شرح كتاب الابانة – الايمان بان الله كتب على ادم المعصية قبل ان يخلقه – للشيخ : ( حسن ابو الاشبال الزهيري )
لقد خلق الله تعالى ادم عليه السلام ونهاه عن اكل الشجرة، وعلم انه سياكل منها قبل ان يخلقه، وهكذا سائر المعاصي والشرور علمها الله تعالى قبل ان يخلقها؛ لانه لا يكون شيء في ملكوت الله تعالى الا بعلمه وتقديره، خيرا كان او شرا، وفي هذا رد على الذين يقولون: ان الله تعالى لم يخلق الشر ولم يرده، وان العبد يخلق فعل نفسه، وهم القدرية الذين شابهوا المجوس، ومن نحا نحوهم، ولذلك لما تحاج موسى وادم حج ادم موسى؛ لانه احتج بقدر الله على معصيته بعد ان تاب منها، او على مصيبة خروجه من الجنة، فذكر ان كل ذلك كان بقضاء الله تعالى وقدره.
ذكر مجمل مسائل القدر الواردة في المجلد الرابع من كتاب الابانة
ان الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبده ورسوله.وبعد:فان اصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الامور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.لقد انتهينا من المجلد الثالث من كتاب الابانة، وهو المجلد الاول في باب القدر، ونحن الان مع المجلد الثاني في كتاب القدر، والمجلد الرابع في كتاب الابانة، وهذا المجلد كله يتعلق بالكلام عن عشر مسائل من مسائل القدر.
الايمان بان الله كتب على ادم المعصية قبل ان يخلقه
واولى هذه المسائل او الابواب: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الايمان بان الله عز وجل كتب على ادم المعصية قبل ان يخلقه] اي: اعتقاد ان الله عز وجل كتب المعصية على ادم قبل ان يخلقه، ومعصية ادم كانت الاكل من الشجرة، وقد نهاه الله عز وجل عن الاكل منها، لكن الشيطان سول له ان هذه شجرة الخلد، وانه اذا اكل منها فانه سيخلد ولا يموت ابدا، فانصاع ادم لكلام اللعين ابليس عليه لعنة الله، فاكل من الشجرة، فكان ما كان بعد الاكل ان طرد من الجنة وكثرت ذريته وانتشر نسله في الارض.والراجح ان هذه الجنة التي طرد منها ادم كانت في السماء ولم تكن في الارض، وقد جاءت بذلك بعض النصوص، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة، اي: من قال: ان الله لم يكتب المعصية على ادم قبل ان يخلقه فهو من الفرق الهالكة والضالة، وكما تعلمون ان النبي عليه الصلاة والسلام قال: (افترقت اليهود الى احدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى الى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الامة الى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار الا واحدة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما انا عليه واصحابي)، اي: من كان على الهدي النبوي وعلى سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة الاكرمين رضي الله عنهم اجمعين.ولا يلزم من قولنا ان هذه الفرق ضالة وانها في النار انها مخلدة؛ لانه لا يخلد في النار الا الكفار والمنافقون، والدليل على ان هذه الفرق رغم ضلالها وهلاكها الا انها ليست كافرة ولا تخلد في نار جهنم ان النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وستفترق امتي)، فسماهم من الامة، ومفاد البحث في هذا الحديث او في هذه الجزئية من الحديث ان الامة الاسلامية ستفترق الى ثلاث وسبعين فرقة، وقد بين شيخ الاسلام ابن تيمية في الفتاوى وغير واحد ممن تعرض لشرح هذا الحديث ان هذه الفرق كلها قد ظهرت في الامة، والخوارج اول الفرق ظهورا حتى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل: ذلك الرجل الذي يدعى بذي الخويصرة التميمي : (لما اتى الى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا محمد! اعطني من مال الله لا من مالك ولا مال ابيك، فلما اعطاه النبي عليه الصلاة والسلام قال: والله ما اريد بهذه القسمة وجه الله، فقال النبي: ويحك! ومن يعدل اذا لم اعدل؟! فلما ولى مدبرا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم الى صلاتهم، وصيامكم الى صيامهم، يقرءون القران لا يجاوز تراقيهم)، فانظر الى اوصاف اهل البدع، فتجد انهم يجتهدون جدا في العبادة، وهذا هو الذي يغر العامة؛ فيرى رجلا من اهل البدع يصلي ويصوم اكثر منه، ويقرا القران باستمرار لا يمل ولا يتعب، فيغتر به فيقول: هذا رجل من اهل الصلاح، لكن لا يعلم انه من اهل البدع الا اهل العلم، ولذلك العلم نور وبصيرة، وقوله في الحديث: (يقرءون القران لا يجاوز تراقيهم)، اي: ان القراءة من اللسان والفم ولا علاقة لها بالقلب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الخوارج كلاب النار)، وغير ذلك من الوعيد الذي ورد فيهم.ثم ظهرت بعدهم -بعد الخوارج- القدرية الذين انكروا القدر، وقالوا: ان الامر انف، وان الله لا يعلم الاشياء الا بعد وقوعها، فنفوا العلم الازلي لله عز وجل، كما نفوا الكتابة في اللوح المحفوظ وغير ذلك.وبلا شك ان غلاة الفرق كفار خارجون عن الملة، وفي بعض فروع هذه الفرق فرق اخرى، فتجد ان القدرية انقسموا الى اقسام كثيرة، وتجد الشيعة او الرافضة انقسموا الى اكثر من عشرين فرقة داخلية، فيندرجون تحت فرقة واحدة وهي الشيعة او التشيع، لكنهم انقسموا فيما بعد على انفسهم، وكل انقسام اخذ فرقا داخلية في داخل الفرقة الواحدة، ومن هذه الفرق الفرعية ما اتى باقوال تنقض الايمان والاسلام والتوحيد من اساسه، وبلا شك لو وجدنا ان في بعض الفرق من يقول: الله تعالى رجل جميل المنظر! ان هذا القول كفر بواح، ومن قال به او اعتقده فقد كفر بالله عز وجل؛ لانه ليس له مثيل ولا شبيه ولا كفء ولا ند: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى:11]، فالذي يقول: ان الله تعالى على صورة الرجل، او انه رجل جميل المنظر غير انه مجوف او مصمت -هكذا قالوا- فهو كفر، ولولا ان الله حكى مقالة الكافرين في الكتاب ما جرؤت ان احكي مقالة هؤلاء، ولكن اقتداء بالقران الكريم لما حكا الله تعالى اقوال الكافرين جوز لنا ان نحكي اقوال الكافرين كذلك.قال: [الباب الاول: الايمان بان الله عز وجل كتب على ادم المعصية قبل ان يخلقه، فمن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة].
الايمان بان السعيد والشقي من سعد او شقي في بطن امه وخلق الله للنطفة وان عزل صاحبها
قال: [الباب الثاني: باب الايمان بان السعيد والشقي من سعد او شقي في بطن امه قبل ان يظهر الى الوجود، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة. الباب الثالث: الايمان بان الله عز وجل اذا قضى من النطفة خلقا -اي: اذا قدر للنطفة ان تكون خلقا وانسانا مكونا- كان، وان عزل صاحبها]، اي: وان عزل عن امراته، ولكن الله تعالى قدر للنطفة ان تكون ولدا كانت، ولذلك انتم تعلمون ما ورد في السنة: (كنا نعزل والقران ينزل)، والعزل هو ان يجامع الرجل امراته فاذا اراد ان يقذف قذف ماءه خارج الرحم، والحرة تستاذن في ذلك ولا تستاذن الامة؛ لان هذا باب من ابواب الايلام، فالحرة تستاذن فيه خلافا للامة، والعزل جائز مع الكراهة، كما ان الخصاء مكروه؛ ومن عزل لا ياثم بذلك؛ لان الصحابة كانوا يعزلون في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، (واستاذنه رجل في العزل، فقال: اعزل او لا تعزل، فاذا قدر الله تعالى للنطفة ان تكون كانت)، اي: انه يريد ان يبين ان هذه المسالة لا تعلق لها ابدا بمشيئتك، فاذا شاء الله تعالى ان تكون نطفة كانت وان عزلت.ونحن الان نسمع كثيرا في الابحاث الطبية ان امراة تحمل دون جماع، وانا لا اريد ان افتح هذا الباب؛ لانكم تعلمون خطورته؛ فالباب هو ان كل زانية تاتي وتقول: انا حملت بغير جماع، كما فتح الباب من قبل على مصراعيه لما انتشر ان الجن يجامعون النساء، فكل امراة فاجرة زنت تقول: لقد جامعني الجني! وهذا خارج عن ارادتي، ولا شك ان هذا باب لو فتح على مصراعيه فالامر فيه خطير.
التصديق بان الايمان لا يصح لاحد حتى يؤمن بالقدر
قال: [الباب الرابع باب: التصديق بان الايمان لا يصح لاحد ولا يكون العبد مؤمنا حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وان المكذب بذلك ان مات عليه -اي: على التكذيب بالايمان بالقدر خيره وشره- دخل النار، والمخالف لذلك من الفرق الهالكة]، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن احدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وان كل ذلك من عند الله).
الايمان بان الشيطان مخلوق مسلط على بني ادم
قال: [الباب الخامس: باب الايمان بان الشيطان مخلوق] والذي خلق الخلق هو الله عز وجل، ومن بين المخلوقات ابليس، وهو راس الشر، والخير والشر من عند الله، والخير والشر مخلوقان لله عز وجل.قال: [باب الايمان بان الشيطان مخلوق مسلط على بني ادم يجري منهم مجرى الدم]، اي: كما يجري الدم في العروق، فكذلك الشيطان يجري منك كما يجري الدم، فما هو الدليل؟اليس قول النبي الكريم: (ان الشيطان اذا سمع الاذان ولى وله ضراط)؟ والحديث في الصحيحين، لكن هل هو في المسالة التي ذكرتها؟ لا، ولذلك الدليل الذي يصح الاحتجاج به يشترط فيه شرطان: الاول: ان يكون صحيحا، والثاني: ان يكون صريحا في النزاع.ومن قبل قلت لكم: لو ان امراة اتت الان وقالت: طلقني زوجي، اي: قال لها: اذهبي فانت طالق، فهل هذا الطلاق يقع ام لا؟الجواب: نعم يقع، بدليل ان النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صام رمضان ايمانا واحتسابا ثم اتبعه بست من شوال فكانما صام الدهر)! فهذا الدليل صحيح ام لا؟الجواب: الدليل ليس صريحا في النزاع؛ لانه ليس له علاقة بالقضية، ما لقضية الصيام بقضية الطلاق؟! اذا: الدليل الذي يجوز الاحتجاج به في قضية ما شرطاه: ان يكون صحيحا، وان يكون صريحا في محل النزاع، وانا الان اطالب الطلبة بان ياتوا بحديث يثبت ان الشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم في العروق، فقال الاخ الكريم بحديث توفر فيه شرط واحد وفقد الشرط الثاني، اذا هذا يهدم من اساسه ولا يصح للاحتجاج به. كما لو اتى انسان فقال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ان الشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم في العروق)، اخرجه فلان، وفيه فلان الضعيف، فاقول له: انت الان حكمت بان هذا الدليل لا يصلح للحجة، وان كان صريحا في النزاع او في الطلب، لكنه لا يصلح ان يكون دليلا لضعفه.والحجة: (ان النبي عليه الصلاة والسلام كان يعتكف العشر الاواخر من رمضان، فاتت صفية بنت حيي بن اخطب رضي الله عنها ولعن الله اباها، ثم اراد النبي عليه الصلاة والسلام ان يقلبها الى بيتها، فخرج من المعتكف ليردها الى البيت، فراه صحابيان، فناداهما النبي عليه الصلاة والسلام وقال: انها صفية بنت حيي ، فقالوا: سبحان الله! يا رسول الله! اوفيك نشك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ان الشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم في العروق)، والحديث في الصحيحين، وهو صريح في ان الشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم في العروق.وهناك حديث صحيح وصريح من جهة العموم لا من جهة فصل النزاع في قضية فرعية، وهو ان النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فانه اغض للبصر واحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء)، والوجاء الوقاية من الشيطان، ويوضح هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (فضيقوا عليه بالصيام).فتبين ان الصائم يهبط في بدنه جريان الدم، وبالتالي يهبط معه الشيطان ويخمد، وانتم تعملون انه اذا دخل رمضان غلقت ابواب النيران وفتحت ابواب الجنان وصفدت الشياطين بسبب الصيام وغير ذلك.
الايمان بان كل مولود يولد على الفطرة وذراري المشركين
قال: [الباب السادس: باب الايمان بان كل مولود يولد على الفطرة، وذراري المشركين]، اي: ما من مولود من بني ادم الا ويولد على الفطرة كما جاء في الصحيحين انه عليه الصلاة والسلام قال: (كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على فطرة الاسلام، اي: ما من مولود الا ويولد مسلما- فابواه يهودانه او ينصرانه او يمجسانه او يشركانه)، اي: يجعلانه يهوديا او نصرانيا او مجوسيا او مشركا، مع انه ما من مولود الا يولد على فطرة الاسلام، وهذا الميثاق الذي اخذه الله على ذرية ادم لما استخرجهم من ظهور ابائهم؛ يوم ان اخرجهم ووضعهم في كفه سبحانه وتعالى وقال: هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة، او العكس.وكذلك ذراري المشركين، اي: ان كل الكفار اذا انجبوا اولادا صغارا فانهم يولدون على الاسلام وعلى الايمان والتوحيد؛ للميثاق الاول الذي اخذ عليهم: واذ اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم الست بربكم قالوا بلى [الاعراف:172]، اي: شهدوا بربوبية الله عز وجل، والشهادة بالربوبية عند الاطلاق تعني توحيد الربوبية والالهية، واذا ذكر التوحيدان كان لكل منهما مضمون ومراد يختلف عن الاخر، وقد اختلف العلماء في ابناء المشركين اذا ماتوا قبل البلوغ هل هم كفار؟ فقال اقوام من اهل العلم: انهم كفار تبعا لابائهم، وقال بعض اهل العلم: هم مؤمنون، وهم من اهل الجنة مع اطفال المسلمين الذين ماتوا قبل البلوغ؛ لان اطفال المسلمين الذين ماتوا قبل البلوغ يدخلون الجنة ولا اعلم في ذلك خلافا؛ لانه لم يجر عليه القلم، ولم يبلغ الحلم، فلا ذنب اقترفه ولا اثم فعله، وحينئذ هو من اهل الجنة، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بابا من ابواب الشفاعة فقال: (من مات له ثلاثة من الولد قبل ان يبلغوا الحنث فاحتسبهم دخل الجنة، قالوا: يا رسول الله! واثنان؟ قال: واثنان). صلى الله على نبينا محمد، وقد جاء في الحديث: (سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن اطفال المشركين فقال: الله اعلم بما كانوا عاملين)، حتى تعلم منشا الخلاف عند اهل العلم؛ لان اهل العلم اختلفوا على مذاهب شتى، فمنهم من قال: هم كفار، ومنهم من قال: هم مؤمنون، ومنهم من توقف، ومنهم من قال: يبتلون يوم القيامة باختبار وامتحان، فان نجحوا وفازوا دخلوا الجنة، وان رفضوا دخلوا النار، وهذا الامتحان في التوحيد، اذا منشا الخلاف قوله عليه الصلاة والسلام: لما سئل عن اطفال المشركين: (الله اعلم بما كانوا عاملين)، اي: لا اعرف ماذا كانوا سيعملون؟ فلما توقف النبي توقف الناس فيهم، او اختلف الناس فيهم، لكن النبي عليه الصلاة والسلام (سئل في اخر حياته عن اطفال المشركين فقال: هم في الجنة مع ابراهيم عليه السلام)، ولا شك ان هذا القول ينسخ القول الاول، وهذا الذي استقر عليه مذهب جماهير العلماء من اهل السنة والجماعة، ان اطفال المشركين اذا ماتوا قبل بلوغ الحلم وقبل ان يجري عليهم القلم فهم مع اطفال المسلمين في الجنة، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي نرجو ونود ان يكون موافقا لرحمة الله عز وجل؛ لان هؤلاء لا يحاسبون.
ما روي في المكذبين بالقدر وما روي عن الصحابة في ذلك
قال: [الباب السابع باب: ما روي في المكذبين بالقدر. الباب الثامن: باب ما روي في ذلك عن الصحابة ومذهبهم في القدر رحمهم الله] وذكر ابا بكر الصديق ثم عمر ثم علي بن ابي طالب .
باب الايمان بان الله عز وجل كتب على ادم المعصية قبل ان يخلقه
قال: [باب: الايمان بان الله عز وجل كتب على ادم المعصية قبل ان يخلقه، فمن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة].والباب فيه عن عمر بن الخطاب وابي هريرة وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم، وكدت اقول: ان الطرق التي ورد بها هذا الحديث تكاد تكون متواترة، لكن ليست متواترة على الحقيقة، لكنها بلغت مبلغا من الشهرة والذيوع بالمكان العالي.
شرح حديث عمر: (ان موسى قال: يا رب! ارني ادم الذي اخرجنا ونفسه من الجنة)
قال: [عن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ان موسى قال: يا رب! ارني ادم الذي اخرجنا ونفسه من الجنة)]، اي: ارني ادم الذي اخرجنا نحن الذرية واخرج نفسه من الجنة، فهذه مصيبة حلت بادم قبل ان تحل بالذرية.قال: [(فاراه الله عز وجل ادم)]، كلمة (فاراه) تصدق على رؤية المنام كما تصدق على رؤية العين، ولذلك تقول: رايت فيما يرى النائم وتسميها رؤية، مع انها في الحقيقة ليست رؤية بمعنى الكلمة، فلما احتملت هذه الكلمة وغيرها من الكلمات المنصوصة في هذا الحديث اختلف اهل العلم في لقاء موسى بادم، فمنهم من قال: كان لقاء موسى بادم لقاء ارواح، ومنهم من قال: احيا الله لموسى ادم فلقيه وكلمه، ومنهم من قال: ان الله عز وجل انما ارى موسى ادم في قبره، او ارى ادم موسى في قبره عند الكثيب الاحمر في فلسطين، وغير ذلك من الاقوال، والذي يترجح لدي ما رجحه الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله فقال: وهذا من ابواب الابتلاء في الايمان.فالنبي عليه الصلاة والسلام راى الانبياء في ليلة الاسراء وصلى بهم، ولا يجوز ان نتنازع كيف صلى بهم ولا كيف راهم؟ لكننا نقول: ان هذا باب من ابواب الابتلاء في الايمان، فاذا عجزنا عن البلوغ والوصول الى الحكمة من النصوص فلا اقل من ان نسلم في ذلك، ولذلك قال الحافظ ابن حجر قولا ممتعا جدا في الفتح في شرح هذا الحديث: وهذا مما يجب الايمان به لثبوته عن خبر الصادق وان لم يطلع على كيفية الحال، فينبغي الايمان بذلك، وليس هو باول ما يجب علينا الايمان به، وان لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر.لكن ممكن ان يقول شخص: انا مؤمن بعذاب القبر، لكني اريد ان اعرف كيف يقع عذاب القبر؟ وكيف يجلس الميت في قبره وهو ضيق جدا؟ لا تنظروا الى هذه الغرف الكبيرة، وانما اصل القبر لحد كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، فاللحد ضيق جدا لا يكاد الانسان يتقلب فيه حركة واحدة، فما بالك ان ياتي ملكان ويجلسانه ويسالانه وهو يجيبهم؟! ثم اذا تلعثم في الجواب ضرب بمرزبة فغاص في الارض سبعين ذراعا، كيف يتم ذلك كله في هذا القبر الضيق الصغير؟ كل ذلك نؤمن به، وانه على الحقيقة، وان الله على كل شيء قدير، فاذا كنت اؤمن ان الله على كل شيء قدير، اذا: انا اؤمن بان الله قادر على ان يجمع هذا الكون في بيضة صغيرة، بل يجمع هذا الكون ويدخله سم الخياط، اي: خرم الابرة؛ لانه قادر على كل شيء سبحانه وتعالى، ولا اقيس قدرة الخالق بقدرتي، اذ ان قدرتي محدودة ضعيفة، ولها قوانين ارضية سفلية تحكمها، اما الله عز وجل ففوق كل القوانين، وافعاله لا منتهى لها ولا مثيل لها.ولذلك نحن نقول: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الالهية، وتوحيد الربوبية يعني ان الله هو الرب الخالق المدبر لشئون خلقه القيوم على شئون عباده، ومعنى توحيد الافعال، اي: يفعله الله ولا يفعله احد، كيف ذلك؟ الله تعالى يسمع، فهل يسمع العالم كله منذ ان خلق الله السماوات والارض الى قيام الساعة كسمع الله؟ لا يسمعون، وان اجتمعت اسماعهم، فالله تبارك وتعالى هو الذي يخلق ولا خالق غيره ولا رب سواه، ولو اجتمع الانس والجن على ان يخلقوا رجلا او امراة او طفلا رضيعا؛ فهل يستطيعون ان يخلقوا طفلا رضيعا كما يخلق الله؟ لا، اذا: هو واحد في افعاله، ولو قلت لي: هل بامكانك ان تدخل هذا السلك في خرم الابرة؟ اقول لك: انا اعجز عن ذلك، لكن الله يجمع الدنيا كلها اذا اراد ويدخلها من سم الخياط؛ لانه على كل شيء قدير.قال: وليس هو -اي: لقاء ادم لموسى- اول ما يجب علينا الايمان به، وان لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه. واعلم ان هذا الكلام بمثابة الاصول القوية المتينة لاهل السنة والجماعة.قال: ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات، اي: في بيان الحكمة من الامر او النهي اذا ضاقت علينا، مثل: لماذا امرنا الله بصلاة اربع ركعات في الظهر والعصر والعشاء؟ لماذا امرنا الله بصلاة ركعتين في الصبح والمغرب ثلاثا؟ وما الحكمة من هذا العدد؟ ولم لم يجعل الظهر خمسا او ثلاثا؟ خفيت علينا الحكمة ولم يبق لنا الا وجوب التسليم لله عز وجل.قال: ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق الا التسليم، اي: التسليم والاذعان لله عز وجل.وقال ابن عبد البر: مثل هذا عندي -اي: مثل لقاء ادم بموسى- يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقيق؛ لانا لم نؤت من جنس هذا العلم الا قليلا، اي: لانا لم نؤت في بيان المشكلات وحل الغامض من هذا الا شيئا نادرا جدا، اذ ان معظم امور الغيب يجب فيها التسليم ويمتنع السؤال عن الحكمة، وليس هذا في مسائل الغيب فقط، بل من المسائل العملية التي يعملها الناس بالليل والنهار لا يعلمون لها حكمة، ولذلك المني في مذهب جماهير العلماء طاهر ويوجب الغسل، والبول بالاجماع نجس ولا يوجب الغسل، لكن قد يقول قائل: لماذا؟ انا لا استطيع ان اقول لك السبب، لكن الذي استطيع ان اقوله لك: انني امنت بذلك وسلمت لله عز وجل، وانا على يقين ان افعال الله تعالى كلها واوامره ونواهيه مبنية على الحكمة، لكن احيانا يخفي الله هذه الحكمة حتى يبتلينا في الايمان، هل سنعمل بما يرضي الله عز وجل عنا ام لا؟ سنتحرك ام لا؟ ام انه لابد في اي شيء ان نحكم فيه عقولنا؟ ولذلك لما جرى الفلاسفة وتبعهم المعتزلة على مبدا التقبيح والتحسين العقلي ضلوا في الكتاب والسنة؛ لان التحسين والتقبيح مرده الى الشرع، فما حسنه الشرع فهو الحسن، وما قبحه الشرع فهو القبيح، اما المعتزلة فقد ذهبوا الى ان الحسن ما حسنه العقل وان قبحه الشرع، والقبيح ما قبحه العقل وان حسنه الشرع، فاستحقوا ان يكونوا من الفرق الهالكة الضالة؛ لانهم خالفوا الكتاب والسنة واجماع اهل السنة والجماعة.قال: [(ان موسى قال: يا رب! ارني ادم الذي اخرجنا ونفسه من الجنة، فاراه الله عز وجل ادم)]، والحافظ النووي استظهر في كتابه شرح مسلم ان هذا اللقاء كان على الحقيقة؛ لانه ليس ببعيد على الله عز وجل ان يحيي ادم في زمان موسى ويلتقيان ويتحادثان، وهذا الذي يطمئن اليه قلبي؛ لان اجراء النص على ظاهره اذا كان ممكنا بغير تاويل ولا تكلف فلا يصار الى التاويل، لكن كيف هو ممكن وقد مات ادم؟ الامكانية ان الله قادر على ان يرده حيا، واذا كان الله تعالى قد اقدر بعض خلقه كعيسى بن مريم ان يحيي الموتى باذنه، فكيف لا يحيي الله تعالى ادم ويجعله في لقاء مشافهة ومواجهة مع موسى عليه السلام؟ وهل هذا بعيد على الله؟ اذا كان الله تعالى يخلق الخلق من العدم، ثم يميتهم ثم يحييهم مرة اخرى ويحاسبهم، فاما الى الجنة واما الى النار، فهو يقدر ان يخلق ادم مرة اخرى، او ان يعيد خلقه مرة اخرى، وهو الذي بداه من العدم سبحانه وتعالى، والاعادة اهون من المبدا.قال: [(فاراه الله عز وجل ادم، فقال: انت ابونا ادم؟)]، اي: ان موسى عليه السلام يبكت ادم اباه، [(انت ابونا ادم؟ فقال له ادم: نعم، قال: انت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الاسماء كلها، وامر الملائكة فسجدوا لك؟ قال: نعم، قال: فما حملك على ان اخرجتنا ونفسك من الجنة؟)]، اي: ما هو عذرك يا ادم في انك وقعت فيما وقعت فيه، وتسببت في هذه المصيبة التي لحقت البشرية والذرية من بعدك؟ قال: [(فقال له ادم: ومن انت؟ قال: انا موسى، قال: انت نبي بني اسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ قال: نعم، قال: فما وجدت في كتاب الله ان ذلك كائن قبل ان اخلق؟)]، اي: الكتاب الذي انزل عليك يا موسى! اليس فيه ان الله تعالى كتب ذلك علي قبل ان يخلقني؟قال: [(قال موسى: نعم، قال ادم: ففيم تلومني على امر قد سبق من الله فيه القضاء قبل ان اخلق؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: فحج ادم موسى، فحج ادم موسى، فحج ادم موسى)]، اي: غلب ادم موسى بالحجة وانتصر عليه؛ لانه ارجعه الى الامر المكتوب ازلا، وان هذا الامر المكتوب كان في علم الله الازلي الاولي.
شرح حديث ابي هريرة: (احتج ادم وموسى) من عدة طرق
قال: [وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج ادم وموسى، فقال موسى لادم: انت الذي ادخلت ذريتك النار؟ قال ادم لموسى: اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وانزل عليك التوراة، فهل وجدت اني اهبط؟ -اي: هل وجدت هذا في الكتاب؟- قال: نعم، فحجه ادم)]، اي: غلبه بالحجة. [وعن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج ادم وموسى)]، اي: كانت بينهما مناظرة، والمناظرة ايها الاخوة! تجوز حتى بين الابن وابيه؛ لان موسى ابن وادم اب، ومع هذا فموسى هو الذي طلب ادم للحجاج والمناظرة، والمناظرة بين الولد ووالده ليست من سوء الادب؛ لان بعض الناس يظن ان الولد اذا اراد تبيين الحق لابيه قالوا: كيف يتكلم مع ابيه بهذه الطريقة؟ ان ابراهيم عليه السلام ناقش والده، ونوح عليه السلام ناقش ولده.فالمناظرة بين الوالد وولده جائزة اذا كان المراد منها الوصول الى الحق، وانما يعاب على من يناقش والده التعدي في الادب، واختيار الالفاظ غير اللائقة بمقام الابوة، اما المناظرة لاجل الوصول الى الحق ومرضاة الرب فهذا امر محمود في الشرع، والطريقة نفسها التي تكون احيانا مذمومة واحيانا محمودة حسب ادب الولد.وكذلك المناظرة بين العبد والسيد، وبين الزوجة وزوجها، وبالتالي فلا باس ان تذكر المراة زوجها بالله، وان تشير عليه بامر ربما خفي عليه، كما اشارت ام سلمة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وذلك لما خرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (اذبحوا الهدي وحلوا من احرامكم، فلم يفعلوا، فدخل مغموما خيمته، فلما علمت ام سلمة بذلك قالت: يا رسول الله! اخرج فاذبح الهدي واحلق، واذا راوك قد فعلت ذلك فعلوا، فلما خرج وفعل فعلوا رضي الله عنهم)، فهذه من باب المشورة. لكن لا ياتي شخص الان على خط مستقيم ويقول لامراته: ان رايك عندي استشاري، وانت ليس لك قيمة عندي، انت امراة، انت انثى، حتى ولو وافق رايك القران والسنة فكذلك انت امراة! ماذا يعني بهذا الكلام؟ ان الحق يا اخي! يقبل من كل من جاء به وان كان يهوديا، والسلف يقولون: الحكمة ضالة المؤمن اينما وجدها التمسها واخذها، وهذه ليست هي القضية، وانما القضية في هذا الكلام الذي نسمعه احق ام باطل؟ موافق ام مخالف؟ مردود ام مقبول؟ فهذه هي القضية وهي الفيصل، اما ان تقول: ما دام انك نصراني فلن اخذ منك شيئا، فلا؛ لان النبي عليه الصلاة والسلام قال لابي هريرة : (صدقك وهو كذوب)، اي: ان كلامه صدق، فهل يرد الكلام الصدق؟ ولو كان يرد الصدق -وان اتى من ابليس- لما اقر النبي عليه الصلاة والسلام ابليس على ان نصح ابا هريرة ان يقرا اية الكرسي عند نومه، فاذا قراها فلا يزال عليه من الله حافظ حتى يصبح، وانما اقر النبي ابليس في هذا لانه صدق، وليس له مصلحة في ان يكذب في هذا الموطن، فقال: (يا ابا هريرة ! صدقك وهو كذوب، اتدري من يخاطبك منذ ثلاث؟ قلت: الله ورسوله اعلم، قال: ذاك شيطان).فالحق يؤخذ من كل من اتى به، اما ان تقف مع امراتك على خط مستقيم فلا تقبل لها قولا وتنهرها وتسفه احلامها وغير ذلك، فليس هذا دينا، وبعض الناس يتصور ان هذا باب من ابواب الشهامة والرجولة؛ انه دائما يضربها ويرد اقوالها، ويقول لها: وان وافقك الكتاب والسنة. يا اخي! انك جبار عنيد، والحق يؤخذ منها اذا نطقت به.
معنى قول ادم لموسى: (انت الذي اعطاك الله علم كل شيء)
قال: [وعن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج ادم وموسى، فقال موسى: انت الذي اغويت الناس واخرجتهم من الجنة الى الارض؟ -اغويت: من الغواية وهي الضلال- فقال له ادم: انت الذي اعطاك الله علم كل شيء)]، وهل الله سبحانه وتعالى بالفعل اعطى لموسى علم كل شيء؟ لا، اذا: هذا يسمى عند الاصوليين من العام المخصوص، وكلمة (كل) من الفاظ العموم، اي: علم كل شيء قد ورد في الكتاب الذي انزله عليه، بدليل انه ما احاط بشر قط بالعلم كله، واعلم العلماء في الخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، ومع هذا قال الله تعالى: وما اوتيتم من العلم الا قليلا [الاسراء:85].اذا: قوله: (واعطاك الله علم كل شيء)، اي: علم كل شيء قد جاء في التوراة، ومصداق ذلك: ان موسى عليه السلام لما سئل: اتدري احدا اعلم منك؟ قال: لا، فعاتبه الله عز وجل على ذلك لانه تعجل الجواب، فقال: يوجد عبد من عبادي هو اعلم منك، اذهب اليه في مكان كذا، والقصة طويلة وقد شرحناها من قبل، والشاهد منها: ان موسى عليه السلام لما التقى بالخضر قال له الخضر : انت على علم علمكه الله لم يعلمنيه، وانا على علم علمنيه الله لم يعلمك. اذا: موسى عليه السلام لم يحط بالعلم، وانما احاط بالعلم الذي نزل اليه، فهذا يسمى في الاصول من العام المخصوص، اي: وان كان اللفظ عاما، لكن المراد من النص ليس العموم المطلق، وانما العموم الخاص بالكتاب المنزل عليك يا موسى!قال: [(انت الذي اعطاك الله علم كل شيء واصطفاك على الناس -اي: اختارك- برسالته؟ قال موسى: نعم، قال: افتلومني على امر قد كتب علي قبل ان افعله، او قال: قبل ان اخلق؟ قال: فحج ادم موسى)].
اختيار الالفاظ المناسبة من محاسن اللغة العربية
[وعن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التقى ادم وموسى)]، وفي كلمة (التقى) مغزى لغوي مفاده: انه لا يصح استعمال لفظ اخر مكانه يربط بين ادم وموسى، ولذلك انا لا استطيع ان اقول: الشمس خرجت، وانما: الشمس طلعت. وكذلك لما قال عمر رضي الله عنه: (كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ طلع علينا رجل)، فقوله: (اذ طلع)، هذا اللفظ لا يصلح ان يكون لحقيقة الادميين، وانما الذي يصلح للادمي: خرج او دخل علينا رجل، اما (طلع) فلا هو قمر ولا هو شمس، ولذلك قال: (هو جبريل اتاكم يعلمكم دينكم)، فربطنا قوله: (هو جبريل) بالقول الاول (طلع)، فعمر ما قال: طلع علينا رجل الا لما علم انه جبريل، فاختار لفظا يتناسب مع جبريل ولا يتناسب مع حقيقة الادمي، فقال: طلع، ولم يقل: خرج او دخل، فكذلك قوله هنا: (التقى ادم وموسى).
معنى قول موسى لادم: (انت الذي اشقيت الناس واخرجتهم من الجنة)
قال: [(التقى ادم وموسى، فقال موسى لادم: انت الذي اشقيت الناس -من الشقاء والتعاسة، وهو ضد السعادة- واخرجتهم من الجنة؟ قال: فقال ادم لموسى)] وفي الحقيقة يذكر الامر باعتبار ما سيكون؛ لان الذي خرج من الجنة هو ادم وحواء دون الذرية، اذ ان الذرية ما كانت الا على الارض، اي: لم يكن لادم نسل في الجنة، وانما لما نفخ الله فيه الروح وامره بهذه الاوامر وقعت المخالفة بعدها فورا من شدة اغواء الشيطان وابليس له، فكان الخروج فورا من الجنة الى الارض، فلم يحصل لادم تناسل في الجنة، وانما اول التناسل حصل بعد ان نزل الى الارض، فقوله هنا: (انت الذي اشقيت الناس واخرجتهم من الجنة)، هو في الحقيقة يريد ان يقول: انت الذي خرجت من الجنة، وبالتالي كانت ذريتك حاصلة على الارض وليس في الجنة، بدليل ان الاجماع منعقد على ان ادم لم ينجب في الجنة، وانما انجب في الارض، فقوله: انت الذي اخرجت الناس من الجنة، هو في الحقيقة ما اخرجهم، وانما اخرج نفسه، وهو اس النسل عليه السلام.قال: [(فقال ادم لموسى: انت موسى الذي اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وانزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فهل وجدته كتب علي قبل ان يخلقني؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج ادم موسى، فحج ادم موسى، فحج ادم موسى)]، اي: غلبه بالحجة.[وعن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج ادم وموسى عليهما السلام، فقال ادم لموسى: انت يا موسى! الذي بعثك الله برسالته، واصطفاك على خلقه، ثم صنعت الذي صنعت؟)]، في كل مرة موسى هو الذي يقول لادم، وهذه المرة بدا ادم، قال: (انت يا موسى! الذي بعثك الله برسالته، واصطفاك على خلقه، ثم صنعت الذي صنعت؟)، وانتم تعلمون ان موسى عليه السلام قتل نفسا، وكان ربما وقع في النفس الثانية، لولا انه استرجع ما كان منه بالامس: اتريد ان تقتلني كما قتلت نفسا بالامس [القصص:19]، اي فما الخبر يا موسى؟ او كلما تلقى شخصا تريد قتله ام كلما يصرخ عليك شخص من قومك تقوم مباشرة بقتله؟قال: [(فقال موسى: انت ادم ابو الناس الذي خلقك الله بيده، واسجد لك ملائكته، واسكنك جنته، فلولا ما صنعت دخلت ذريتك الجنة؟ قال ادم لموسى: اتلومني على امر قد قدر علي قبل ان اخلق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج ادم موسى).ومن طريق ابي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقي ادم موسى عليهما السلام، فقال موسى: انت ادم الذي خلقك الله بيده، واسكنك جنته، واسجد لك ملائكته، ثم فعلت ما فعلت، فاخرجت ذريتك من الجنة؟ قال ادم: يا موسى! انت الذي اصطفاك الله برسالته، وكلمك وقربك نجيا؟ قال: نعم، قال: فانا اقدم ام الذكر؟)]، انظروا الى الحجة، يقول له: ايهما خلق اولا انا ام اللوح المحفوظ؟ [قال: بل الذكر] الذي هو اللوح المحفوظ.[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج ادم موسى، فحج ادم موسى)]، وكان ادم اراد ان يقول لموسى: انا اقدم ام الذكر؟ قال موسى: الذكر، والذكر مكتوب فيه كل شيء الى قيام الساعة، وبالتالي مكتوب فيه ان ادم سياكل من الشجرة.
اثر ابن عباس: (قد اخرج الله ادم من الجنة …)
قال: [وعن ابن عباس قال: (قد اخرج الله ادم من الجنة قبل ان يسكنه اياها)]، اي: قد قضى عليه بالهبوط منها قبل ان يدخلها، لا انه ما دخل الجنة ابتداء، فهو قد دخلها، ولكن الله تعالى علم انه سيخالف الامر ويرتكب النهي فيهبط بسبب ذلك الى الارض، ثم يتوب فيتوب الله عز وجل عليه.قال: [(ثم قرا: اني جاعل في الارض خليفة [البقرة:30])]، وكلمة (خليفة) تعني: انه يخلف قوم قوما، لا ان الله تعالى يخلف عنه احدا من خلقه؛ لان بعض اهل العلم فهموا ذلك، فقالوا: (اني جاعل في الارض خليفة) اي: خليفة عن الله عز وجل، قالوا: ومفاد ذلك ان الله تعالى هو العدل، وهو الحكم الذي يحكم بين عباده بالعدل، لكن الله لا يحكم بينه وبين عباده مباشرة، وانما بواسطة رسله، فادم اول نبي بعثه الله عز وجل، واول رسول ارسله الله هو نوح عليه السلام، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا كما تعلمون.فقالوا: فناسب ان يكون لله تعالى خليفة في الارض ليحكم بين الذرية بالعدل نيابة عن الله عز وجل، وهذا الكلام بعيد، والصحيح ان معنى (خليفة) اي: يخلف بعضهم بعضا، ويكون بعد كل قرن قرن، لا انه اراد ادم على جهة الخصوص.
اثر عبيد بن عمير: (قال ادم: يا رب! ارايت ما اتيت …)
[وعن عبيد بن عمير قال: (قال ادم: يا رب! ارايت ما اتيت، اشيء ابتدعته من تلقاء نفسي ام شيء قدرته علي قبل ان تخلقني؟ قال: لا، بل شيء قدرته عليك قبل ان اخلقك، قال: اي رب! فكما قدرته علي فاغفره لي، قال: فذلك قوله: فتلقى ادم من ربه كلمات فتاب عليه [البقرة:37]]، اي: هذه هي الكلمات التي كانت بين ادم وبين الله عز وجل.
اثر خالد بن مهران: (قلت للحسن: يا ابا سعيد! ادم خلق للارض ام للسماء …)
[وقال خالد بن مهران الحذاء : قلت للحسن -اي: الحسن البصري ابو سعيد -: يا ابا سعيد ! ادم خلق للارض ام للسماء؟ -اي: هل الاصل في خلق الله لادم انه للارض ام للسماء؟- فقال: ما هذا يا ابا المبارك]! اي: ما هذه الاسئلة الغريبة التي تسالها، الاصل ان هذه المسائل مستقرة عندك.[قال: فقال: خلق للارض] اي: خلق للارض ولم يخلق للجنة، وان دخلها وخرج منها، فهذا المخلوق الوحيد الذي دخل الجنة وخرج منها، ولا يدخل بعده احد قط الجنة بعد البعث ويخرج منها، بل من دخلها فانه يخلد فيها ابدا، وهذا خلافا للنار، فانه من دخلها من الكفار والمنافقين خلد فيها ابدا، اما من دخلها من عصاة الموحدين فيخرج منها بشفاعة الشافعين او بشفاعة ارحم الراحمين سبحانه وتعالى، اذا النار تختلف عن الجنة، وبين الجنة والنار فروق كثيرة جدا.منها: ان للجنة ثمانية ابواب، والنار لها سبعة ابواب، ولا تظن ان الباب شيء سهل، فباب الجنة بين مصراعيه كما بين المشرق والمغرب، والقائمون على عتبتي الباب احدهم في المشرق والاخر في المغرب، ومع هذا يتزاحم فيه الناس حتى يكادوا يختنقون، اللهم اجعلنا منهم، ولكن لا نخنق، فيكفي الزحام الذي نحن فيه.وقوله: قلت للحسن: يا ابا سعيد ! ادم خلق للارض ام للسماء؟ هذا اشارة الى ان الجنة التي كان فيها ادم كانت في السماء لا في الارض.قال: [فقال: ما هذا يا ابا المبارك! قال: فقال: خلق للارض، قال: فقلت: ارايت لو استعصم فلم ياكل من الشجرة؟] اي: الست تقول لي: انه خلق للارض، اذا فما رايك لو ان ادم لم ياكل من الشجرة، ايكون للارض ام للسماء؟وهذا فرض جدلي، والمطلوب طرحه ورده وعدم الجواب عليه.[قال: فقلت: ارايت لو استعصم -اي: استعصم بالله واستعاذ به- فلم ياكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له بد من ان ياكل منها؛ لانه للارض خلق]. انظر الى جواب الحسن البصري، يقول له: انس هذا الامر.وتذكرون قبل حوالي سبع او ثمان سنوات عندما قالوا في مجلة العلمانيين المجرمة: ان ابليس ذهب الى الشيخ علي جاد الحق في مشيخة الازهر، وقال له: يا مولانا! انا اريد ان اتوب، واريد ان اسلم لله، ولا ادري ماذا اعمل؟! اي: ان ابليس ذهب الى الازهر من اجل ان يشهر اسلامه! لان هذا شرط، والان الازهر عمل شرطا جديدا للنصراني الذي يريد ان يسلم، وهو انه لابد ان يحفظ خمسة اجزاء من القران من اجل ان يعطيه الشهادة، يعني: انتم تكفروه حتى يحفظ خمسة اجزاء؟ فيظل على كفره حتى يحفظ القران؟ فانت اذا قلت اليوم: لابد من خمسة اجزاء، فيمكن ان ياتي غيرك ويقول: عشرة اجزاء، ولو ان نصرانيا طلع من هذا الباب، او من عند هذا المنبر فيجب علينا ان يدخل في الاسلام اولا، ثم يذهب فيغتسل، والمسافة قريبة، ويحرم علينا ان نقول له: اغتسل اولا ثم تعال وانطق بالشهادتين؛ لانه لو مات في الطريق فمن الذي يتحمل اثمه؟ ايضا افرض يا اخي! ان ذاكرته ضعيفة، يحفظ كل سنة جزءا، فهل يظل خمس سنوات كافرا؟ هذا شيء عجيب جدا.فالمجرمة روز اليوسف قالت: ان ابليس ذهب الى سيدنا جاد الحق وقال له: يا مولانا! انا اريد ان اشهر اسلامي واتوب الى الله، فقال له سيدنا جاد الحق : اذهب حتى نرى حلا لمشكلتك! انظروا الى هذا الكلام الفارغ، انه استهزاء بالدين.والجواب على هذه الشبهة: انه مستحيل ان يطلب ابليس هذا الطلب، ولو من باب احراج القران والسنة؛ فمستحيل ان يخطر ببال ابليس هذا، او ان يخطر بباله الدخول في الاسلام؛ لان الله قد قضى عليه في الازل الكفر حتى نهاية العالم، فاذا كان الله تعالى قال في حياة ابي لهب : تبت يدا ابي لهب وتب * ما اغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامراته [المسد:1-4]، اي: ام جميل بنت حرب كذلك في نفس المصير، فلو كان ابو لهب يريد ان يحرج النبي، او ان يظهر ان هذا القران كذب، وان الامر لا يجري على مراد الله وعلمه السابق الازلي فقال: مادام ان القران يقول ذلك، اذا فانا اسلمت، لكن حتى ما قالها نفاقا، فكيف يقولها ابليس؟!اذا: هذا الذي يحدث على صفحات هذه المجلة الشيطانية ما هو الا استهزاء بالاسلام، ولذلك نحن لا نتوقف مطلقا في تكفير قائل هذه المقالات، والمستهزئ بالدين في احكام اهل العلم كافر بالاجماع.[قال: فقلت له: اكان له ان يستعصم؟ قال: لا] اي: هل كان ممكن ان يقع منه الاعتصام بالله ام لا؟ قال: مستحيل ان يقع منه ولا يخطر على باله؛ لان الله كتب ذلك في علمه الازلي السابق في اللوح المحفوظ فلا يمكن.
تعليق ابن بطة على احاديث واثار احتجاج ادم وموسى وتعلقها بالقدر
[قال الشيخ ابن بطة] يشرح هذه الاحاديث الطويلة بكلمتين في منتهى الاختصار، وهذا هو وضع السلف انهم كانوا قليلي الكلام كثيري العمل، اما نحن فعلى العكس تماما، كلام كثير جدا والعمل صفر. [قال الشيخ: فقد علم الله عز وجل المعصية من ادم قبل ان يخلقه]، وانتبه الى قوله: قد علم، فهذا فيه اثبات مرتبة العلم. ونحن قد قلنا: ان مراتب القدر اربع: مرتبة العلم، ومرتبة الكتابة، ومرتبة الارادة والمشيئة، ومرتبة الخلق.فانتبه الى هذه المراتب، ان لم تحفظها وتلم بها وباحكامها وبادلتها ستضيع في باب القدر.ومرتبة العلم، اي: اثبات العلم الازلي لله عز وجل، وانه علم كل شيء كان ويكون الى قيام الساعة، فعلم ذلك من خلقه فكتبه في اللوح المحفوظ، فهو عنده تحت العرش، وفي الحديث: (اول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: وما اكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان ويكون الى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن الى قيام الساعة) وهذا قلم القدرة، فهذه هي المرتبة الثانية من مراتب القدر، وهي مرتبة الكتابة، التي كتبت على مقتضى علم الله عز وجل. اذا: المرتبة الاولى: العلم الازلي، ولا نقول كما قالت القدرية: ان الله لا يعلم الاشياء الا بعد وقوعها وبعد حدوثها، بل علمها في الازل، فلما علمها الله عز وجل كتبها، ولا اقصد بقولي: (فلما) انه لم يكن يعلم فعلم، انما قصد الكلام الدارج.ثم ان الله عز وجل جعل للعبد مشيئة وارادة، والله سبحانه مشيئة وارادة، وما تشاءون الا ان يشاء الله، فجعل للعبد مشيئة ولله مشيئة: تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة [الانفال:67]، فاثبت للعبد ارادة ولله تعالى ارادة، لكن العبد لا يريد الا ما اراده الله، ولا يشاء الا ما يشاؤه الله، بمعنى: انه لا يقع من العبد عمل او قول او فعل او حركة او سكون الا ان ياذن في خلقها وايجادها الله عز وجل، وهذه هي المرتبة الرابعة التي تسمى: مرتبة الخلق والايجاد، فلا يكون في ملك الله الا ما اراد وقدر وشاء، لكن الاعمال التي تتم في الكون منها ما هو خير وطاعة موافق للشرع وموافق لمحبة الله ورضاه وامره، ومنها ما وقع وهو شر ومعصية، والله تعالى هو الذي اذن فيه وفي وقوعه؛ لانه لا يكون في الكون الا ما اراد، فاما ان تكون ارادة شرعية مبناها على المحبة والرضا، فانا الان اصلي، فهل يمكن ان اصلي على غير مشيئة الله وارادته؟ اي: هل للعبد ان يقول: انا اصلي اربع ركعات شاء الله ام ابى؟ هل يقع منه ذلك؟ لا يقع منه ذلك، ولو اراد الله تعالى ان يميته في مكانه وقبل ان يتم كلامه لفعل سبحانه وتعالى.فلا يضمن العبد ان يدخل في عمل او ان يتكلم بقول او ان يضمن حياته، ولا ان يضمن ايتم ذلك منه ام يخرص ويصم قبل ان يتم؟ ولذلك الارادة الشرعية هي الموافقة للشرع، سواء كانت من الله عز وجل في اوامره التي امر الله بها العباد، او من العبد الذي تقرب الى الله بفعل هذه الطاعات.فنقول: هذا العبد يصلي، فهو قد اراد ما اراده الله شرعا وقدرا، والقدر هو القدر الكوني او القدر الشرعي، فالله تعالى اراد ان يقع منه في الكون ما اراد شرعا، وهو تحقيق الصلاة.ونقول: ان الارادة الكونية القدرية دون الشرعية تكون من العبد ارادة واكتسابا، وتكون من الرب تبارك وتعالى ايجادا وخلقا، فالله تعالى هو الذي اذن في وقوع الكفر في الكون، ولو اراد الله تعالى ازلا الا يقع في الكون كفر لما وقع، وما استطاع احد ان يكفر، حتى وان اراد الناس الكفر لا يكفرون الا بارادة الله؛ لانه لا يكون في ملك الله الا ما اراد، لكن بعض الناس يخلط بين الارادة الشرعية التي مبناها على المحبة والرضا الموافقة للشرع، وبين الارادة الكونية القدرية، فالله تعالى اذن في هذا واذن في ذاك، اذن في الشرعية لانه احبها ورضيها وامر بها، واذن في القدرية ومنها الموافق للشرع ومنها المخالف؛ والمخالف اذن فيه الله تعالى ابتلاء للعبد، حتى اذا تاب تاب الله عز وجل عليه، واذا لم يتب فهو في مشيئة الله ان كان موحدا، ان شاء عفا عنه وان شاء عذبه، واذا كان كافرا اختار الكفر اختيارا بارادته، وهذا هو الذي يجاب به عن سؤال: هل الانسان مسير ام مخير؟ فانت تختار الطريق بارادتك، ومن قبل قلنا: لو ان انسانا امامه هدف، والموصل الى الهدف طريقان: احدهما: معبد، والاخر غير معبد، وقلنا له: اسلك احد الطريقين فورا، فانه سيسلك الطريق المعبد الممهد بعيدا عن الشوك والحجارة والطوب وغير ذلك، والذي سيوصله الى الهدف بسرعة، وهذا هو اختيار العقل، اذا فلم تختار طريق المعصية في حياتك وانت تعلم انها معصية، وانها تؤدي الى النار؟ ثم تقول: الله تعالى هو الذي قدر علي ذلك؟ لم لم تسلك هذا الطريق الممتلئ بالشوك وتقول: هو الذي قدر علي ذلك؟ اذا انت مختار مريد للمعصية، ووقعت منك باذن من الله تعالى؛ لانه لا يكون في ملك الله من خير او شر الا بارادته واذنه وخلقه وايجاده، فالمعصية في باب الخلق والايجاد لله عز وجل، وفي باب الكسب والعمل من العبد. هذه مراجعة سريعة على مراتب القدر.
معنى قول المؤلف: (فقد علم الله المعصية من ادم قبل ان يخلقه …)
قال: [فقد علم الله عز وجل المعصية من ادم قبل ان يخلقه، ونهاه عن اكل الشجرة، وقد علم انه سياكلها]، اي: ان الله عز وجل علم علما ازليا قبل ان يخلق ادم ان ادم سياكل من الشجرة، وبعد علم الله عز وجل خلق ادم، وبعد خلقه نهاه ان ياكل من الشجرة، والله تعالى يعلم ازلا انه سياكل منها بغواية الشيطان له. قال: [وخلق ابليس لمعصيته -اي: ان الله خلق ابليس من اجل ان يعصيه- ولمخالفته فيما امره به من السجود لادم]، ومعنى ذلك: ان الله تعالى خلق ابليس وهو يعلم انه اذا امره بالسجود لادم فانه لن يسجد، كما علم ان ادم لن يمتثل الامر بل سيقع في النهي، قال: [وقد علم انه لا يسجد، فكان ما علم ولم يكن ما امر]، اي: فكان من الله ما علم ولم يكن منه ما امر، فهو امر بالسجود لادم ونهى عن الاكل من الشجرة، فخالف ابليس الامر، وخالف ادم النهي، والله تعالى يعلم هذه المخالفة، ومع هذا امر، فالذي كان من الله عز وجل الامر والنهي، والذي وقع على ادم هو النهي، والذي وقع على ابليس هو الامر، فخالف ابليس في الامر وارتكب ادم النهي.وهذا النهي الذي وقع فيه ادم والامر الذي خالفه ابليس كان في علم الله تعالى الازلي انهما لا يمتثلان.قال: [فكان ما علم ولم يكن ما امر، وكذلك خلق فرعون وهو يعلم انه يدعي الربوبية ويفسد في البلاد ويهلك العباد، وارسل اليه موسى يامره بالتوحيد لله والاقرار له بالعبودية، وهو يعلم انه لا يقبل]. وهذا في ميزان البشر، فاذا كان هو يعلم انه لن يقبل فلماذا يبعثه؟ من اجل ان يقيم عليه الحجة، فلا تظن ان الله عز وجل يظلم عباده ابدا: ان الله لا يظلم الناس شيئا [يونس:44]، وقال: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الاسراء:15]، فالله تعالى ارسل اليك الرسول، وانزل معه الكتاب، ومنحك العقل الذي هو مناط التكليف، فماذا تريد بعد ذلك؟ الان -ولله المثل الاعلى- عندما يقول لك ابوك: انا ااكلك واشربك واصرف عليك واعطيك دروسا خصوصية، لكن لابد ان تكون النتيجة اخر السنة مرضية، فانت على مدار السنة تكون مرعوبا ان لم تات بالنتيجة المرضية، وتعمل جاهدا على ان تحقق اعلى نسبة نجاح ترضي الوالد، والله تعالى احق بالرضى، فهو الذي ربى جميع الخلائق وقام على شئونهم، وهو الذي خلقهم وسواهم وعدلهم، افلا يستحق بان يرضى؟! وغير ذلك فوق الطعام والشراب والمسكن والماوى مما لا يملكه الا الله، فقد ارسل اليك الرسل من اجل ان يبين لك طريق الهداية من الغواية، وانزل معهم الكتب التي فيها هدى ونور او كلها هدى ونور، ومنحك العقل لتميز بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الجنة والنار، بين الطاعة والمعصية؛ وتعلم ذلك يقينا من نفسك.
العمل سبب لدخول الجنة
اذا: لو خالفت الامر او ارتكبت النهي تستحق دخول النار، والاكثر من ذلك ايها الاخوة! اننا مهما عبدنا الله لا نستحق الجنة، اذ ان دخول الجنة بفضل الله تعالى ورحمته، الا انه سبحانه جعل العمل سببا لدخول الجنة، اما ان العمل يكافئ الجنة ويوازيها ويساويها فلا والله، ولذلك اخرج الحاكم في المستدرك من حديث انس : (ان رجلا عبد الله ستمائة عام)، تصور شخصا قائما صائما لله تعالى ستمائة سنة، قال: (فقال الله تعالى لملائكته: ادخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: يا رب! بعملي، قال: زنوا عمل عبدي ونعمي عليه)، انظروا الى الاختبار والابتلاء، اي: ضعوا عمله في كفة، وضعوا نعمي عليه في كفة اخرى، واعلم ان هذا الكلام ليس له علاقة بالجنة والنار، فالان نحن سنضع النعم في كفة والعمل في كفة، فاذا غلبت النعم فعملك ليس بنافع، واذا غلب العمل -ومحال ان يغلب العمل- فلا اقل من اننا نقول لك: شكرا لك، لكن انعمنا عليك وانت عملت، ليس لك لا جنة ولا نار، فيكون مثلك مثل الاعراف، اليس كذلك؟ لانه لن يكون الا ذلك.قال: (فوضعت الملائكة نعمة واحدة؛ نعمة البصر في كفة، ووضعوا عمل ستمائة سنة في كفة، فطاش العمل -اي: ثقلت به كفة النعمة الواحدة- فقال الله تعالى: ادخلوا عبدي النار)؛ لان عمله لم ينقذه، وهذه نعمة واحدة: وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ابراهيم:34]، فكيف اذا كانت نعما كثيرة؟!قال: (فقال الله: ادخلوا عبدي النار، قال: يا رب! ادخلني الجنة برحمتك)، لماذا لم يكن هذا الكلام اولا؟
المؤمن بين الخوف والرجاء
اذا: فلا يغتر احدنا بطاعته، ولا يقنط احد من معصيته؛ لانكم تعلمون ان جناحي المؤمن في السير الى الله: الخوف والرجاء، الخوف الذي يزيده عملا، والرجاء الذي لا يقنطه من رحمة الله، فهل هناك طائر يمكن ان يطير بجناح واحد؟ لا، بل لو انكسر احد جناحيه لسقط، وكذلك المؤمن لو فقد الخوف من الله ارتكب المعاصي، ولو فقد الرجاء في الله قنط من رحمة الله وايس، ولا يقنط من رحمة الله الا القوم الكافرون، ولذلك العلماء يقولون: من عبد الله بالخوف فقط كفر، ومن عبده بالرجاء فقط كفر، اذ انه لا يمكن ان يستقيم العبد الا اذا مشى الاثنان سويا، فلا يغلب الخوف على الرجاء، ولا الرجاء على الخوف، ولذا قالوا: اذا كان المرء في شبابه فلا باس ان يزيد عنده الخوف الذي يؤدي الى مزيد العمل، وعند الموت او كبر السن فلا باس ان يغلب الرجاء عليه حتى يلقى الله تعالى وهو حسن الظن به، اما ان يغتر الانسان بعمله فهذه مصيبة عظيمة، ولذا من الكبائر ان ترى لنفسك عملا مع نعم الله عز وجل، فمهما عبدت الله عز وجل فليست بشيء ولا تؤهلك لاي شيء، فاياك ان تغتر وتقول: انا رجل سني وملتحي والبس جلبية بيضاء قصيرة .. الى غير ذلك من التزكية للنفس، فاياك ان تغتر بهذا والله لا ينفعك، ولذلك العلماء يقولون: رب طاعة ادخلت صاحبها النار، ورب معصية ادخلت صاحبها الجنة؛ فالاول لانه اغتر وتعالى وافتخر بها على الناس، كان يقول: انا اصلي الخمس، واصوم رمضان، واحج كل سنة واعتمر كذا وكذا، ويظل يفاخر بانه يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويتصدق، وانه حل قضايا فلان ومشاكل فلان وغير ذلك، مع ان الذي وفقه لهذا العمل هو الله تعالى، ولو ان الله تعالى تخلى عنه لحظة ما فعل شيئا من ذلك.اذا: مرد العمل كله لله عز وجل، ولو انه سبحانه اوكلك الى نفسك طرفة عين لهلكت، فانت في كنف الله ورعايته فلا تغتر، ولا تنسب شيئا من ذلك لنفسك، فاذا فعلت طاعة فاحمد الله عليها، ولا تحمد نفسك، واذا فعلت معصية فاستغفر الله منها، ورب معصية اورثت صاحبها ذلا وانكسارا وتوبة، فكان بسببها ان دخل الجنة. شخص التقى باناس كثيرين وقال: انا ابو المعاصي، والله تعالى يسترني ويستركم جميعا، لكن احيانا ياتي انسان ويقول: يا شيخ! انا قتلت وزنيت وشربت الخمر واكلت الخنزير، وهو يتقطع ويتمزق الما، ثم منهم من يهيم على وجهه بسبب هذه المعصية، وينقطع للعبادة، ولا يرى انه يعبد الله تعالى ويكافئه باي شيء من نعمه، فهذا بلا شك معصية اورثت صاحبها خيرا.
نزول المصائب والبلايا بالعبد منحة لا محنة
ولذلك ايها الاخوة! كثير من البلايا تنزل بالعبد فيراها محنة، وهي في حقيقتها منحة من الله عز وجل، فتكون في هذه البلايا افاقة ورجوع وانابة الى الله عز وجل.والمصائب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الخير في يديك، والشر ليس اليك)، اي: ان الشر المحض الذي لا مصلحة فيه ليس من افعال الله عز وجل، وانما الشر الذي يراه الناس شرا وهو فيه خير، فهذا من افعال الله عز وجل، اي: من افعال الله التي اذن في خلقها وايجادها، فلو ان انسانا قتل اخر، فهذا القتل يراه جميع الناس شرا محضا، لكن لو ان القاتل اقيم عليه الحد على الهواء مباشرة، وراه العالم، وقيل: فلان هذا قتل فلانا، واولياء القتيل يطالبون بالقصاص، وهذا هو القصاص، ويضرب عنقه ويقتل كما قتل، لفكر كل سفاح او مصاص للدماء او قاتل مليون مرة في العالم كله قبل ان يقتل انه ممكن في يوم من الايام ان يعرض هذا المعرض ويشهده الناس في هذا المشهد، وبالتالي تقل الجريمة او تنعدم.ولذا لو اردنا ان نعد الحدود التي وقعت في زمن النبوة فلن نستطيع ان نعدها على اصابع اليد الواحدة، فكم امراة اقيم عليها الحد؟ او كم شخص اقيم عليه الحد بالزنا؟ قلة قليلة جدا، اثنان او ثلاثة؛ المراة الغامدية ، وماعز الاسلمي، والمراة التي وقع عليها العسيف الاجير، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عبد الله بن انيس ! اذهب الى امراة هذا، فان اعترفت فارجمها)، فهؤلاء ثلاثة قتلوا او رجموا في الزنا، وهذا الاجير العسيف اقيم عليه حد الجلد؛ لانه لم يكن محصنا، وقد وردت السنة بهذا.اما القتل فقلة قليلة جدا، بل اقل من ذلك، وكذلك شرب الخمر قلة قليلة، مع ان الصحابة رضي الله عنهم ما اتى اليهم النبي الا وهم يرزحون تحت نير الخمر، لكن لما نزلت ايات التحريم الصريحة سالت اودية المدينة بقدور الخمر، لكن قد يقول قائل: انا اشرب سجائر ولا استطيع تركها، اشربها وعمري سبع سنوات، وانا الان في ثلاث وخمسين سنة، وماذا يعني ذلك؟ الا توجد عزيمة وارادة؟! الا تخاف من الله يا اخي؟! ثم ايها اعظم: الخمر ام السجائر؟ ان الصحابة رضي الله عنهم كان شرابهم الخمر، لكن عند ان نزل التحريم استجابوا لله تبارك وتعالى، وانتهى الكل عن شرب الخمر، مع ان كل واحد منهم كان عنده قدور من الخمر، ومع ذلك اخذها وصبها في سكك المدينة، حتى اصحبت الشوارع كلها مبتلة هنا وهناك؛ لانهم يعلمون قدر الله عز وجل، وعظم الامر الموجه اليهم من السماء، ويعلمون من الاله الحق الذي يعبدونه؟ انه صاحب الامر والنهي، ولو امر الله تعالى الصحابة ان يخرجوا من ابائهم وامهاتهم وازواجهم واولادهم والله لخرجوا وما توقفوا، بل وقد خرجوا، فهناك حالات خروج، وانتم تعلمون ان عبد الله بن عبد الله بن ابي بن اسلول خرج من ابيه، وهو الذي طلب من النبي عليه الصلاة والسلام ان يقتل اباه المنافق الذي قال: لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل [المنافقون:8]، فوقف عبد الله لابيه على مشارف المدينة، وقال: اانت الذي قلت: لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل؟ ثم قال له: والله انك الذليل ورسول الله هو العزيز، ولد يكلم اباه بهذا الخطاب؛ لانه قد خرج منه وباعه لله عز وجل: (لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من والده وولده والناس اجمعين)، هذا هو الايمان الحق.[قال الشيخ: فقد علم الله عز وجل المعصية من ادم قبل ان يخلقه، ونهاه عن اكل الشجرة، وقد علم انه سياكلها، وخلق ابليس لمعصيته ولمخالفته فيما امره به من السجود لادم وامره بالسجود، وقد علم انه لا يسجد، فكان ما علم ولم يكن ما امر، وكذلك خلق فرعون وهو يعلم انه يدعي الربوبية ويفسد في البلاد ويهلك العباد، وارسل اليه موسى يامره بالتوحيد لله والاقرار له بالعبودية، وهو يعلم انه لا يقبل، فحال علمه فيه دون امره]. اي: فنفذ في فرعون علم الله ولم ينفذ فيه امره.قال: [وعن مجاهد في قول الله تعالى: اني اعلم ما لا تعلمون [البقرة:30] قال: علم من ابليس المعصية، وخلقه لها، وعلم من ادم الطاعة وخلقه لها]، اي: الطاعة بعد التوبة.
كلام الامام النووي في المراد بالتقدير في قوله عليه السلام: (اتلومني على امر قدره الله علي)
لما ذكر الامام النووي عليه رحمة الله هذه الاحاديث التي ذكرناها قال: المراد بالتقدير في قوله عليه الصلاة والسلام: (اتلومني على امر قدره الله علي)، لا يفهم منه انه مجبور على ذلك، اذ ان الجبرية من الفرق الضالة الهالكة.وانما معنى التقدير في قوله: (اتلومني على امر قدره الله علي) اي: كتبه الله علي، اذا: التقدير هنا بمعنى: الكتابة، بدليل انه قال: اانا اقدم ام الذكر؟ قال: الذكر، اذا انت قرات في الذكر انني سافعل هذا قبل ان اخلق باربعين عاما.قال: وفي صحف التوراة والواحها، اي: كتبه علي قبل خلقي باربعين سنة، وقد صرح بهذا في الرواية التي بعد هذه، فقال: (بكم وجدت الله كتب التوراة قبل ان اخلق؟ قال موسى: باربعين سنة)، اي: انه في التوراة التي نزلت على موسى ان ادم عليه السلام سيرتكب ما ارتكب قبل ذلك باربعين سنة.قال: (قال: اتلومني على ان عملت عملا كتبه الله علي ان اعمله قبل ان يخلقني باربعين سنة؟)، فهذه الرواية مصرحة ببيان المراد بالتقدير، وانه الكتابة.والكتابة مرتبة من مراتب القدر، وهي متعلقة بالمرتبة الاولى من جهة علم الله، اي: ان الله تعالى علم ازلا ما يكون من العباد من خير وشر وصالح وطالح، فلما كان ذلك كتبه في اللوح المحفوظ.ولا يجوز ان يراد به حقيقة القدر، فان علم الله تعالى وما قدره على عباده واراد من خلقه ازلي لا اول له؛ لانه لا يصح ان نقول: ان علم الله تعالى متعلق بخلقه قبل ان يخلقهم باربعين سنة؛ لان هذا القول يستلزم ان الله كان جاهلا فعلم، وهذا كفر.ولم يزل سبحانه مريدا لما اراده من خلقه من طاعة ومعصية وخير وشر.قال: (فحج ادم موسى)، اي: غلبه بالحجة وظهر عليه بها، ومعنى كلام ادم: انك يا موسى! تعلم ان هذا قد كتب وقدر علي قبل ان اخلق، فلابد من وقوعه، ولو حرصت انا والخلائق اجمعون على رد مثقال ذرة منه لم نقدر، فلم تلومني على ذلك؟ ولان اللوم على الذنب شرعي لا عقلي، واذا تاب الله تعالى على ادم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجا بالشرع لا بالعقل.فان قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي، لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، كان تجد شخصا يشرب الخمر فتقول له: يا فلان! لماذا تعمل ذلك؟ فيقول: هذا مقدر علي! فيحتج بالقدر على المعصية، والمتفق عليه بين اهل السنة والجماعة ان القدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، كان يمرض شخص فيقول له اخر: لماذا يا اخي! مرضت؟ فيقول له: هذا قدر، واحتج له بالقدر؛ لان هذا المرض لا يملكه وليس سببا فيه.
- ماذا كان يفعل الرب قبل الخلق
- هل عبد ابليس الله قبل أن يعصيه
- ماذا كان الامام علي قبل ان يخلقه الله في الدنيا
- ماذا كان يفعل الرسول عندما يمل
- ماذا كان يفعل الله قبل خلق
- ماذا يحدث لو لم يخلقنا الله
- هل اين الامه رضي الله عنه قتل والده لانه كان مشركا