افضل مواضيع جميلة بالصور

قصة خيالية طويلة

كان ابو بشير رجلا بشعا مخيفا هائل الخلقة يحيط به الرعب وهو يسكن وسط الموت بقامته الطويلة ومعطفه الذي يشبه لون الخريف والذي لا يفارق جسده صيفا او شتاء فيبدو وكانه ملك الموت يقيم في مملكته سعيدا مبتهجا.
كان رجلا طويلا جدا. اطول رجل شاهدته في حياتي. وكان مستقي القامة, حاد النظرات، ذو وجه يتوسطه اكبر انف شاهدته في حياتي. ومن عينيه الحادتين الصغيرتين كانت تنطلق نظرات مخيفة. وفي وجهه المجدور, كانت تنطلق تنتشر لاثار بقع بنية وكانها فوهات براكين خامدة.
كانت يده اليمنى مشلولة من الرسغ وحتى اطراف الاصابع, وهي دائمة الارتجاف. وكان يبدو وكانه يحملها بصعوبة. وكان دائم النظر اليها وكانه يخجل من وجودها. وخيل الي وكانه يود انها لم تكن موجودة. فقد كان يكره الضعف ويده تلك كانت علامة من علامات ضعفة التي لا حيلة له في وجودها. وعلى كتفه الايمن كانت بندقته التي لم تكن تفارقه ابدا وكانها جزء من معطفه.
كان ابو بشير حارسا للموتى. فقد كان يقوم بحراسة المقبرة. وكنت دائما اتخيله حارسا مكلفا بمنع الموتى من الرجوع الى الارض, فلم اكن اتصور ا، احدا من الناس يفكر في الذهاب الى المقبرة ليسرق منه شيئا. اذا لا بد وان ابا بشير قد وجد لكي يمنع الموتى من الخروج ن قبورهم والعودة الى الارض.
كان الموت بالنسبة لنا – ونحن صغار- قوة لا يمكن ان تقاوم. وكنا نعتقد ان الوتى ية خرجون ن قبورهم عندما يخيم الظلام ليعيثوا في الارض, وان اجسادهم تخرج من القبور باحثة عن الارواح لكي تقبض عليها. ولذلك فان رجلا مكلفا بحراسة الوتى لا بد وان يكون اقوى منهم. وهكذا ارتبطت صورة ابا بشير في اذهاننا بالقوة المطلقة والرعب الذي لا حد له. وكان صمته الدائم وقامته الطويلة بوجهه المجدور ومعطفه الذي يشبه لون الخريف وبندقيته التي لا تفارق كتفه ويده المشلولة والدائمة الارتجاف, يجعل منه اسطورة عصية على الفهم على الاقل بالنسبة لاطفال في اعمارنا.
حينها, كانت المقبرة تقع في الطرف الشرقي للمدينة, يتوسطها شارع صغير قد قسمها الى قسمين. وقد زرعت على جانبي الشارع صفوف ن اشجار السرو وقد طالت هذه الاشجار وارتفعت ومال القسم الغربي منها – بفعل الرياح – على القسم الشرقي فالتقت رؤوسها وكانها اقواس من صنع الطبيعة.
في نهاية الشارع, كان يقوم بيت ابي بشير المبني من الصفيح. البيت الوحيد في المنطقة. في الجانب الشرقي من الشارع كانت تقوم مقبرة الشهداء , وقد تراصت في خطوط مستقيمة وعلى شواهد قبوره قد كتبت اسماءهم واعمارهم وتواريخ استشهادهم. وفي نهاية الصفوف من الناحية الجنوبية كانت هناك بعض القبور التي حفرت ولا زالت خالية تنتظر الموتى الجدد ليسكنوها.
اما على الجانب الغربي من الشارع, فقد كانت تقع قبور الناس ن غير الشهداء تنتشر بشكل عشوائي لا نظام فيه وكانها تنبت من الارض. بعضها قد بني فوقه ما يدل على هواية ساكنيه وزرعت حوله الاشجار. والبعض الاخر مهمل وقد درس واندثر الا من بعض الشواهد التي تعطيك انطباعا مبهما بان شخصا ما يرقد هناك.
كانت العادة في تلك الايام انه اذا مات شخص ما , فان اهل الحي يخرجون معه الى المقبرة مهللين ومكبرين وموحدين سائرين على الاقدام وهم يتناوبون على حمل الميت, حتى اذا بلغوا المقبرة , وقفنا – نحن الصغار – بعيدين عنها ننتظر ان يصدر الناس لكي نعود معهم.
لم يكن ابا بشر في مثل هذه اللحظات يختلط بالناس. كان يقف امام بيته بقامته الطويلة ومعطفه وبندقيته ووجهه الجامد التعابير والذي كان يخيل الي انه كانت ترتسم عليه معالم الفرح والسعادة والشماتة وكانه مسرور لوت شخص جديد وانضمامه الى مملكته.
وفي كل مرة كنت اغادر المقبرة كنت اشاهد ابا بشير يذهب الى قبر الوافد الجديد ويركع امامه. وكنت اعتقد في تلك الايام, انه يذهب الى هناك شامتا سعيدا وكانه يريد ان يتاكد ان الساكن الجديد لن يحاول الخروج من قبره واللحاق بنا. وكان هذا ا يزيد من خوفي ورعبي من ابي بشير.
وفي يوم من الايام، مات جدي .مات كما يومت جميع الناس .وبينما التف الناس حوله يبكون عليه ،كنت انا اناظر نحو جسده الهزيل النحيل واتخيل ابا بشير فرحا مسرورا ينتظرجدي ببندقيته ومعطفه والسعادة والشماتة تطفران من عينيه .احسست بالاشفاق والخوف على جدي .وبكيت بحرق والم .ليس على جدي ولكن لخوفي عليه من ابي بشير .
حمل الناس الجسد الهزيل الى المقبرة . وكعادتي تبعتهم الى هناك .ولم اقف بعيدا هذه المرة ،بل اقتربت ووقفت ملاصقا للقبر.ودفن الناس جدي ثم تفرقوا وبقيت انا ووالدي بجانب القبر .
وهناك ، كعادته كان ابو بشير يقف امام بيته ينظر نحو الجوع وهي تتفرق وبندقيته على كتفه .احسست بالخوف يتسرب الى داخل نفسي . وتساءلت ان كان سيظل واقفا هناك حتى انصرف انا ووالدي ،ام انه سياتي كعادته ويركع امام قبر جدي كما مع جيع الوافدين الجدد.
وتحرك ابو بشير بخطواته المتهلة وجسده الطويل . ولم ابتعد واحسست بشيء يتملكني ويجذبني للبقاء بجانب جدي . زاقترب ابو بشير وتحركت انا بجانب القبر اكثر و اكثر . واقترب ابو بشير اكثر واكثر حتى وقف عند قدمة القبر , ولاول مرة شاهدت ابا بشير عن قرب . ل يكن شامتا ولا سعيدا ولكن في عينيه حزن واشفاق عميقين وفي سمات وجهه تعابير غريبة . ورايته يرفع يديه امام وجهه ويتتم بصوت خافت شيئا تبين لي انه سورة الفاتحة .
لم اصدق ما رايت . لا .ليس هذا ابا بشي . لا بد انه يخدعني انا ووالدي حتى ننصرف ثم يبدا مشواره الطويل مع جدي . وتخيلت اباب بشير ينتفض واقفا بعد ذهابنا وفي عينيه سعادة وفرح وشاتة . وتخيلته يحفر القبر وينتزع جدي ويبدا بتعذيبه وبندقيته بين يديه , وتخيلت جدي السكين بجسده النحيل وعيناه الغائرتان ، واقفا بين يدي ابا بشير مرعوبا مرتجفا .
وفي يوم الخميس التالي عدت مع والدي لزيارة قبر جدي كما هي العادة . وكان يدفعني للذهاب دافع غريب . فقد كنت اريد ان اعرف ما فعله ابي بشير مع جدي . وعندما وصلنا المقبرة ، كان اول ما بدا لي منها هو مدخلها وقد خلا من قبر ابي بشير . لقد رحل ابو بشير . واحسست بخيبة امل شديدة .
وبحثت عن ابي بشير فلم اجده . كان في مكانه رجل هزيل صغير الجسم . وساله والدي عن ابي بشير . فاشار الرجل الى قبر عند مدخل المقبرة واخبرنا ان ابا بشير يرقد هناك . كان قبرا طويلا .اطول قبر في المقبرة . وكان نائيا منعزلا عن باقي القبور .
ولم اصدق ان ابا بشير قد ات . ابا بشير لم يمت ، ولكنه انتقل الى داخل مملكته بدل ان يجلس خارجها عند البوابة . فحراسة الموتى من الداخل افضل من حراستها من الخارج . لابد ان ابا بشير يجلس الان امام مدخل مملكته ومعه بندقيتخ ومعطفه الطويل لكي يمنع الموتى من الخروج والبحث عن ارواحهم الهائمة . ورايتني انظر نحو القبر بخوف ورهبة وكانني انظر نحو ابا بشير نفسه . ثم تجرات واقتربت من القبر ووقفت عند راس ابي بشير .
رحت بعيني اقيس القبر من اوله الى اخره . القبر الطويل الذي ل اشاهد قبول اطول منه في حياتي . واحسست بالشماتة والقوة فصرخت بصوت عال مخاطبا ابا بشير ” يا حارس الموتى افق . اني اتحداك واستبيح مملكتك . الارض والتراب والشجر والحجر وحتى رفات الموتى وقبورهم . وانت في مكانك لا تملك ان تفعل شيئا . عاجزا تحت الثرى كما هي حال محروسيك . فاين قوتك وجبروتك وبندقيتك ومعطفك الذي لا تنزعه في الشتاء او الصيف , افق واطردني عن حدود مملكتك لانك ان لم تفعل ، فسوف ادخل هذه المملكة واعيث فيها فسادا وابيح لنفسي كل الذي منعتني عنه . سافعل ما لم يخطر ببالك اني فاعله . ساحرث الارض وانتزع الاجساد من قبورها واولها جسدك وازرع الارض فوقكم شوكا فلا تقدر ان تخرج في الليل لتبحث عن روحك . فانا اعرف انك مدفون دون حذاء . ”
ومرة اخرى رحت اقيس القبر بعيناي حتى وصلتا الى اخره . هناك كان يرقد معطف ابا بشير عند رجليه ،لكن دون ان يكون محشوا بالجسد الطويل . وخيل الي ان ابا بشير منكمش تحت المعطف وانه ينهض و يمسك بي . واحسست بالخوف والرعب الشديد . ورايت المعطف يقف ويبرز منه راس ابي بشير ثم قدماه وكامل جسده .فصرخت برعب شديد وركضت هاربا الى داخل المقبرة وهو يطاردني.
ماكدت اصل الى القبور، حتى خرج الموتى من قبورهم ينظرون نحوي . كانوا جميعا يحملون انف ووجه ابا بشير –النساء والاطفال والشيوخ والرجال -. وكلا مررت بجماعة منهم كانوا يركضون خلفي. فزدت من سرعتي وركضت بكل قواي قافزا بين القبور ، متخطيا الشجيرات الصغيرة التي تنمو هنا وهناك وصوت الخطوات المتسارعة والانفاس اللاهثه يركض خلفي ويقترب مني رويدا رويدا. وتعثرت قدمايا فسقطت وسمعت قهقهات الموتى و ضحكاتهم ، فتلكني الخوف و نهضت اركض من جديد. واحسست بقداي ترتفعان عن الارض وتسبحان في الفضاء . ورايت الموتى يطيرون عن يميني و شمالي.
اجتزت سياج مقبرة الشهداء وهم خلفي. وفجاة امسك احدهم بقدمي وجرني للاسفل فوجدت نفسي دخل قبر فارغ من قبور الشهداء التي تنتظر الساكن. فدفنت راسي بين ذراعي ورحت اصرخ.وخفتت الاصوات شيئا فشيئا حتى تلاشت ، وساد صمت رهيب.
رفعت راسي الى الاعلى ، فشاهدت انا مئات بل الاف من العيون تنظر نحوي .لقد تجمع فوق القبر كل الوت ينظرون نحوي بصمت وعيون مشدوه . وسعت حركة بين العيون ، وبرز انف ابا بشير . كان في عينيه عطف وحزن واشفاق . مال نحوي ومد يده المشلولة وامسكني من عنقي وجذبني خارج القبر ثم راح ينظر نحوي طويلا .وبعدها ضحك ضحكا عاليا ثم تركني واستدار وخلفه سارت كل مملكته. تملكني خوف شديد وسقطت راكعا على ركبتي ،ورفعت راسي وفتحت عيناي فوجدتني لازلت اقف امام قبر ابي بشير ومعطفه لايزال فوق القبر .

 

  • قصة خيالية طويلة
السابق
معنى ثنا
التالي
اين توجد محلات سبيستونات