يقول ابو الطيب : المتنبي
يدفن بعضنا بعضا ويمشي
اواخرنا على هام الاولي.
ويقول ابو العلاء المعري:
خفف الوطء ما اظن اديم الارض الا من هذه الاجساد
ويقول عمر الخيام (ترجمة احمد رامي):
خفف الوطء ان هذا الثرى
من اعين ساحرة الاحورار
اذن: فكل من الشعراء الثلاثة خاض تجربة الموت، والدفن، وراى القبور، وتصور حال
من حلوها.
فابو الطيب شاعر حاد النظرات قاسي القلب عاش حياته وغبار المعارك كساؤه وصليل السيوف حداؤه، والحياة عنده للقوي، ولا حظ فيها للضعيف، ومنظر الموت والدفن مالوف لديه. فاذا تفحصنا تجربته الشعرية نجدها تجربة شاعر فارس يخوض المعارك فاما قاتل او مقتول، فاذا انجلى غبار المعركة وكان من الناجين لم يابه لما وراء ذلك، وهذا واضح في بيته الذي اوردناه انفا.
انظر اليه كيف وظف الكلمات لتجسد تجربته الشعرية، يقول: “يدفن” ولم يقل “يدفن”؛ فهذه الشدة على الفاء تكشف لنا عن قلب قاس وعين جامدة، ويقول “بعضنا بعضا”؛ نعم هكذا ابناء لاباء، واباء لابناء، واعداء لاعداء، من بعض لبعض، ويقول: “تمشي”؛ اي تستمر مسيرة الحياة ولا تتوقف، وما طبيعة هذا المشي انه مشى سريع شديد الوطء مشي على الهام (الرؤوس) فاخرنا يدوس على اولنا قد شغلته الحياة عن النظر الى من سبقوه واصبحوا ترابا.
وتستطيع ان تقول ان المتنبي كان واقعيا ولكنه كان قاسي القلب لا مكان للعاطفة الانسانية في قلبه، ولا يعني هذا ان المتنبي لم يكن يالم كما يالم الناس، ولكن تجارب الحرب جعلت منه انموذجا للشاعر الفارس الفيلسوف.
واذا انتقلنا الى ابي العلاء المعري ذي المحبسين الذي ضاق بالحياة والاحياء وتشكك فيها وفيهم، اعتزل الناس بعدما راى ما راى منهم، اتهم العلماء والفقهاء بله التجار والسفهاء.
انظر اليه كيف يقول: “خفف الوطء” وهذا انعكاس لحاله، فهو الضرير الاعمى الذي يتحسس طريقه يخشى ان يصطدم بجدار او يهوى في حفرة، “خفف الوطء” لا تمش مختالا
تدوس هام الورى. “ما اظن اديم الارض”ظنه يكاد يكون يقينا ولكنه لم يبلغ ذلك “الا من هذه الاجساد” هذا القصر وهذا الحصر يوحي لنا بان شاعرنا كان يجيل ذلك في فكره فتارة يهتدي، وتارة يضل، تارة يعتصم بالدين، “منها خلقناكم وفيها نعيدكم” (طه. 55) فهذه الاجساد من التراب والى التراب، وستبلى وتتحول ترابا، فلا يليق بنا الاختيال، ولا يليق بنا التكبر، وعلينا ان نسير متواضعين فلم التكبر وقد عرفت النشاة، وعرفت المنتهى؟!
وننتقل الى شاعر الفرس عمر الخيام، الشاعر العالم راينا له نظرة تشبه نظرة ابي العلاء الا انه يزيد عليها لمسة من جمال كان ثم بان، فهل هذا التصوير الرائع للشاعر ام للمترجم ام لكليهما؟ انه لكليهما.. للشاعر الذي ابتكر المعنى، وللمترجم الذي وظف الالفاظ هذا التوظيف الدقيق. فاذا انتقلنا من مصراع البيت الاول الى مصراع الثاني، نجد شاعرنا والترجم قد بلغا اوج التجربة الشعورية. “ان هذا الثرى من اعين ساحرة الاحورر”. الثرى الذي ندوسه باقدامنا ليس من الاجساد فقط، فان بعض الاجساد تستحق ان تداس بالنعال والاقدام معا. اما الاعين الساحرة فلا – فرفقا بالقوارير – ورفقا بالجمال.
هذه نظرات تجلت لي وانا اتامل الابيات الثلاثة ما اتفق من معانيها وما اختلف، ويتبين لنا ان التجربة الشعرية جزء من نفس الشاعر، وهي الباب الذي نلجه لنطلع على مشاعر الشاعر واحاسيسه، ومدى ارتباطه بالطبيعة وبالناس