الذنوب تطفئ الغيرة
ومن عقوبات الذنوب : انها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن ، فالغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة ، كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد ، واشرف الناس واعلاهم همة اشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس ، ولهذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – اغير الخلق على الامة ، والله سبحانه اشد غيرة منه ، كما ثبت في الصحيح عنه – صلى الله عليه وسلم – انه قال : اتعجبون من غيرة سعد ؟ لانا اغير منه ، والله اغير مني .
وفي الصحيح ايضا عنه انه قال في خطبة الكسوف : يا امة محمد ما اغير من الله ان يزني عبده او تزني امته .
وفي الصحيح ايضا عنه انه قال : لا احد اغير من الله ، من اجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا احد احب اليه العذر من الله ، من اجل ذلك ارسل الرسل مبشرين ومنذرين ، ولا احد احب اليه المدح من الله ، من اجل ذلك اثنى على نفسه .
[ ص: 67 ] فجمع في هذا الحديث بين الغيرة التي اصلها كراهة القبائح وبغضها ، وبين محبة العذر الذي يوجب كمال العدل والرحمة والاحسان ، والله سبحانه – مع شدة غيرته – يحب ان يعتذر اليه عبده ، ويقبل عذر من اعتذر اليه ، وانه لا يؤاخذ عبيده بارتكاب ما يغار من ارتكابه حتى يعذر اليهم ، ولاجل ذلك ارسل رسله وانزل كتبه اعذارا وانذارا ، وهذا غاية المجد والاحسان ، ونهاية الكمال .
فان كثيرا ممن تشتد غيرته من المخلوقين تحمله شدة الغيرة على سرعة الايقاع والعقوبة من غير اعذار منه ، ومن غير قبول لعذر من اعتذر اليه ، بل يكون له في نفس الامر عذر ولا تدعه شدة الغيرة ان يقبل عذره ، وكثير ممن يقبل المعاذير يحمله على قبولها قلة الغيرة حتى يتوسع في طرق المعاذير ، ويرى عذرا ما ليس بعذر ، حتى يعتذر كثير منهم بالقدر ، وكل منهما غير ممدوح على الاطلاق .
وقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – انه قال : ان من الغيرة ما يحبها الله ، ومنها ما يبغضها الله ، فالتي يبغضها الله الغيرة من غير ريبة وذكر الحديث .
وانما الممدوح اقتران الغيرة بالعذر ، فيغار في محل الغيرة ، ويعذر في موضع العذر ، ومن كان هكذا فهو الممدوح حقا .
ولما جمع سبحانه صفات الكمال كلها كان احق بالمدح من كل احد ، ولا يبلغ احد ان يمدحه كما ينبغي له ، بل هو كما مدح نفسه واثنى على نفسه ، فالغيور قد وافق ربه سبحانه في صفة من صفاته ، ومن وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة اليه بزمامه ، وادخلته على ربه ، وادنته منه ، وقربته من رحمته ، وصيرته محبوبا ، فانه سبحانه رحيم يحب الرحماء ، كريم يحب الكرماء ، عليم يحب العلماء ، قوي يحب المؤمن القوي ، وهو احب اليه من المؤمن الضعيف ، حتى يحب اهل الحياء ، جميل يحب اهل الجمال ، وتر يحب اهل الوتر .
ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي الا انها توجب لصاحبها ضد هذه الصفات وتمنعه من الاتصاف بها لكفى بها عقوبة ، فان الخطرة تنقلب وسوسة ، والوسوسة تصير ارادة ، والارادة تقوى فتصير عزيمة ، ثم تصير فعلا ، ثم تصير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة ، وحينئذ يتعذر الخروج منهما كما يتعذر الخروج من صفاته القائمة به .
والمقصود انه كلما اشتدت ملابسته للذنوب اخرجت من قلبه الغيرة على نفسه واهله وعموم الناس ، وقد تضعف في القلب جدا حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره ، واذا وصل الى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك .
[ ص: 68 ] وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح ، بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ، ويزينه له ، ويدعوه اليه ، ويحثه عليه ، ويسعى له في تحصيله ، ولهذا كان الديوث اخبث خلق الله ، والجنة حرام عليه ، وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه له ، فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة .
وهذا يدلك على ان اصل الدين الغيرة ، ومن لا غيرة له لا دين له ، فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح ، فتدفع السوء والفواحش ، وعدم الغيرة تميت القلب ، فتموت له الجوارح ؛ فلا يبقى عندها دفع البتة .
ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه ، فاذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلا ، ولم يجد دافعا ، فتمكن ، فكان الهلاك ، ومثلها مثل صياصي الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وولده ، فاذا تكسرت طمع فيها عدوه .
- هل الذنوب تميت الغيره
- هل الذنوب تطفئ الغيره
- هل الغيرة تميت القلب
- هل كثره الذنوب تميت الغيره
- هل ياخذ الله الغيره من القلب