وشرطه، كما سبق، ان يكون لدى الكاتب ما يقوله، لا بطريقة مباشرة، تقريرية، تعسفية، ذهنية خالصة، وانما من خلال الجنس الادبي الذي نشتغل عليه، وهذا هو الجديد الذي يكون، عندما تكون ثمة معاناة، تجربة، خبرة، مشاهدة، معاينة، تتبار في حديث قصصي او روائي، بصرف النظر عن زمن وقوعه.
لدي، ههنا، وجهة نظر، فقد كتبت عن الحاضر الدال على المستقبل، مثل روايات “نهاية رجل شجاع” و”ماساة ديمتريو” و”الرجل عند الغروب” و”النجوم تحاكم القمر”، و”القمر في المحاق” وغيرها، والزمن الحاضر فيها ليس ابن ساعته، فليس من حاضر الا وهو ماض في نفس اللحظة، ولكن عن الزمن القريب، فالمعروف عني، وكما قلت في بعض كتاباتي، يلعب الماضي الحاضر دورا مهما في رواياتي، لكنني لا احمل تفكيرا ماضويا، فالحدث الروائي لا بد ان يعيش في الذات الابداعية، بعد ان يكون قد انبثق فيها، والعيش المقصود هو التخمر، هو الابتعاد عن الاني، كي استطيع رؤيته من بعيد، هو النظر الى الجبل من مسافة بعيدة عنه، لنراه بحجمه وحقيقته الكاملين، هو الانزياح عن وطاة اللحظة المازومة التي كثيرا ما تجرف الكاتب في تيار حماستها، والفارق بين الروائي والشاعر يكمن هنا، فالشاعر هو الذي ينفعل باللحظة المازومة، الانية احيانا، ويعبر عنها تلقائيا، اما الروائي، وكذلك القاص، بدرجة اقل، فانهما بحاجة الى التاني، الى الدراسة، الى تقليب الحجر، وحجر الحدث خصوصا، على كافة وجوهه، ليريا اليه من جوانبه كلها، وهذا شرط كامل، اساسي، بالنسبة للروائي، لكنه غير ضروري، بالقدر نفسه، بالنسبة الى الشاعر الذي ينفصل انيا، ويعبر انيا، وغير ضروري، بدرجة اقل، بالنسبة للقاص، الذي يشتغل، غالبا على الواقعة كشريحة من الحياة وليست الحياة كلها، وهذه الواقعة قد تكون مشهدا، لقطة، صورة ما عن خبر مرئي او مسموع، او ما عبرت عنه باللحظة المازومة، هذه التي هي، في رايي، جوهر الحدث القصصي، لكونه يتناول، ويبني، ما هو جزئي، وليس ما هو شامل في الحياة، بينما الروائي يتناول، وينشئ حياة كاملة، في حدود الحدث الحياتي الكامل الذي يعالجه، بانيا، بمعمار هندسي، بناء كاملا، في حين يكتفي القاص بقاعة واحدة من هذا البناء، يمكن، بالمهارة القصصية، ان تكثف في ذاتها، او تعطي، في الايماء، الجو المتخيل للعمارة كلها، الجو المتخيل، العام، الذي في القصة، غير ملزم، بل من الخطا ان يتناول التفصيلات بكل جزئياتها. لانه بذلك يثقل القصة، ويؤدي فعله الى تشتيت لقطتها التي تحتاج الى التبئير الشديد.
هذا هو المفترق، والفارق الاساس، بين القاص والروائي، فهذا الاخير يقيم عمارة متكاملة روائيا، لذلك فهو ملزم، من خلال السرد، ان يتانى، ان يتناول التفصيلات والجزئيات، ان يصف الاشياء مباشرة، او بالايماء والايحاء، الا ان المعمار الروائي لا يكتفي، غالبا بالايماء، ولا بالايحاء، لان شانه، في هذا المجال، شان المهندس المعماري تماما، ان يضع اللبنة فوق الاخرى، والحجر على الحجر، مع حساب الزوايا، والمهاد، والعرض والطول، واعمدة الاساس، التي ستحمل العمارة كلها.
وقبل الشروع بالبناء، هناك التحضير له، وهذا التحضير مطلوب من المهندس والروائي، اذ بينما يعتمد المهندس على التصاميم المرسومة على الورق، من قبله او قبل المكتب الهندسي الذي يتعامل معه، فان الروائي يعتمد التصميم المخطط على الورق ايضا، بادئا بالمخطط الذهني اولا، وبعد ذلك تاتي عملية التخطيط على الورق، ولا ادري لماذا يخيل الي، ان على الروائيين العرب الا يكتفوا، كما هي العادة الان، العادة التي درجنا عليها نحن جيل التجريب، بالتخطيط الذهني وحده، فالتخطيط المرسوم، بعناية، على الورق، هو الافضل، وعليه تجري الدراسة، حول السياق، بداية ونهاية، وفيه تطرح الاسئلة حول شخص الرواية، ولماذا تفعل هذه الشخصية هذا ولا تفعل ذاك، وكيف تتقاطع، وتتلاقى، وتندغم، وتنفرد، بالشخصيات الاخرى، وما هو الحدث، ويكف يتكون، وكيف يتمدد، ناميا مع السياق، الخ؟
- النوع الادبي لرواية نهاية رجل شجاع
- رواية عن الحدث