افضل مواضيع جميلة بالصور

ملخص رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد

يبدا جوزيف كونراد رحلة مارلو ويختتمها في داخل “قلب الظلام” على نهر “التايمز”، وعلى متن مركب شراعي ذي مجاديف يسمى “نيلي”، وذلك باستهلال موجز، والذي – عن طريق استخدام رقيق للتصاوير، وتوسل بارع للبيئة – يقدم لنا مارلو (الشخصية المحورية في الرواية)، ويهيؤنا للقضايا الجوهرية في القصة. وفي مغامرة فريدة يبتدئ كونراد الحكاية بشعور قوي مدهش تجاه الهدوء والسكون اللذان يسودان القصة كلها، مع مقاطعات بين الحين والاخر بواسطة القاص نفسه لوصف مارلو، او ليدون اقحاما موجزا بواسطة احد سامعيه، وذلك مع عودة خاطفة الى المركب في نهاية الامر. وعلى نهر “التايمز” كان النهار في طريقه الى النهاية في سكون هادئ وبراعة نادرة، وارتاح هذا النهر العجوز في سكينة واطمئنان؛ ومارلو نفسه كان يجلس جيدا دون حركة كما يجلس “الاله بودا”، وبدت كل اشرعة البارجات كانها واقفة لم تبرح مكانها. اما الرجال الذين هم على متن القارب جالسون، والذين عليهم ان ينتظروا انقلاب حركة المد والجزر، فقد استكانوا بارتياح على متن القارب، ومن ثم اعدوا المكان لمارلو ليبدا في سرد حكايته. وقبل ان يبدا مارلو في سرد قصته، حذر القاص سامعيه انهم بصدد سماع واحد من تجارب مارلو غير الحاسمة. وهذه التجربة بالتاكيد واحدة من تجاربه الكثيرة غير الحاسمة، وهو – اي مارلو – الخبير الدعي، بمحض الصدفة، في القفر السيكلوجي، ولديه الكثير الذي يود اذاعته فيهم. فهو القاص ايضا في روايات “اللورد جيم” (1900م)، و”فرصة” (1913م)، و”الشباب” (1902م). وعلى سبيل هذا الاستهلال شرع في سرد الحكاية حينما اسدل الليل استاره السوداء. وهذه هي المقدمة الاولى للظلام.
ولعل كونراد يبدي اهتماما مستعظما لتاثيرات الضوء ومؤثراته في هذا العمل الذي نحن على وشك الحديث عنه. ففي المنظر الافتتاحي يصف كونراد السماء قائلا: “انها لضخامة معتدلة لضوء غير ملوث، والظلام الوحيد هو ذلك الذي يخيم فوق “قريفسيند” ومدينة لندن، وهناك الكابة الحدادية التي تستولد السكون؛ والارض العادية في لندن تفترض طبيعة متشائمة غير واقعية حين تغرب الشمس، وذلك بعد ان تغيرت من بيضاء متوهجة الى حميراء رتيبة عديمة الاشعة وعديمة الحرارة، كانها على وشك الخروج فجاءة، بعد ان ضربت ضربا مستميتا بواسطة تلامسها مع الكابة المستولدة فوق حشد من الناس.” ومن غير سابق انذار يعلن مارلو في هذا الصمت الذي اعد بحذر: “وهذا ايضا احد الامكنة المظلمة في الارض (برغم من انه لم يكن هذا المكان يمثل الظلام العميق كما بدا لمارلو لاحقا مركز الارض، ولكن النهاية الاقصى للعالم يمثل نهرا لونه كالرصاص، وسماءا لونه كالدخان..”).
ويستخدم مارلو هنا نفس اللغة، التي يستخدمها في وصف نهر “التايمز”، في تصوير النهر الاخر العظيم في القصة وهو نهر الكونغو، ويوحد بينهما باقراره بان كل الانهار والبحار تجري في بعضها بعضا. وعلى هذا السبيل يربط مارلو كل البشر ببعضهم بعضا. وهكذا يهيؤنا عن الكلاسيكية المقلقة التي اكتسبها حين كان يشاهد المواطنين “يصرخون” ويرقصون على شواطئ نهر الكونغو، وايضا من التجارب التي تعلمها من الزعم في ان العلاقة البعيدة بين البشر قد اثبتتها “اللحظة السامية”، والتي احس بها حين مات قبطانه الزنجي. وكان هذا الشعور يمثل الافتتاحية التي تذكرنا – والحديث هنا لمارلو – “ان “دولتنا المتحضرة”، حيث الطبيعة عبارة عن نمط من انماط الهولة المهزومة، والتي كانت في عصر ما يمثل الظلام والهولة عينها، وكنا ذات مرة بربريين.” وفي هذا الاستهلال يحاول مارلو ان يغرس في نفس القارئ نوعا من الاحساس الجواني للتضامن مع اهالي الكونغو، وفي الان نفسه مع المستعمرين “المتحضرين”، الذين لا يستطيعون مساعدتهم، بل الارتباط بهم. وهذا الشعور الذي يبديه مارلو ماخوذ من وجهة راي الغزاة الرومان، الذين ابدوا اسفهم للمواطنين الشباب الخلصاء وهم يرتدون التوجة (ثوب روماني فضفاض)، وكان الرجال يتبعون ذلك عميا.
وفي خضم هذه اللحظة الانعطافية يحس مارلو بهذا النزاع السيكلوجي في التعاطفات عند بداية رحلته الى افريقيا، وبخاصة بعد تجارب العزلة وسط البيض في “حي البيض” في بروكسل، وعلى متن سفينة. ومن هناك يشاهد القوارب على الشواطئ، حيث يجدفها السود الصارخون وهم يتصببون عرقا، والذين لم يكونوا في حاجة الى عذر في وجودهم هناك، والذين هم كذلك كانوا بمثابة ارتياح عظيم لمارلو بمجرد مشاهدتهم. ومن هنا لا نجد الغرابة في الارتياح او الاندهاش في مشاهدة صائدين يجدفون قواربهم، او مواطنين محليين يستخدمون سبل تنقلهم المائي ليعبروا بها النهر من شاطئ الى اخر، او يجدفون بمشقة وفي اشد ما تكون المشقة عكس التيار من قرية الى اخرى، او يبحرون في اتجاه التيار بسهولة اية سهولة من مدينة الى اخرى، الا اولئك الذين ينظرون الى الانسان الافريقي كحيوان مستوحش ينبغي السفر الى افريقيا لمشاهدته وتصويره مثلما يفعلون مع الحيوانات الاخرى في الحدائق المحظورة المسورة.
والحال هذه، فان اول التقاء بين مارلو والسكان المحليين كان في محطة الشركة، وكان انطباعه الابتدائي هو ارتعابه عن تعاستهم وبؤسهم. وقد استعظمت هذه المشاهد القوية في تاثيرها بواسطة خلفية عدوانية سيئة، ونشاط سخيف يمارسه المستعمرون – مثل تفجير الجرف من غير ذي جدوى (والذي يذكرنا بجنون رجال الحرب الفرنسيين والقصف العبثي للاعداء المحليين الوهميين على طول الساحل الافريقي) مخلفين وراءهم حفرة واسعة والات صدئة، وذلك في امر لا طائل تحته. ومع ذلك، قيدوا ما اسموهم ب”المجرمين” بالسلاسل حول اعناقهم، حتى بدت ضلوعهم ومفاصلهم “كالعقد في حبل المسد”، واستحالت الظلال السوداء للمرض والجوع الى كابة للشجر مخضرة كنار تلظى. بيد ان الموت يقف في وضع مضاد “للاستزعام”، او الاسود المنبت المنفصل عن اصله، وهو القروي المسؤول عن “المجرمين”، وهو نتاج القوى الجديدة العاملة، والذي – بوجهه السافل – يعتوره النسيان لماسي الاخرين الذين تحت سطوته وجبروته، ونجده فخورا كان بثقته المستعظمة المفرطة. ونمط اخر مساو لذلك القروي “المستزعم” هو صبي مدير المحطة، الذي اكل وشبع ثم شبع، والذي سمح له المدير ان يعامل البيض – جهارا من غير مواربة – بوقاحة سمجة مستجلبة، وهو الذي اذاع فينا بلهجة ازدراء جارحة بان “مسته (مستر) كورتز قد قضى نحبه.” وعلى هذا النحو، ووسط خضم الاحداث والمشكلات والتعقيدات، نجد ان السود عكس البيض: فهناك المحاسب الشاذ كل الشذوذ بلياقته المبيضة بالنشا، واكمام قميصه البيضاء، وشعره المعتنى به؛ وهناك كذلك طلائع التقدم الاخرين الذين يفتقرون السلاسل الفقارية. وهؤلاء البيض يمرضون باستمرار، ونسبة لجشعهم للعاج وحبهم للترقية، لتجدنهم ينخرطون في مؤامرات مستديمة ضد بعضهم بعضا، ثم انهم لمسؤولون عن تفجير الجرف من غير ذي جدوى، وذلك في محاكاة للعمل تهكمية. انهم لمملوكون – كما يبدو لمارلو وهو يقف على جانب الجبل المطل على “الدمار المستوطن” – بواسطة شيطان ذي عين مترهلة، مدعية، ضعيفة، والتي هي ميزة الحماقة الجشعة عديمة الشفقة.
ففي هذه الرواية يستغل كونراد مشاهد السود والبيض، والضوء والظلام بعدة طرق. فالظلام هو الليل، المجهول، الكتيم، البدائي، والشر. ومع ذلك، حين وصل الى افريقيا قلبت الوان البشرة العلاقات المقبولة في التضاد. فالرجل الابيض – فوق كل شيء – يسعى سعيا حثيثا وراء العاج، واشباع رغباته في حياة الرفاهية الخلابة، لانه يزعم تمثيل “الرجل الحضاري”، والذي يعتبر جذور كل الشرور في الظلام، والتي تقلق مضاجع البيض، حتى اخذ هؤلاء – مثل كورتز – يمثلوها، ونحن هنا نسترعى الذاكرة الى “حي البيض” بمدينة بروكسل، كما بدا جليا لماذا طفق مارلو عنصريا ضد المدينة، ولا يستطيع التناسي، بل التفكير فيها على هذا النحو وبهذا الاسلوب.
يبدا مارلو روايته عن كيفية وصوله الى افريقيا، والتي هي نفس الكيفية التي بها ذهب كونراد بنفسه الى الكونغو العام 1890م، والاحداث هنا تماثل تماما واقعية كونراد. ومثل مارلو كان كونراد قد عاد الى لندن بعد ست سنوات من الابحار في الشرق الاقصى: اولا كرفيق اول في سفينة، ثم كقبطان. وبعد فترة من التسكع وضياع الوقت في التبطل، طفق يبحث عن عمل في سفينة اخرى، وكان هذا يعد عملا شاقا كل المشقة في الارض. ثم ان هذا ليلخص شعور كونراد الشخصي في التجربة المريرة (الصعوبة في ايجاد الوظائف التي تخصص فيها). وان هذا الاحباط لهو الذي يصيب المرء دوما حين يعجز عن العثور على عمل حسب التخصص الذي فيه تدرب. ثم ان هذين القنوط والياس هما اللذان دفعا كونراد ان يهجر مهنته في الابحار في ذلك الردح من الزمان، ويروح متخبطا، على غير هدى، في احياء المدينة وقد غشاه السام والملل. هكذا لم تعرف حياة كونراد هذه اي استقرار مهني اونفسي، او في اي مكان، فهو كان قد عاشها دائم التنقل، وغالبا هربا من وضع ما، او بحثا عن شيء ما. ومع هذا، اخذت حلقات حياته تتالف كلها من فصول الموت والمرض والافلاس والصراعات النفسية والترحال ومحاولة الانتحار. وفي خلال فترة تسكعه هذه – مهما يكن من شيء – شرع كونراد يكتب روايته الاولى “حماقة الماير” (1895م)، ومن ثم – وهو في الحادي والثلاثين من عمره – بدا ما اسماه فريدريك كارل “حياته الثالثة”، اي حياة الكاتب كونراد.(1) فما هي قصة حياته الاولى والثانية؟ هذه حكاية اخرى، ولسوف نبينها بعد حين.
مهما يكن من امر، فلجوزيف كونراد حياتين: اذ بدات هاتان الحياتين لجوزيف كورزينيوفسكي كبولندي وبحار، حيث غير اسمه الى جوزيف كونراد، لانه لم يكن يطيق النطق الخطا بواسطة الانكليز. فقد ولد جوزيف كونراد العام 1857م في بيرديكزوف في اوكرانيا حاليا. وقد ادرك وهو يافعا الروح العميقة للقومية المكبوتة في بولندا، التي كانت تسيطر عليها روسيا، والى حد ما، الامبراطورية النمسوية وبروسيا لاكثر من 60 عاما، حتى لم يبق لها وجود كامة في حقيقة الامر، الا في قلوب وادمغة الناس. فقد تحدر كونراد من اسرة ارستقراطية، وكان والده – ابولو كورزينيوفسكي – متمردا “متجيشا” ضد الحكم الروسي، وكان مثاليا رومانسيا كذلك، ومترجما ثم انه كان كاتبا مسرحيا وشاعرا. وبعد ميلاد جوزيف قصد والده قصيدة “مهداة الى ابنه الذي ولد في العام الخامس والثمانين للاضطهاد الموسكوي”. وفي العام 1861م انتقل ابولو واسرته الى وارسو – حاضرة بولندا – وفي ذلك الحين من الزمان قفزت حركة المقاومة الوطنية الى قمتها في المصير المستميت للعصيان المسلح العام 1863م. وقبل ذلك الردح من الزمان، مهما يكن من شيء، اعتقل ابولو بسبب نشاطاته التامرية، ومع زوجه المريضة ايفيلينا بوبروفسكي وابنهما البالغ من العمر وقتذاك اربع سنوات، تم نفيهم الى فولوقدا في شمال شرقي روسيا. وهناك ماتت زوجه، وعانى هو نفسه من اكتئاب مستديم، مما تسبب في وفاته باكرا، وترك الطفل جوزيف البالغ من العمر حينذاك احدى عشرة عاما ليترعرع في كنف، او تحت رعاية، عمه المحافظ الثري، تاديوس بوبروفسكي. وحين بلغ من العمر 16 عاما ذهب الى فرنسا ليبدا حياته كربان سفينة، لكنه تعرض لاحباطات مستمرة، ووقع في ديون باهظة، حتى تراكمت كل هذه الاشياء ودفعته الى ان يطلق النار على نفسه في مدينة مارسيه بعد اربع سنوات: اما الرصاصة – ويا للعجب – فقد اخترقت صدره لتخرج من ظهره مخطاة قلبه، ومن غير ان تحدث اية خسائر خطيرة. وبعد شفائه، قرر كونراد ان يبدا بداية جديدة بانتقاله الى انكلترا ليجرب حظه في السفن البريطانية، واخيرا – وبعد جهد جهيد – اصبح اول بولندي يمسي قبطانا في الخدمة التجارية البريطانية. ثم كان ذلك في السفن البريطانية، حيث تعلم كونراد اللغة الانكليزية واتقنها، حتى امسى فيها سيدا لا يشق له غبار، وبات يكتب بها باسلوبه التطريزي المزركش وتعابيره الرائقة الرقراقة.
وهو ما يزال طفلا يافعا كان كونراد يشارك والده في مزاجه الرومانسي، وكان يحلم بالرحلات والمغامرات. وفي كتابه “السيرة الذاتية”، الذي اخرجه للناس بعد عدة سنوات لاحقة، استذكر الاعجاب الذي كان يحمله وهو ما يزال طفلا غريرا ارعنا عن “قلب افريقيا الابيض”. وبهذه العنصرية المقلوبة راسا على عقب، تحدث كونراد عن تنبؤ طفولي غريب. وكان ذلك العام 1868م حين كان يربو على تسع سنوات من العمر، وكان ينظر الى خارطة افريقيا، ويضع اصبعه على مكان فارغ – اي منطقة شلالات ستانلي، وكان يمثل لغز هذه القارة – ومن ثم قال لنفسه في نفسه، وبتاكيد مطلق وتهور مدهش: “عندما اكبر لسوف اذهب الى هناك.” واذ قرر منذ موئل طفولته ان يصبح بحارا ومغامرا، ومن ثم تحقق له ما اراد، واضاف الى ذلك ان اصبح ايضا كاتبا كما سنرى لاحقا. هكذا اعطى كونراد هذا الحلم الطفولي عن الكونغو الى مارلو، وشرع يبحث عن قيادة سفينة جديدة، وكذلك سمع عن شركة تجارية تتاجر على نهر الكونغو، وقرر ان يسافر الى هناك. هذه هي نفس الفكرة التي امست تختلج في مخيلة كونراد. فبعد عودته من الشرق الى لندن كان هنري مورتون ستانلي مشغولا مشغوفا كل الشغل وكل الشغف بعملية اغاثة امين باشا – حاكم مديرية الاستوائية في عهد الحكم التركي-المصري في السودان (1821-1885م)، والذي بات معزولا في احراش الجنوب السوداني عقب انفجار الثورة المهدية (1881-1898م)، واخذ يجد اعلاما مستعظما، وصيتا ذائعا في بريطانيا. فقد عثر ستانلي – الكاتب والرحالة – على المبشر المسيحي المفقود الدكتور ديفيد ليفينغستون في ادغال افريقيا العام 1871م. ففي السبعينيات من القرن التاسع عشر الميلادي توغل ستانلي في غابات افريقيا، وتتبع لاول مرة مجرى نهر الكونغو، حتى وصل الى قلب هذه القارة السوداء. وكان استظهاره الامكانيات التجارية في المنطقة قد ادى الى تاسيس مشروع تجاري ضخم، وقاد في نهاية الامر الى تكوين “دولة الكونغو الحرة” – وفي ذكر عبارة الحرة تنزف قلوبنا دما. وحين نطق اولئك وهؤلاء بعبارة “الكونغو الحرة” كان عليهم ان يتحدثوا عنها باستحياء، لانهم مسوا الناس والمنطقة بغير رفق ولا رافة، وتركوا ماضيا تعيسا لم يعد من الممكن تغييره. فقد كانت المنطقة كلها تحت اجراءات وتمويل المستثمر الملك ليوبولد الثاني – ملك بلجيكا. وفي بادئ الامر لم يبد الراسماليون البريطانيون رغبتهم في الاستثمار في هذه المنطقة، مما نتج عن ذلك اسفهم وندمهم في نهاية الامر. وكان الملك البلجيكي قد خول لنفسه سلطات وصلاحيات السيادة على هذه الدولة الجديدة، والتي بقيت – مهما يكن من شيء – مستقلة عن حكومة بلجيكا. فقد قاد ستانلي الرحلة الاولى للبلجيكيين الى هذا الاقليم لتاسيس محطات تجارية ومراكز ادارية، و”لاثبات ان مواطني الكونغو يمكن ان “يتاثروا بالحضارة”، وان حوض الكونغو غني في اكثر ما يكون الغني بحيث يمكن تسديد – من موارده – قيمة الاستغلال”، كما كتب ذلك في سيرته عن تجاربه “عبر القارة السوداء” العام 1878م، وهو الكتاب الذي فيه ايضا اماط اللثام عن الاسترقاق في هذه القارة، وكيف استحال النخاسون المواطنين الى شظايا مجتمع وفتات بشر. ولكن هل تبلسم الكتابة جراح الماضي؟ كلا! ومن يقرا التاريخ سيدرك اننا لم نطلق هذا النقد اللاذع والسخرية الزاعقة الحارقة سدى. وكذلك كتب ستانلي عن نضاله في البحث الحثيث عن امين باشا في تاليفه “في افريقيا الاكثر سوادا”، الذي نشر العام 1890م، وهو العام الذي فيه ذهب كونراد الى الكونغو. ما اذا كان كونراد قد اطلع على هذين الكتابين ام لا، الا انه لا ريب في ان رغبته في افريقيا قد استعرت بواسطة تجارب ستانلي الدرامية، واكتشافاته الشهيرة.(2)
ايا كان الامر، فحينما وصل كونراد الى الكونغو كان الاخير قد اصبح من الممتلكات الخاصة للملك البلجيكي ليوبولد؛ اما “العمل الصالح المنجز باسم المسيحية والتقدم” فقد تم نسيانه او تناسيه وسط تزاحم المكتنزين الاوربيين. وقد افرز هذا التصارع المذموم، وذاك التسابق المحموم حول الثروة والمال في الكونغو ما يمكن نعته بالجشع والقساوة الاكثر قبحا، ونشاطات النفاق والرئاء في الاستغلال الاستعماري في القرن التاسع عشر من الميلاد، والذي نعته كونراد في مقال له بعنوان “الجغرافيا وبعض الرحالة” ب”التسابق الاقذر للنهب الذي شوه تاريخ الضمير الانساني، والاكتشاف الجغرافي الى الابد.” ولعل رواية “قلب الظلام” ليست مجرد رواية عادية، بل سيرة ذاتية تجري وقائها في منطقة فضاؤها القسوة العابثة والعدم، والرجاء الذي هو كسراب بقيعة، حيث قضى الكاتب ردحا من الزمان هناك. اذ ينطوي هذا الكتاب على ضنى في تجربة الكتابة المتمثلة في انعكاس لذلك الضى الذي تميزت به تجربة الحياة في معسكرات اذلال المواطنين الكونغوليين بكل اهوالها التي تخرج عن نطاق الوصف، وبخاصة ان الوصف في هذه الحال ليبدو مؤلما. ومن هنا ايضا يرسم الكاتب صورا متنوعة ذات ملامح سياسية وقومية واجتماعية، كانت بمنزلة القضايا الشائكة في هذا الوطن المترامي الاطراف، والتي دفعت المواطن الى السقوط في بئر عميقة من الاحباط والياس، حيث يموت البشر كما كانوا يموتون في العصور الوسطى، وسط الرعب وقرقرة البؤس.
هذا، فقد كانت رحلة كونراد الى الكونغو قصيرة وماسوية في الان نفسه. اذ تدهورت صحته ايما التدهور، وشعر في اعظم ما يكون الشعور بالوهم والفشل. فقد دخل هناك في ازمة شخصية شديدة، واصطدم بالاضمحلال الاخلاقي والعاطفي؛ وقد اثبت ذلك في خبرته الجديدة ككاتب. ومن خلال خالته الروائية، وجد كونراد وظيفة كقبطان في باخرة تابعة “للشركة البلجيكية المجهولة للتجارة في الكونغو الحرة”، والتي كانت ستاخذ الرحلة الاكتشافية بقيادة الكسندر ديلكميون – وهو كان اخا لمدير الشركة في كنشاسا (محطة كونراد الرئيسة) – الى اقليم كاتنغا. وفي بادئ الامر ابتهج كونراد المغامر بهذا المشروع، لانه كما بدا له انه لسوف يكون قد ساهم في الاكتشاف الذي شرع فيه ستانلي في باطن افريقيا. مهما يكن من الامر، فحين وصل كونراد الى كنشاسا نشات هناك عداوة مباشرة بينه وبين مدير الشركة، كميل ديلكميون. فقد اخذ كونراد ينعته باحتقار في القصة ويلومه على الايام المؤجلة، وعلى اخفاق فريق الانقاذ في الوصول الى كورتز في الوقت المناسب لانتشاله من براثن الموت. وفي الحق، يبدو ان ديلكميون قد اشتاط غضبا من تاخير كونراد في الوصول الى العاصمة كنشاسا من مدينة ماتادي، حيث ان الطريق الطويلة تاخذ دوما اقل من عشرين يوما، بينما استغرق كونراد 35 يوما، وكذلك استاء وغضب كونراد الاستياء كله والغضب كله من استقبال ديلكميون البارد له. وبرغم من ان الباخرة، التي كان يقودها قد اصابها عطب، الا ان كونراد لم يبق في المكان لمدة ثلاثة اشهر مثلما فعل مارلو، ولكن – في الواقع – بعد يوم او يومين انطلق الى اعلى النهر مع كميل ديلكميون على متن باخرة مختلفة تحمل اسم “ملك بلجيكا”، وكان كونراد، الذي كان زائدا عن العدد المقرر او المطلوب، موجودا على متنها ليراقب ويتعلم الملاحة في النهر من ربان ذي خبرة.
وكان هذا السفر ما هو الا رحلة روتينية بالنسبة الى ديلكميون، حيث انتهت في زمن قياسي، وليس كما قطعها مارلو في الرواية. وكان اصطحاب الوكيل “كلين”، والذي كان سقيما بالدسنتاريا في شلالات ستانلي، وقضى نحبه في مجرى اسفل النهر، ما هو الا حدثا عارضا. فلم يكن يحمل “كلين” شبها ل”كورتز” ابدا كما كان يزعم. وابتنيت شخصية كورتز، في حقيقة الامر، على رجل يدعى هوديستر، وهو كان وكيلا ناجحا لشركة ورحالة، ثم انه كان عضوا في “نقابة مجرمي الفضيلة”، الذين كانوا يستهجنون كل الاستهجان الرق والعادات البربرية، علاوة على انه كان منافسا ل”ديلكميون”. وبالطبع والطبيعة، فقد سمع كونراد عنه من حديث القيل والقال في المحطات. وكان مقتله العام 1892م، خلال تمرد العرب والسكان الاصليين حينما كان في رحلة لتاسيس المصانع، وقد نشر نبا وفاته واذيع عنه في الناس بكثرة في الصحف الانكليزية، وفي ذلك الحين كان كونراد يتواجد في لندن. اذ لم يملك، مهما يكن من شيء، روحا غير شرعية خادعة تفوق الحدود التي تسمح بها الامال والرغائب مثل كورتز، ثم انه لم يكن من نمط البشر المؤله وسط “المستوحشين” الذي مثله كورتز، هكذا كتب احد النقاد الادباء.
وحين مرض كونراد بالحمى والدسنتاريا ولازم سرير المرض في اغلب الاوقات، احيط علما بواسطة كميل ديلكميون بانه سوف لا يكون على راس الباخرة التي تقل الفرقة الاستكشافية الى اقليم كاتنغا، ثم انه لسوف لا يكون قبطانا في باخرة نهرية عادية، وذلك كما كتب كونراد الى خالته: “ليس لي امل في الترقية، ولا في زيادة الاجر في الحين الذي فيه يبقى ديلكميون هنا، بالاضافة الى ذلك، انه لقد قال سوف لا يلتزم هنا ابدا بالعهود المبرمة في اوربا.” وبعد ذلك الحين مباشرة امسى كونراد سقيما في اشد ما يكون السقم، وغادر الكونغو عائدا الى بروكسل – حاضرة بلجيكا – بشعور مرير من الاخفاق شديد. ومن ثم انتهت رحلته الماسوية الى الكونغو بتفاصيل شخصية، ولا شيء غير الرنين الكئيب، وظاهريا من غير مواجهة او مقابلة شخصية رديئة الرداءة العظيمة مثل كورتز.
وفي خلال قصة الكونغو، تعرض كونراد – بحال ما – الى تجربة استنارة شبيهة بتلك التي تعرض لها مارلو، ودخل في عملية النمو عبر خيبة الامل والهزيمة، وهو نمط الهزيمة الذي ساقه الى حافة البقاء اي بقائه الشخصي وليس بقاء الحضارة، والذي انتج فيه فهم عريض وعميق بالبشر، وبخاصة نواحيهم السويداء.
برغم من ان تجارب كونراد الشخصية تمثل المادة الخام للقصة، الا ان كونراد – في محاولته للتعبير عن تطوره من المثالية الى خيبة الامل والفهم الاعمق عن طريق السرد الخيالي – قد شوه التجربة الفعلية بطرق عديدة. اولا، انه جعل مارلو مستريبا من الوهلة الاولى، كما نراه في تردده وريبته في المشروع في بروكسل، وكذلك ارتاى كونراد في فرصة الذهاب الى الكونغو حقائق مثالية لتحقيق حلم الطفولة الذي ذكرناه لكم انفا. فقد ذهب وهو ممتلئ بشوق مثالي ورمانسي. ثانيا، حاز مارلو على دور اكثر اهمية وعملا في القصة من كونراد، الذي لم يكن اكثر من مراقب ومستمع للقيل والقال، والذي ربما وجد فكرة شخصية كورتز من صحيفة. وبتنصيب مارلو قبطانا للباخرة صيره كونراد مسؤولا مباشرا لعملية انقاذ كورتز، وكذلك حياة كل الاشخاص الذين على متن الباخرة، وهكذا يعطي سرد الشخص الاول للقصة بواسطة مارلو قوة عظيمة انية. ثالثا، انه قد بالغ في تصاوير وتواصيف عزلة وبدائية اهل الكونغو. وبارجاعهم الى عصر ما قبل التاريخ، حتى اختفت مستوطنات كبيرة لتحل محلها قرى السكان الاصليين ومراكز تجارية صغيرة ضائعة، والملاحة عبارة عن امر اكتشاف القناة الصحيحة، واستشعار سبيل الفرد عبر المجرى المائي المجهول، حيث كان كونراد يدرك انه نهر مزدحم ايما الازدحام. رابعا، لقد اعطى كونراد رحلته الى “قلب الظلام” (مثل ستانلي في رحلته البحرية الانقاذية) نمطية اسطورية، وجعلها موضوعا للقياس للتنمية الروحية-العاطفية لمارلو.
وقد راى كثر من النقاد انها رحلة الى النشاطات العقلية تحت عتبة الوعي مباشرة عند مارلو، او الدووعي العام، او – كما ارتاى البيرت جيه قيرارد – رحلة سيكلوجية انثروبولوجية “ليلية”. وبهذه العبارة كان يعني قيرارد: “اسطورة متعلقة بالطراز البدائي، وممسرحة في ادب عظيم العظمة كلها منذ كتاب (قصة سيدنا) يونس (عليه الصلاة والسلام): وهي قصة رحلة العزلة الرئيسة، التي تنطوي على تغير روحي عميق عند المسافر (في هذه الرحلة البحرية). وفي شكلها الكلاسيكي، فان الرحلة لعبارة عن الهبوط الى الارض، وتتبعها العودة الى الضوء.”
وعندما نعير الانتباه للواقع السطحي لقصة مارلو، او تفاصيلها البرانية ينبثق المعنى الجواني. ومن هذا المنطلق استطاع كونراد ان يخلط الاخلاق بالمغامرة في رواياته، وباسلوب فريد. ففي توطئة لروايته “زنجي نارسيسوس” (1897م) وصف كونراد اسلوبه، وسرد اخلاقه الشخصية فيما يختص بفن الرواية. ويبدو هذا الاسلوب واضحا الوضوح كله في تصاوير الرحلة اعلى النهر، مع تركيز دقيق على تفاصيل العواطف والافعال. وهذا – بالمقابل – يسلط نوعا من الاضواء على ما يحدث في الان نفسه في جوانية مارلو، وهو نفسه مضطر كل الاضطرار ان يبدي انتباها مستمرا الى الواقع السطحي في نضاله للحفاظ على السفينة على سطح الماء وابحارها اعلى النهر. وهذا سينقذه من اغراءات البرية، التي هو – مثل كورتز – عرضة لها. ان الواقع السطحى لهو الذي ابقى مارلو بعيدا عن اختيار البرية مع كورتز، وليست قوة صوته الداخلي، ولا قيده الداخلي، وهو موضوع رئيس في القصة. اذ لم يكن لكورتز وسائل ضبط النفس، ولا عمل سريع مثل كورتز، ولا عقيدة روحية. وكان تطرفه واعتقاده مضادان للايمان الصادق، والذي كان يعتقد مارلو انه مرغوب في سبيل تبديد الظلام. ومن خلال قيام الروح الاخلاقية والاندفاع الجشع نحو المال والسلطة، لم يستطع مارلو التعاطي مع القوى البربرية والحقود في جوانيته، والتي تخرجها البرية الى الناس. وكان دفاعه الوحيد هو الفصاحة، التي لم تكن كافية، كما شهدت الرؤوس على الاعمدة خارج منزله. اذ ان الفصاحة توضح ان كورتز يحتاج الى وسائل ضبط النفس في سعيه الحثيث وراء شهواته المتباينة، وكذلك لان هناك شيئا مرغوبا في جوانيته – شيئا صغيرا، والذي حين تتبين الحوجة الملحة له، سوف لا تجد له وجودا تحت بلاغته البارعة، برغم من ان الكلمات ليست ادوات لنقل المعاني فحسب، بل هي اسلحة دفاعية ايضا.
وعلى هذا النحو، يفتقد احد الربابنة المنبتين المحليين معايير ضبط النفس، وبذلك يلقي حتفه. وفي الحق، لم يكن لاي شخص في القصة سبل ضبط النفس، الا الرجال الاكثر بربرية، اي اكلي لحم البشر الذين هم يتضورون جوعا على متن الباخرة، والذين ادهشوا مارلو بحقيقة انهم يستطيعون ان يضبطوا انفسهم من التهام “الحجاج” بينهم بنهم. فضبط النفس – اي ضبط النفس – ليس هو بالدووعي، او الاشمئزاز، او الصبر، او الخوف، او نوع من الشرف البدائي. فليس هناك خوف يمكن ان يقف في وجه الجوع، ثم ليس هناك صبر يمكن ان يهلك الجوع. اما الاشمئزاز فانه غير موجود متى ما وجد الجوع، اما قوى ما وراء الطبيعة، والشعوذة، والمعتقدات، وكل ما يمكن ان تسميه المبادئ كلها اقل من القشرة في الهواء الخفيف. اذ يكلف المرء كل قوته الفطرية لكي يقاوم الجوع كليا.
على اية حال، فقد خلفت الرواية جدالا واسعا وسط النقاد عن طبيعة “الظلام” بالتحديد. فعدم وضوح الرؤية الذي يصاحب الكلمة قد ترك هكذا عمدا من ناحية، وهو الفشل من ناحية اخرى. فالظلام يعنى اشياءا كثيرة: انه ليعني المجهول، والدووعي، وانه ليعني الظلام الاخلاقي، والشر الذي ابتلع كورتز، ثم انه ليعني الفراغ الروحي كما يراه في مركز البقاء، ولكن – وفوق ذلك كله – فانه اللغز ذاته، اي لغز حياة الانسان الروحية. ولابداء او استظهار كل هذا فان كمية محددة من عدم الوضوح لهي مطلوبة. وهذا اللغز – كما يتخيله كونراد – يمسي كبيرا جدا لحدود القصة ومارلو، وذلك في محاولاته في تصوير الذي لا يمكن تصوره، حيث يفقد السيطرة على كلماته ويجنح الى عدم المعنى الواقعي حين يحاول ان يوضح جوهر تجربته عن طريق الاقتراح، وكانت النتيجة شعاعا باهتا غير مفهوم، بل ضبابا من الصفات المبهمة التي تصبح كثيفة كلما اقتربنا الى القلب والى كورتز معا.
وفي كتابه “التقليد العظيم” انتقد ف ر ليفيز الروائي كونراد لعدم وضوحه واستخدامه الطاغي للصفات بصورة غير دقيقة – فعلى سبيل المثال: استفاضته في استعمال مفردات مثل “غامض؛ مبهم؛ ملغز”، و”لا يتخيل؛ لا يتصور؛ لا يصدق”، و”لا يوصف؛ لا يصح ذكره؛ رديء جدا”، وتساءل ليفيز: “هل اضافت هذه العبارات شيئا الى الطبيعة الاضطهادية في الكونغو؟” فربما اضطرته الحال الى استخدام هذه المفردات لانه حاول جاهدا ان يغوص في اعماق الاشياء، حتى المجردة منها بما فيها “قلب الظلام”، وحينما راى ان الاسماء غير كافية او غير كفيلة بتبليغ الرسالة اياها، او المعاني التي يود توصيلها عمد الى الاستعاضة والاستعانة بهذه الصفات القوية في معانيها ومضامينها. فمن الملاحظ انه من الناحية الاسلوبية والطريقة الفنية للسرد نجد ان هذه الرواية – وعلى عكس ما هو مالوف في الروايات عادة – ان التواصيف جاءت مستكثرة على حساب السرد، حتى بات الزمن السرمدي قصيرا جدا، وكان يكفي بضع صفحات للوصول الى ما يريد النص الوصول اليه، لولا تلك الوقفات الوصفية الغزيرة في الرواية، التي ابطات وتيرة السير السردي غير مرة، مما جعل الرواية اقرب الى لوحة من الالوان والزخارف ذات اللمسات النعتية العميقة التي يمكن فصلها عن سيرورة الاحداث، لانها طغت وكادت ان تجعل السرد كلمات متقاطعة.
ومع ذلك، تبقى شخصية كورتز لغزية في اقرب الاحوال مثل الظلام نفسه، الذي يعيش فيه. برغم من الاستخدام المركب للقصاص، الا انه يعطي الحال الموضوعية للقصة، ثم انه ليضيف جوا من عدم الوضوح والقنوط في الوصول الى قلب الشيء، ويترك القارئ على بعد معتبر من القصة. وهذا بالضبط والربط هي الحال مع نمو شخصية كورتز. فالقاص في القصة – اي كونراد نفسه – يحططنا علما عما قال له المنفصل مارلو عما قال له المهرج الروسي وبعض الناس عن كورتز. لذلك كانت الامال المبالغة التي يحملها مارلو عن كورتز مبنية في الاساس على اشاعات المحطة، ولذلك بقي كورتز بالنسبة لمارلو، ولنا كلنا اجمعين اكتعين، مجرد “اشاعة”، او “كلمة”، او بصورة اكثر قوة في نهاية الامر “صوتا”. انه لم يكن شخصية حقيقية. وان كرتز – بالنسبة لمارلو – لهو الموضوع الرئيس لهذه الرحلة النهرية، لانه يعتقد ان كورتز هو الرجل الذي يمكن ان يشرح له درس الظلام.
وفي هذه الاثناء التي فيها شرع مارلو يتحدث الى كورتز، كان كورتز نفسه قد بات سقيما في اشد ما يكون السقم، وامسى مضطربا الاضطراب كله بحيث اصبح لا يستطيع ايضاح اي شيء، ولا يقدر على ان يبين من امره شيئا، برغم من ان مارلو كان قد ادرك اثناء رحلته اعلى النهر انه بات من الامر الميؤوس ان يتحدث ويستمع الى كورتز على اية حال. وذلك لان حتمية هذا الامر تقع عميقا تحت السطح، وبعيدة عن متناول فهمه واستيعابه، وخارجة عن دائرة قوته الفضولية. ومن هنا يدرك مارلو انه لا يستطيع فهم اسرار الظلام وفك طلاسمه، وان ثمن فهمه، او التشبث في حل الغازه، لهو من جنون الروح الذي يسيطر على كورتز. ومن هنا ايضا يقرر مارلو على انه من الافضل ان لا يغوص في اعماق الواقع السطحي ان اراد ان يبقى حيا، ويبقي جسمه سليما من الاذى.
هكذا لم يكد مارلو ان يتجرا في الغوص تحت السطح ابدا، وانه قد حرمت عنه المعرفة الذاتية عن كورتز، الذي افلت من المازق والموت، وافلح في ان يجرجر الى الوراء قدمه المترددة. اما كورتز فان معرفته الذاتية وصرخة النصر “الرعب! الرعب!” هما نصر متناقض: انه لتاكيد النصر الاخلاقي الذي يتحقق بعد عدة هزائم، وبواسطة انماط ارهابية قميئة، واكتفاءات سيئة. ولكن في هذا النصر يتجسد فشل الانسانية، لانه ليست هناك فصاحة يمكن ان تذبل في اعتقاد احد من البشر في واقع الامر، وهذا هو الواقع اليومي للناس في بروكسل، على سبيل المثال – والذي يبدو كانه ازدهاءات مفرطة من الحماقة لا تطاق او تحتمل في وجه الخطر الذي لا يستطيع الشخص ادراكه، والذي هو – في حقيقة الامر – غير واقعي. وبالنسبة للبشر فان الظلام لهو الفوضى الجوانية المكبوتة في الاعماق، والتي يستحيل – كما يختتم مارلو – تفسيره، ومن الافضل ان لا نتخيله.
غير ان الكتابة الروائية لم تكن هم كونراد وشاغله الوحيد، فهو اضافة اليها كان كونراد اديبا مبدعا في كتابة القصة القصيرة، وكاتبا بارعا في فن تاليف الحكاية القصيرة ايضا اكثر من ان يكون روائيا. فانه – فوق كل شيء – لم يستطع ان يتعاطى مع توتر الرواية باكملها، وذلك باستثناء رواية “نوسترومو” (1904م). اما رواية “قلب الظلام” (1899م) – مهما يكن من شان – فبرغم من انها رواية صغيرة في حجمها، حيث يبلغ تعداد كلماتها 38000 كلمة، لا يبدو فيها تخفيف التوتر. فالمؤامرة مرتبطة مع بعضها بعضا بدهشة اية دهشة، والحركة مزاج مشدود بين التاجيل من ناحية، والتردد من ناحية اخرى، وتجنبت الرواية ما يمكن ان نسميه اخفاق كونراد العظيم، اي عدم مقدرته في اختلاق شخصيات نسائية مقنعة، وذلك بالاحتفاظ بالمراتين الوحيدتين في القصة في الصفوف الخلفية.
وفي رواية “قلب الظلام” استخدم كونراد وصديقه الحميم مادوكس فورد، الذي تعاون معه في اعمال اخرى في الحين الذي فيه كتبت رواية “قلب الظلام”، “نظرية الخيال” (Theory of fiction). اذ يصف فورد، صاحب كتاب “جوزيف كونراد: ذكرى شخصية”، هذه النظرية بانها في حال كتابة الرواية فقد اتفقا على ان اية كلمة تكتب على الورقة – اية كلمة تكتب على الورقة – ينبغي ان تحمل القصة الى الامام، وكلما تقدمت القصة، يجب ان تحمل القصة الى الامام بسرعة اكثر فاكثر، وبكثافة اكثر فاكثر. وتسمى هذه النظرية بالفرنسية (Progression d΄effet)، حيث لا توجد لهاتين المفردتين ما يضاهيهما في اللغة الانكليزية. وهذا بالتاكيد صحيح في حال “قلب الظلام”، والتي – برغم من تقلبات الزمان – تسير الرواية الى الامام باثر تراكمي، ولحظة تتسارع كلما اقتربنا نحو القلب. فقد شرع كونراد في تعلم الانكليزية حين بلغ من العمر عشرين عاما. وبرغم من اجادته البارعة لها كان – والحديث هنا لفورد – يزدريها كلغة لكتابة النثر، معترفا بانه من المستحيل كتابة تعبير مباشر بالانكليزية، وذلك لان كل المفردات الانكليزية عبارة عن الات للعواطف الباهتة المثيرة. فالمفردة الفرنسية تحمل معنى واحدا، اما الانكليزية فتحمل اكثر من معنى. لذلك قال كونراد: “انه كان يفضل ان يكون كاتبا روائيا فرنسيا،” ولكن جاءت الفرصة متاخرة جدا بحيث لم يكد يستطيع ان يغير حاله. وفي الحكاية يسرد مارلو القصة بالتسلسل المباشر غير المباشر، والذي فيه يبدو مارلو كانه يسرد الاحداث بتسلسل تاريخي، لكنه – في حقيقة الامر – لا يفعل ذلك. فالقصة لا تسير حسب تسلسل الاحداث، بل حسب تسلسل افكار مارلو.(3)
فرواية “قلب” الظلام”، التي كتبت في العام الاخير للقرن التاسع عشر من الميلاد، تعتبر اول رواية في القرن العشرين، وذلك بمناخها المشبع بالشك وعدم الوضوح، وضياع الثقة الاخلاقية، وحوجتها في الاعتقاد وسط البرية الاخلاقية، واكتشافها الى الدووعي، وتوكيدها للحرية الفردية. ولعل الجشع الاستعماري والاضطهاد الامبريالي في القصة، والفجوة الفسيحة بين رغبات الانسان الخيرة، والمثل العليا من جانب، وما يقوم به فعلا من جانب اخر يشي بمقاربة مرعبة، وهذا ما اسماه مارلو “احتلال الارض”، والذي ما يزال مستمرا الى يومنا هذا، وانه ليس بالشيء الحميد ابدا حين نمعن او نديم النظر فيه. واحتلال الارض هنا يعني دوما اخذها عنوة واقتدارا من الذين يحملون ملامح مختلفة، او انوف مسطحة الى حد ما، او سحنات لا تشبه تلك التي عند الغاصبين. فما الذي يمكن ان ينقذ هذا الاستغلال؟ انه لهو الفكرة، الفكرة في خلفيتها النبيلة، وليس الادعاء الاستعطافي، ولكن الفكرة الخيرة، والاعتقاد غير الاناني في الفكرة، ثم انه لهو الشيء الذي يمكنك ان تؤسسه، وتسجد امامه، وتقدم له قربانا. فالامبراطوريتان البلجيكية والبريطانية قد اندثرتا، ولكن اخريات قد حلت محلهما. فقد حل محل العاج الابيض، الذي كان يستخرج من اشجار بعينها في الكونغو، النفط الاسود كمادة رئيسة للنهب، وهناك اخريات بالطبع. فالتقدم – او بالاحرى لنقل مزاعم التقدم – هو احد منها. هذه الفكرة المقدسة التي تفضي الى القول بان كل ما نفعله عرضة للتحسين، وان للبشر حركة الى الامام مستمرة، ولا يزال الانسان يسيطر على المجتمع، وبما انه بدا يفقد هذه السيطرة قليلا قليلا، وذلك حين اخذ الوعي ينتابنا عن كوارث ما نسميه التقدم وامسينا اكثر تواضعا في وجهها، لم نغلق الابواب على مصاريعها بعد في وجه ما اسماه مارلو بمرارة “مزبلة التقدم”. فهناك كثر من اناس خيرين – مثل كورتز – يودون تطبيق الفكرة، ولكن ان الفجوة بين افكارهم من ناحية، وما يفعلونه من ناحية اخرى لمتسعة. وان الظلام، كما راه مارلو في نهاية المطاف، لمحيط بنا تماما، وكذلك انه لفي دواخلنا. ثم ان المشكل لهو من ذا الذي يحمل معايير وسائل ضبط النفس الضرورية لحله. لقد بدا مارلو بداية اخلاقية، وبمقاصد نبيلة، ولكنه في نهاية الامر لم يستطع ان يحافظ على مثالياته، وذلك حينما امتلك سلطة مطلقة.(4) الم نقل لكم ان السلطة لتفسد، وان السلطة المطلقة لتفسد فسادا مطلقا (Power corrupts, and absolute power corrupts absolutely)! ومارلو هنا انسان يحمل تناقضات البشر، عيوبهم واحزانهم، خوفهم وبطشهم، نهمهم وتحفظهم، بل – واكثر من هذا – يحمل الى حد الافراط كل تلك القدرة على ان يكون وحشا وحنونا في الوقت نفسه.
ومن هنا نستطيع ان نقول ان جوزيف كونراد (1857-1924م) المذكور هنا، ليس بالبطل الثوري الاسطوري، بل اديبا روائيا. وهو ذلكم الطفل البولندي الذي تربى على الطبيعة البولندية الباردة، وصعقه المجتمع الغربي منذ بداية حياته الشبابية، وعاش كل نجاحاته، انطلاقا من خيبته واخفاقه المؤكدين في مقتبل عمره، حتى كادا ان يؤديان الى هلاكه. ولكن من جحيم هذا الفشل في بادئ الامر انطلق منتصرا ليمسي امثولة روائية بين ليلة وضحاها. ولم يكن ذلك كله بالصدفة بالطبع، فلا ريب في ان البارعين العظام لا بد ان يكونوا قد مروا بتجارب مريرة محبطة كادت ان تدمرهم نهائيا. ومن الذين دفعهم الياس الى سوداوية حياتية قادتهم الى محاولات الانتحار هو ذلك الموسيقي الالماني الذائع الصيت روبرت شومان (1810-1856م) والاديب الفرنسي الالمعي فرانسوا رينيه اوغست دي شاتوبريان (1768-1848م). والمهم هنا ان كونراد قدم لنا اعمالا روائية باشكال اخاذة يبلغ تعدادها 20 رواية. اذ صار جزء منها اوبرا، وعكفت شركات السينما الكبيرة على تلفزة وافلمة بعضا منها، حيث حققها مخرجون كثيرون (معظمهم من اصحاب الاسماء الكبيرة في السينما الامريكية). فبالاضافة الى الاعمال التي ذكرناها سلفا – والتي سنذكرها لاحقا، والتي سوف لا نذكرها هنا – كتب كونراد “حقير الجزر” (1896م)، و”العميل السري” (1907م) وروايات اخريات. فلا شك في ان المواضيع الرئيسة في اعمال كونراد – الذي اهتم، اكثر ما اهتم اي روائي اخر، بالكتابة عن المغامرات – تتركز حول الرحلات والنزاع، وبخاصة في “نوسترومو”، و”اللورد جيم”، و”قلب الظلام”، و”زنجي نارسيسوس”. واكثر اعماله المقروءة قد كتبت في الفترة الوسطى، والتي تمتد بالتقريب في الفترة ما بين (1899-1911م). ففي هذه الفترة كتب كونراد “الشباب”، و”قلب الظلام”، و”اللورد جيم”، و”الفرصة”، والتي فيها يمثل تشارلي مارلو الشخصية المحورية. وفي كثر من اعماله حاول كونراد ان يتحرى العلاقة بين الولاء للقيم الاجتماعية من ناحية، وبين الولاء للفرد من ناحية اخرى، لكنه لم يكد يستطيع ان يصل الى نتيجة مؤكدة. ففي ببعض اعماله – مثل “اللورد جيم”، و”نوسترومو”، و”تحت العيون الغربية” (1911م) وقف الى جانب الولاء الى الفرد. والفردية، كما انضجها الفكر الانساني الحديث، والتجارب العملية في كنف الدولة الديمقراطية الحديثة، نقيض الانانية والانغلاق على الذات؛ فالفرد الانساني الذي تنسب الفردية له، تواصلي وتبادلي، او حامل لامكانية التواصل والتبادل في مختلف مجالات الحياة، ويمتاز بالمعرفة والعمل والحب، وهي حدود وجوده الانساني.
اما في رواية “نهاية الامل” (1902م)، التي اعتبرها بعض النقاد اقل اعماله بريقا، فقد حاول كونراد ان يغوص في الازمات الاخلاقية والنفسية، ويتحرى عدة قضايا هامة بطرق فريدة، ويوضح ان البشر ليس لهم سلطة على مصائرهم، وهم في نهاية الامر تحت رحمة تقلبات القضاء والقدر في حيواتهم الدنيا. اما روايته “زنجي نارسيسوس” – والزنجي هنا بمعناه العنصري الاحتقاري – فهي من افضل اعمال كونراد في فترة حياته الاولى. فلولا عنوانها الطارد، ربما كانت قد قراها كثر من الناس وباستمرار اكثر مما يقدم عليها القراء الان. وربما كان هذا العنوان المقيت ايضا هو الذي دفع الناشر في الطبعة الامريكية الاولى ان يعيد نشرها باسم “اطفال البحر”. وفي وقت ما كانت هذه الرواية هي اكثر مؤلفات كونراد قراءة، وذلك نسبة لانها موجزة من ناحية، ولان بها عينات من المغامرات البحرية من ناحية اخرى، ولان بها ميزات ادبية من ناحية ثالثة، حيث كانت تسترعي انتباه كثر من الناس. ففي هذه الرواية يعالج كونراد قضايا هامة، وبخاصة مفاهيم العزلة الانسانية والتضامن الانساني، فضلا عن مسائل العرق. فبما ان الرابطة الجماعية هامة وسط الناس في سبيل البقاء، فقد استعان بها قباطنة السفينة “نارسيسوس” من اجل البقاء، الا ان الربان جيميس ويت المتحدر من اصول افريقية قد ادخل الربابنة الاخرين في ازمة اجتماعية انسانية اخلاقية. فمن جانب كان ينبغي على طاقم السفينة تضمين جيميس في مجتمع السفينة، ومن جانب اخر بقي جيميس خارج اطار هذا المجتمع الكبير نسبة لارثه الافريقي. اذ كان عليهم حمايته كاي فرد اخر من افراد الطاقم حتى لو ادى الامر الى عرض حيواتهم كلهم اجمعين ابتعين للخطر والهلاك، لكنهم – في الان نفسه – كانوا يبدون نوعا من الاشمئزاز منه، لانه كان يمثل الموت بالنسبة لهم، هذا من جانب. ومن جانب اخر، بسبب التفرقة العنصرية ضده. والمهم هنا ان كونراد يدلنا الى مقدرة لا شك فيها على الغوص في دقائق اهتزازات النفس وارتجاجاتها، وتذبذب الفكر بين شتى الاحتمالات والبدائل، مع ارتباط متواصل على طول الروايات بالاوضاع السياسية والاجتماعية معا. وتمثل هذه الاعمال في احسن اعتباراتها فتنة التناسل واللعب على الكلام، النبش في المناطق الخبيئة للعواطف الانسانية والاهواء الذاتية، والتلذذ بالتناقضات الاجتماعية والموروثات الثقافية.
اما رواية “قلب الظلام”، فلعمري لم نر تاليفا استكثر فيه الكاتب وتزيد في العنصرية على هذا النحو وبهذا الشكل او النمط. فلا تكاد العنصرية السمجة تسيل في لعابه، وتجري في دمه، وتخرج منه زفيرا، وتتصبب منه عرقا حتى ظننا ان قلبه لسوف ينفطر كراهية للانسان الافريقي الاسود. الم تر كيف اشار الى الشجار الذي نشب بين مواطنين في السوق الشعبي في الكونغو، حيث ادى هذا النزاع الى مقتل احدهما، وكان النزاع المستميت هذا – حسب رواية الكاتب – حول “دجاجة سوداء”! فان في الاشارة الى الدجاجة، وهي حيوان انثى، لفيها احتقار الى كل شيء انثي. اما الازدراء والاحتقار الحقيقين فيكمنان في سواد لون الدجاجة، وكان كل شيء اسود – انسان افريقي كان ام اي حيوان او “الظلام” – ليس بذي قيمة، ولا يستحق هذا الاقتتال والموت في سبيله، حتى لو كان حقا مسلوبا، او عرضا منتهكا، او معتقدا مدنسا. ولعل استحضار هذا النوع الفاقع من العنصرية في العمل الادبي هو الذي قادنا الى نعته ب”توحش عنصرية” الرجل الابيض في رواية. وقد شاع هذا النمط من العنصرية القميئة في عقابيل حذر وتجريم تجارة الرق عند الغرب في القرن التاسع عشر من الميلاد، واستعاض العنصريون البيض الجدد عن العنصرية المادية باخرى ادبية تمارس في الروايات والقصص والصحافة ودور السينما، وباسلوب سمج وقح لا يفوت على اولي الالباب. وقد وجد اولئك وهؤلاء ديدنهم في الاسترخاص الاثني في قوانين حرية التعبير والنشر.
وان الطابع الشائع لدي روائيي العهد الاستعماري لهو التمحور حول العرق والتباهي بالعنصرية الفضحاء. ولعل الروائي رايدر هقارد كان واحدا من الذين ابدى سلوكا عنصريا متوحشا ضد الانسان غير الابيض، وقد استبصرنا هذا الاطار العرقي الذي ظل اولئك وهؤلاء يتحركون فيه حديثا. الم ترك كيف كتب هقارد في روايته “قصة الاسود الثلاثة” العام 1893م حين قال: “ان الثور لهو الحيوان الاكثر تحملا في العالم، باستثناء الزنجي!” ترى كيف ضاهى الانسان الاسود بالحيوان؟ وكيف اعتبر انه من الامر الطبعي ان يقوم بالاعمال الشاقة، وانه اكثر تحملا في ارتياد المشاق والقيام بالشاق من الاعباء. علينا هنا ان نتوقف مستهجنين ومتنبهين الى البعد الاجتماعي والاطار السياسي اللذان تمكنا هقارد من تمرير هذا العمل واذاعته في الناس: رواسب العنصرية العالقة بالادب والنشر بعد حظر الرق قانونيا كما ابنا انفا. ومع ذلك، استمتعنا بمطالعة بعضا من تاليفاته في ايام الصبا وعند مقتبل الشباب – فعلى سبيل المثال: “مناجم الملك سليمان”، و”الن كواترمين”، و”هي”، سواء اكان ذلك كمقرر اكاديمي او في الاطلاع الذاتي. على اية حال، فازاء هذا الفهم للرابط العضوي بين العنصرية والامبريالية اعتقد بعض من الناس ان العنصرية سبب ازدهار الاستعمار، ولئن ذهب البعض الاخر اعتقادا بان العنصرية اثر من اثار الاستعمار، ووسيلة من وسائل ابتكار السلطة والاحتفاظ بها، وغاية طبيعية للامبراطورية البريطانية، وكانت عاملا رائسا لاستقرارها النسبي. والشيء نفسه ينطبق على الاستعمار الفرنسي والبلجيكي والالماني في عمر الاخير القصير في افريقيا وحكايات الرعب والفزع والموت والدمار التي خلفها.
فقد حاولنا جاهدين – غير مجاهدين – الغوص في سيكلوجية العنصريين القدامى والجدد معا لنبحث عن سر كل هذه الكراهية للاخر المختلف، فوجدنا ان العنصريين يكرهون انفسهم قبل الاخر، وتبدو هذه الكراهية بشكلها المقيت المستميت حين تقع اعينهم على الذين يشاركونهم الشبه والملامح على الاقل – او في الحامض النووي في اغلب الاحايين – لا في التفكير والتامل في الاشياء. فبدلا من التخلص من انفسهم عن طريق الانتحار، او اية وسيلة اخرى من وسائل هلك النفس الامارة بالسوء، يتجابنون ويقدمون على ابادة الاخر، والتلذذ بهذه الابادة، ويسدرون في البغي والعدوان، ويرتكبون الجرائم العظام ضد الانسانية، ثم لتجدنهم يعجنون شيئا من حقدهم على الاغيار. فلنرى – على سبيل المثال – قادة النازية وبغضهم للاخر، وبخاصة اليهود والسود والمعاقين واخوة يهواه وغيرهم. اذ قسم النازيون في المانيا الانسانية الى مجموعتين: الاريون (عرق اهل الشمال)، والذين اعتبروهم سيد الاعراق البشرية، والاخر الذي اعتبروه من جنس العبيد، وكانت نظرية العرق هي اساس هذا التصنيف، وزعموا ان الالمان هم الاريين، وخلقوا لكي يحكموا العالم، ويتسيدوا على الاخرين. ويتميز العنصر الاري المثالي بطول القامة، واشقرار الشعر، والوسامة في الطلعة. ولعل اغرب ما في هذه المسالة ان قلة قليلة من قادة النازيين انفسهم حملوا هذه الصفات المثالية حسب اعتقادهم وظنهم. فالدكتور جون قوبيلز، وزير الدعاية النازية، قزما كان، ثم كان لونه داكنا واعرجا. وكان هيرمان قورينغ اشقر الشعر، ومع ذلك كان بدينا شحيما وقد امتلا لحما وشحما، اما رودلف هيس – الرجل الثاني في القيادة بعد ادولف هتلر – فقد كان لونه داكنا، وكان ملقبا ب”المصري”، وكانت ملامح جوليوس سترايتشر – مبيد اليهود – يهودية، ثم كان شعر ادولف هتلر اسودا.(5) وبرغم من ذلك كله، لم تكن تقلق هذه التناقضات القادة النازيين ابدا.
على اية حال، بقي لنا ان نقول من نافلة القول ان جوزيف كونراد في رواياته ظل يغوص في حكايات المجتمع، بواقعيتها وغرائبيتها، وتعمق في وصف المشاعر البشرية، والجشع البشري الذي يسبر اغوار طريقة عمل الدوافع الانسانية: هي – باختصار شديد – رحلة في النفس البشرية ضمن اطار بيئة هذه النفس. فلم يبتعد كونراد في جوهر مواضيعه عن الانسان وهمومه، ولكن – بالطبع – بطريقته “الكونرادية” واسلوبه “الكونرادي”. هكذا نجد ان كونراد كان قد خاطب مجموعة من القضايا التي كان يعاني منها العالم المرجعي الذي تحيل اليه رواياته، وتمتح منه حكاياتها؛ الا وهو المجتمع الانساني. اذا، فان رواية “قلب الظلام” بشخصياتها واحداثها، التي تبدو احيانا متشابكة، وفي احايين اخرى متداخلة، لهي رحلة في ثنايا الحياة، وايضا في فكر كونراد ذاته. هذه هي السمات التي اصطبغت رواياته، والتي صنعت له شهرة عالمية ظل ينعم بها حتى رحيله عن الدنيا العام 1924م.

المصادر والاحالات

(1) Peters, J G, The Cambridge Introduction to Joseph Conrad; Cambridge University Press: Cambridge, 2006.
(2) انظر الدكتور عمر مصطفى شركيان، النوبة في السودان.. نضال شعب في سبيل العدالة والمشاركة في السلطة، دار الحكمة، لندن، 2006م. كذلك انظر
March, Z and Kingsnorth, G W, An Introduction to the History of East Africa; Cambridge University Press: Cambridge, 1965; Moorehead, A, The White Nile; Penguin Books Ltd: Harmondsworth, 1960; and Hazell, A, The Last Slave Market: Dr John Kirk and the Struggle to End the African Slave Trade; Constable and Robinson Ltd: London, 2024.
(3) في روايته “انا احيا” (1957م) سلكت ليلي البعلبكي شكل البناء الروائي المجسد للعلائق والخطابات والقيم للتعبير عن الفردية وفروقها. اما في رواية الكاتبة السورية سلوى النعيمي “شبه الجزيرة العربية” (2024م) فيمكن تصنيف نصها ضمن التخييل الذاتي المتحرر من الحبكة والمعتمد على بنية مفتوحة، والذي يسمح بالانطلاق من الذات وتجاربها، سواء اكانت معيشة ام متخيلة، وهو ما يتيح للكاتبة ان تبتدع حكاياتها من دون تقيد بواقع او معيش. غير ان الروائي العراقي محمود سعيد قد اعتمد في روايته “نطة الضفدع” (2024م) طريقة السرد التتابعي ذي الملامح الزمنية “الكرونولوجية”. وفي رواية “مزرعة الجنرالات” (2024م) للروائي المصري عبد النبي فرج لم نكن امام رواية تتبع في بنيتها الزمن الخطي المتتابع، او تتكئ على حدث مركزي تتفرع عنه خطوط اخرى، ولكننا امام جملة من المقاطع السردية التي تحاول ان تصنع تاريخا موازيا للقهر، والسلطة عبر تعريتها وكشفها. وفي روايته “وشم وحيد” (2024م) للروائي المصري سعد القرش تنهض بنية السرد على توظيف المرويات التراثية، وتضفيرها في المسار السردي للرواية، وتعتمد البنية السردية ايضا على الية التوالد الحكائي، حيث تتناسل الحكايات بعضها من بعض، وتتفرع موصولة جميعها بافق تخييلي

  • تلخيص رواية قلب الضلام
  • ملخص رواية قلب الظلام
  • ملخص رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد
  • تلخص رواية قلب الظلام لجوزيف
  • رواية قلب الظلام العنصريه
  • تلخيص قصة قلب الضلام
  • ملخص رواية قلب الظلاب
  • ملخص كتاب قلب الظلام
  • مقال قصير عن قلب الظلام
  • تحليل شخصيات رواية قلب الظلام
السابق
لحم الشاورما غنم
التالي
مرض السكر و اليدين