افضل مواضيع جميلة بالصور

في مجلس الشعب (الفصل الثالث) نبيل فاروق

على عكس المتوقع، خيم صمت عجيب على قاعة مجلس الشعب، والكل يترقب عودة رئيس المجلس والدكتورة (نهير)؛ لحسم ذلك الامر، الذى لم يحدث مثله قط، ربما فى تاريخ المجالس النيابية كلها..

كان كل نائب – تقريبا – يفكر فى تداعيات الموقف، وتاثيره على الحياة النيابية، وما يمكن ان يؤدى اليه من تطورات، امنية وسياسية، يمكن ان تربك كل خططه المستقبلية، او الادهى، الىمنح الرئيس مبررا مناسبا؛ لحل المجلس، واجراء انتخابات جديدة، تتفادى خلالها الحكومة، ما اسفر فى السابقة، من زيادة نسبة التيارات المعارضة، اكثر مما ينبغى، اواكثر مما يحتمل الحزب الحاكم..

نائب واحد فقط، كان يفكر فى الموقف كله، على نحو مختلف ..

نائب واحد، كان يعيد دراسة الامر باكمله  منذ البداية ..

لقد كان شديد الحرص، فى تنفيذ خطته الدقيقة ..

راقب النائب (مازن) طويلا، عبر عدد من الجلسات، ودرس نمطه، واسلوبه، ولاحظ الاقراص التى يتناولها، كلما اكتنفه انفعال ما، اثناء الاستجوابات، بل ونجح فى سرقة احد تلك الاقراص، واختبر تاثير مزجه بقرص من الفياجرا، على احد كلابه، وشاهد الكلب ينهار، ويسقط صريعا امامه، وايقن من نجاح الخطة..

ووسط الهرج والمرج، لم يكن من العسير عليه ان يدس حبوب الفياجرا المسحوقة، فى علبة المياه الغازية…

وبكل الشغف، شاهد (مازن) يتناولها..

ويسقط..

ويموت..

وكان من الممكن ان يمضى الامر، دون ان ينتبه اليه احد، او يشك فى امره شخص واحد، وان تعتبر الوفاة عرضية، وتتم الاجراءات فى سرعة ويسر، ودون الكثير من التدقيق؛ احتراما لمكانة النائب ..

لولا وجود (نهير)..

احنقه كثيرا ان تذكرها، واستعاد ما فعلته، وكيف كشفت خطته كلها فى ساعة واحدة، وراجع كل الاحتياطات التى اتخذها جيدا، عندما دس المسحوق فى علبته هو، ثم استبدلها بعلبة (مازن)، اثناء انشغال الكل بالشجار، وكيف استعادها بعد سقوط هذا الاخير، ومسح ما عليها من بصمات، وهو يمسكها بمنديله، الذى اخفاه فى راحة يده، واعادها فى سرعة، دون ان ينتبه اليه احد..

لقد نفذ خطته بمهارة فائقة، وارتكب جريمته بكل الدقة، ولكن تلك الطبيبة كانت له بالمرصاد..

ولكن هذا لا يعنى ان امره سينكشف، وهو ما يثق فيه تماما..

فى نفس الوقت، الذى دارت فيه كل هذه الافكار فى راسه، كان رئيس المجلس يواجه (نهير)فى مكتبه، قائلا فى صرامة:

– ما تطلبينه يتجاوز كل منطق يا دكتورة، وكل الاعراف والتقاليد، والنظم القانونية ايضا.

قالت (نهير) فى اهتمام مشوب بالانفعال:

– ولكنها الوسيلة الوحيدة يا سيادة الرئيس.. القاتل اتخذ كل الاحتياطات، ولكنه لم ينتبه حتما الى هذه النقطة.

قال فى حدة:

– ولكننى لا استطيع ان اطلب من النواب هذا.

قالت منفعلة:

– ولماذا يرفضون؟!.. القاتل وحده سيجد هذا تجاوزا؛ لانه قد يكشف امره.

ضرب رئيس المجلس سطح مكتبه براحته، قائلا فى حسم:

– لن اناقش هذا الامر.. قلت: اننى لا استطيع مطالبة النواب المحترمين بهذا.. ابحثى عن وسيلة اخرى.

هتفت معترضة:

– ولكن هذا سيحسم ال….

قاطعها بمنتهى الصرامة، مكررا:

– ابحثى عن وسيلة اخرى.

نطقها، واندفع مرة اخرى خارج مكتبه، تاركا اياها خلفه، بصحبة رجل الامن الذى عاد يراقبها بنظرة حذرة، تحمل مزيجا من التحفز والشك، فشعرت بكثير من الياس والاحباط، وجلست تتصفح ذهنها، بحثا عن وسيلة اخرى، بخلاف تلك التى رفضها رئيس المجلس فى اصرار..

وبحكم مهنتها، راحت تفكر فى وسيلة علمية، بعد ان ايقنت من ان القاتل قد محا البصمات تماما، ومحا معها كل اثر لحامضه النووى..

وبحكم مهنتها ايضا، كانت تدرك ان الجريمة الكاملة امر مستحيل!..

اى قاتل، مهما بلغت براعته ودقته، يرتكب حتما ولو خطا واحد..

خطا يوقعه حتما، فى قبضة العدالة..

انها حكمة الله – عز وجل – الا يفلت اى مجرم من العقاب، مهما طال به الزمن، ومهما ارتفع به المقام فى الدنيا..

ولكن السؤال هو: اين ذلك الخطا؟!..

اين الثغرة، التى لم ينتبه اليها القاتل، والتى ستكشف امره حتما، لو انتبهت هى اليها؟!.. اين؟!.. اين؟!..

فى غمرة توترها وياسها، استعاد ذهنها نفس المشهد، الذى اثار انتباهها منذ البداية..

مشهد النواب، وهم يتزاحمون حول جثة النائب (مازن)، فور سقوطه..

كلهم كانوا يتحركون فى توتر وانفعال..

فيما عدا واحد..

واحد فقط، كان يبدو عليه الترقب، باكثر مما يبدو عليه القلق..

ووحده كان ثابتا فى مكانه، وعيناه تنظران الى اسفل، وليس الى الامام كما يفترض..

لم يلق نظرة واحدة على جثة زميله النائب، بقدر ما كان يتابع شيئا ما، على الارض..

ولانها فحصت جيدا تلك الورقة، التى كانت تحوى بقايا اقراص الفياجرا المسحوقة، فهى تعلم انه كان يزيحها بقدمه، فى تلك اللحظة..

وهذا يعنى انها ستعثر على ذرة او ذرتين، من سترات السيلدينافيل، فى جانب حذائه او طرفه..

ولكن رئيس المجلس يرفض تماما ان يخلع النواب احذيتهم، ايا كان السبب. انه يرى، من وجهة نظره، ان فى هذا اهانة للنواب، على الرغم من انها تتصور، ان الاهانة الحقيقية، هى الا تتحقق العدالة فى مجلسهم، لاية اعتبارات كانت!!..

وربما هذه وجهة نظرها؛ لانها ليست من العاملين فى السياسة، او لان السياسة فى بلدنا(الديمقراطى)، لا تسير على النهج نفسه، الذى تسير به فى البلاد الاخرى، التى تبحث عن العدالة، حتى لو طالت الجريمة اكبر رموزها..

السياسة لدينا لها محاذير، ومعايير، وتحفظات، وانياب ومخالب شرسة، حادة، قاسية، لا تعرف الشفقة او الرحمة..

جلست على اقرب مقعد اليها، ودفنت وجهها بين كفيها، وقاومت بشدة رغبتها فى البكاء، من شدة احساسها بالقهر والياس، واستعادت فى ذهنا كلمات مساعدها (عزت)، وهو يؤكد انها قد ورطت نفسها فى امر يفوق قدراتها..

لم تكن تدرك – عندئذ – كم هى معقدة ومرهقة دهاليز السياسة..

لم تكن تعلم ان الامر يفوق قدراتها بالفعل..

الف مرة..

تراقصت دمعة فى مقلتيها، وقاومت للفرار من عينيها، فازدردت لعابها، عبر حلقها الجاف فى صعوبة، فى محاولة لمنعها، الا انها هزمتها، وانسالت على وجنتيها، فاسرعت تمسحها، وهى تقول لرجل الامن، الذى لم يرفع عينيه عنها، فى عصبية واضحة:

– الديك حل ما؟!

ظلت ملامحه جامدة قاسية، وان اطل تساؤل حائر من عينيه لحظة، تحول بعدها الى صرامة غاضبة، وهو يرفع يده بحركة الية، ليضغط سماعة الاتصال الصغيرة فى اذنه، وكانما يرهف سمعه؛ ليفهم معنى ما قالته، فلوحت بيدها، قائلة:

– لا باس.. انها مشكلتى انا.

فى نفس اللحظة، التى نطقت فيها عبارتها، كان النائب الهامس يقدم عريضة كبيرة، متخمة بالتوقيعات لرئيس المجلس، وهو يقول، فى حدة لم يستطع كتمانها فى اعماقه:

– اغلبية الاعضاء يطلبون انهاء هذه المهزلة، التى تجاوزت كل حدودها.

انعقد حاجبا رئيس المجلس فى صرامة، وقال فى قوة:

– ما يحدث ليس مهزلة، يا سيادة النائب المحترم.. انها جريمة قتل، والرئيس نفسه لن يرضى بمرورها دون تحقيق حاسم وحازم.

قال النائب، فى عصبية واضحة:

– حرصا على هيبة المجلس، كان ينبغى ان تتولى التحقيق هيئة قضائية، على ارفع..

قاطعه رئيس المجلس، فى صرامة بالغة:

– وهل درس النواب المحترمون، تداعيات مطلبهم هذا؟!.. هل حسبوا احتمالات تسرب الخبر، الى الصحافة والاعلام، مع وجود هيئة تحقيق كاملة؟!.. هل فكروا فى اثر نشر هذا، على نظرة فخامة الرئيس للمجلس، وثقته فيه؟!

امتقع وجه النائب الهامس، وهو يقول فى صوت منخفض، وكانما يخشى ان يتسرب صوته الى الرئيس نفسه:

– هل.. هل تشير سيادتك الى حل المجلس؟!

اوما رئيس المجلس براسه ايجابا، دون ان تختفى انعقادة حاجبيه الصارمة، فاعتدل النائب، وتضاعف امتقاع وجهه، وهو يتمتم:

– انت على حق.. شكرا سيادة الرئيس.. شكرا.

تمتم بالكلمات، وهو يسرع عائدا الى مقعده، ويطوى العريضة، ويدسها فى جيبه، مدركا ان حل المجلس قد يؤدى الى انعدام فرصته فى دخوله مرة ثانية، او الى اضطراره خوض انتخابات مبكرة، قبل ان تبرد نيران ما انفقه فى السابقة، اما رئيس المجلس فواصل متابعة الموقف بنظرته الصارمة بضع لحظات، قبل ان يستدير، عائدا الى مكتبه، واندفع داخله بحركة حادة، قائلا بكل صرامة:

– هل توصلت الى امر ما؟!

انتفضت الدكتورة (نهير) فى عنف مع المفاجاة، وهتفت بصوت مرتفع، اكثر مما ينبغى، من فرط انفعالها:

– ليس.. ليس بعد.

رمقها رئيس المجلس بنظرة اكثر صرامة، وقال فى حدة:

– فى هذه الحالة، ليس امامى سوى حسم الامر تماما، مهما كانت النتائج.

هتفت فى ارتياع:

– هل تعنى ما اخشاه؟!

تجاهل سؤالها تماما، وهو يتابع بنفس الحدة:

– ساختم الجلسة، واسمح للنواب بالانصراف.

شحب وجهها، وهى تقول مذعورة:

– هذا يعنى ان القاتل سيفلت بجريمته.

قال رئيس المجلس فى غضب:

– لا تنسى انك تتحدثين عن نواب محترمين.

تلاشى شحوبها، وهى تهتف:

– واحدهم قاتل.

لوح بذراعه كله فى حدة، وهو يقول:

– ما زال نائبا.

تراجعت محتقنة الوجه، ومتمتمة:

– لم اتصور ان الامور تسير على هذا النحو.

اجابها فى صرامة قاسية، اشبه بالزمجرة:

– امور عديدة لا تتصورينها.

هزت راسها، وقلبت كفيها فى ياس، وهى تقول:

– فى هذه الحالة، لا املك اى حل.

بدت نظرته شديدة الغضب والحدة، وهو يتجه الى مكتبه، ويجلس خلفه، قائلا:

– اذن فقد اضعت وقت المجلس دون طائل.

هتفت معترضة:

– كان لدى حل منطقى، ولكنك..

قاطعها فى خشونة عنيفة:

– هل ستكررين هذا طوال الوقت؟!

تراجعت فى عصبية، وزفرت على نحو ملتهب، قبل ان تقول، وهى تشيح بوجهها:

– وهل ينبغى ان اعتذر مثلا؟!

مع اشاحتها بوجهها، ارتطم بصرها بوجه حارس الامن الجاف، وملامحه التى لا تحمل اى انفعال، ولاحظت انه يغلق كل ازرار سترته فى احكام، على عكس المعتاد، وتساءلت عما اذا كان هذا بسبب برودة جو الحجرة، مع جهاز التكييف القوى، ام..

“ولم لا؟!..”..

قطع رئيس المجلس افكارها، بعبارته الصارمة، فالتفتت اليه بوجه شاحب، ليتابع فى غلظة:

– الاعتذار امر واجب، فى مثل هذه الظروف؛ ما دمت قد اهدرت وقت المجلس، دون التوصل الى القاتل، او…

جاء دورها لتقاطعه، وهى تقول فى انفعال:

–                           لو ان الاعتذار امر واجب عند الخطا، فلماذا لم نسمع مسئولا واحدا يعتذر للشعب، مخما كانت فداحة الخطا، الذى ارتكبه فى حقه ؟!..

اتسعت عينا رئيس مجلس الشعب، وهو يكاد يلتهمها بنظرة غاضبة مستنكرة، مستهجنة، فاضافت فى عصية اكثر.

–                           مشكلة السادة والعبيد مرة اخرى.

راته يعقد حاجبيه، فى غضب هادر هذه المرة، فاستدركت فى سرعة؛ لتدير حافة الحديث، نحو وجهة اخرى:

-المشكلة اننى توصلت اليه.

ارتفع حاجبا رئيس المجلس فى دهشة، على الرغم منه، وندت من حارس الامن حركة متوترة، قبل ان يهتف الاول:

– توصلت اليه؟!

اجابته (نهير)، وهى تشعر بالاختناق، من فرط الاحساس بالعجز، والياس والقهر:

– نعم.. توصلت اليه، ولكننى لا املك الدليل على ادانته.

صمتت لحظة، ثم استدركت، فى حنق واضح:

– الدليل العلمى.

بدا صوت رئيس المجلس خافتا، وكانما يحمل بواطن رغبته، فى سؤالها عن هوية القاتل، وهو يقول:

– لن تطلبى منى ان اخلع حذائه مرة اخرى.

اجابته فى حنق اكثر:

– لو اننى فى مكانك لفعلت.

ندت حركة متوترة اخرى من رجل الامن، فالتفتت اليه بحركة حادة، ونظرت بحركة الية الى سترته، التى بدا يحل ازرارها فى عصبية، وكانما يتاهب لسحب سلاحه، و…

وفجاة، تداعت عدة امور مترابطة فى ذهنها..

ثم توقفت عند امر واحد..

سترته..

وبنظرة حادة قوية، حدقت فى سترة رجل الامن، الذى تضاعف توتره، وسحب مسدسه بالفعل، ورئيس المجلس يفقد قدرته على التماسك، ويسالها فى لهفة، غلفها باطار صارم:

– من ارتكب هذه الجريمة؟!.. من ؟!.

استدارت اليه بحركة حادة، مجيبة فى انفعال:

– السترة.

سالها فى دهشة حذرة:

– اية سترة؟!

اجابته، وقد بلغ انفعالها مبلغه:

– سترة القاتل..

لم تمض دقائق خمس على عبارتها، حتى كانت تدلف مرة اخرى، مع رئيس المجلس الى القاعة، وتتطلع بتوترها المعهود الى كل من بها، وهى تؤكد فى اعماق نفسها، انها لن تعتاد هذا المشهد قط، مع طبيعتها المتحفظة، المائلة الى العزلة، ولقد تضاعف توترها عدة مرات، عندما اشار اليها الرئيس باعتلاء المنصة السفلية، واستقر هو على العليا، وجال ببصره فى النواب بنظرة صارمة، الجمت السنتهم جميعا، فران على المكان صمت مهيب، قطعه هو بقوله:

– حانت لحظة حسم الامر ..

لثانية او ثانيتين، تواصل ذلك الصمت المهيب فى القاعة، والعيون كلها تتطلع اليه، والى الدكتورة (نهير)، التى تنحنحت فى عصبية، وحاولت عبثا ان تشيح بوجهها، بعيدا عن العيون المتربصة، التى بدت وكانها تملا كل ركن من القاعة، فيما عدا السقف، الذى رفعت عينيها اليه، فى نفس اللحظة التى تفجرت فيها موجة من الهمهمة فى القاعة، على نحو عنيف..

كان الكل يتحدثون فى ان واحد تقريبا، فيما عدا واحد ..

القاتل الحقيقى..

وحده تراجع فى مقعده، فى مزيج من العصبية والتوتر والترقب والحذر، وعيناه مثبتتان على وجه الدكتورة (نهير)، وعقله منطلق، يستعيد مرة اخرى كل التفاصيل، ويتساءل عما اذا كان قد ارتكب خطا ما ..

وفى صرامة، اخفت لمحة انفعال، اشار رئيس المجلس الى (نهير)، قائلا:

– اخبريهم بالامر.

لم يعد هناك من مفر اذن!…

انها مضطرة لان تخفض بصرها، وتواجه هذا الجمع الكبير، من مختلف المشارب، والذى يمثل اغلبية (دائمة)، من اعضاء الحزب الحاكم، الذين يربحون كل جولة انتخابية (اجباريا)، وعدد متناثر من المستقلين، والاسلاميين، والمنتمين الى احزاب اخرى، ما زالت تحلم(عبثا) بتبادل الادوار، وما زالت تصدق (سذاجة)، وعود الحزب الحاكم وحكومته، بديمقراطية نزيهة زاهية ..

وفى بطء، اعتدلت تواجه الجميع، حكومة ومعارضة، قبل ان تتنحنح فى قوة، وتقول بصوت مبحوح:

– لقد كشفنا القاتل.

تعالت الهمهمة مرة اخرى، ومعظم الموجودين يتساءل عما قالته، فكررت عبارتها بصوت اقوى، ارادته واثقا، الا انه خرج، على الرغم منها، مرتجفا متوترا، وهى تقول:

– كشفنا النائب القاتل.

ثم غاص عنقها بين كتفيها، واختلست نظرة الى رئيس المجلس، متمتمة:

– سيادة النائب القاتل.

خفتت الهمهمات لسبب ما، وتعلقت بها كل العيون، وغلب التساؤل والفضول الجميع، فران عليهم تدريجيا صمت عميق، جعلها تتنحنح مرة اخرى، وتقول متابعة فى حذر:

– كنت اعلم منذ البداية، ان الحل كله يكمن فى تلك الاقراص المسحوقة، وكنت اتصور اننى ساعثر على الدليل، فى حذاء القاتل، عندما تخلص من الورقة، التى وضع بها المسحوق، وازاحها بقدمه بعيدا عنه، ثم نبهنى شئ ما الى حقيقة اخرى.

تالقت عيناها، وشملها حماس، جعلها ترفع صوتها دون ان تدرى، وهى تتابع:

– فالقاتل احضر المسحوق الى هنا فى جيبه حتما، وفى جيب سترته بالتحديد؛ لانه لن يضعه فى حقيبته، خشية ان يلاحظه احد، وهو يفتحها ويلتقطه، ولن يضعه فى جيب سرواله؛ لان هذا يستلزم منه النهوض قليلا، او الاعتدال على نحو ملحوظ، وهو يخرجه، وسينبه الجالس الى جواره الى الامر على الاقل، اما لو وضعه فى جيب سترته، فسيتيح له هذا التقاطه، ودسه فى علبة المياه الغازية الخاصة به خفية، ثم لن يكون عليه بعدها، سوى ان يستبدل علبته بعلبة النائب (مازن)، وينتظر حتى يشرب مسحوق سترات السيلدينافيل، ويدفعه الى الانفعال، حتى يتناول قرص النترات، ويحدث التفاعل المطلوب، و…

لم تحاول اتمام عبارتها، ولكن النظرة التى ارتسمت فى كل العيون، انباتها بما دار فى الاذهان، مما شجعها على ان تواصل، قائلة، فى حماس اكثر:

– لهذا مسح القاتل كل البصمات عن العلبة، بعد سقوط القتيل؛ لانه كان يعلم ان بصماته ستملا كل مكان منها.

قال النائب المتشاجر فى توتر:

– ما هذا بالضبط؟!.. اهى جلسة من جلسات المجلس، ام واحدة من حلقات شيرلوك هولمز البوليسية؟!.. لسنا هنا لنسمع استنتاجات امراة ما…

قاطعته (نهير) فى حزم:

– ليست استنتاجات يا سيادة النائب، ولكنها  حقيقة علمية، مع فحص جيب سترة القاتل، الذى سيحوى حتما ذرات من مسحوق الفياجرا؛ فمع ازدحام النواب حول النائب الصريع، قد نجد الذرات فى اكثر من حذاء، ولكنها فى جيب واحد فقط.

تراجع المتشاجر فى توتر، عندما ادارت عينيها فى وجوه الجميع، ثم بلغ حماسها وانفعالها ذروته، وهى تهتف، مشيرة الى احدهم:

– انت يا سيدى.

اتسعت عينا النائب النحيل، وانتفض على مقعده، وهو يهتف:

– انا.

اجابته فى حزم، وكانما زالت كل توتراتها ومخاوفها من المكان دفعة واحدة:

– نعم.. انت.. وحدك كنت تجلس الى جوار النائب (مازن)، وتملك الفرصة لتنفيذ الجريمة، بالاسلوب الذى وصفته، وانت من اعتاد معارضته واستفزازه فى كل استجواب، كما سيتفق معى الكل، ولو سلمتنا سترتك الان، ستثبت ذرات المسحوق فى جيبها ما اقول.

استدارت الوجوه كلها الى النائب النحيل، فى ذهول مستنكر، جعله ينكمش فى مقعده على نحو مثير للشفقة، ثم لم يلبث ان ضم سترته اليه فى شحوب شديد، وهو يتمتم بصوت منخفض مرتجف، وعصبية اشبه باعتراف صريح:

– اننى.. اننى امتلك حصانة.

وران بعدها صمت اخر على القاعة..

صمت ثقيل كالجبال.. او اكثر ثقلا..

ولم تنس (نهير) عبارته هذه ابدا..

لم تنسها، وهى تتابع الصحف يوميا فى شغف، بحثا عن خبر ولو صغير، دون ان تجد اشارة واحدة للتجربة الرهيبة، التى عاشتها  بنفسها هناك … فى مجلس الشعب..

فقط، حملت الصحف نبا وفاة النائب المحترم (مازن)، بسكتة قلبية، اثناء حضور واحدة من الجلسات الهامة، فى قاعة المجلس، وتعازى الكل لاسرته، والتى احتلت صفحة وفيلت كاملة ..

اما النائب النحيل، فقد غادر البلاد فى اليوم التالى، لحضور مؤتمر وهمى، وتم اتهامه بفساد مالى، واعلنت التهمة بعد ساعين، من وصول طائرته الى دولة اوروبية، لم توقع اتفاقية تبادل مجرمين مع مصر، وما زال طلب رفع الحصانة عنه مقدما، من احد نواب المعارضة، ولم يتم حسمه بعد،  داخل المجلس … او خارجه..

لم تنس (نهير) عبارته ابدا؛ لانها جعلتها تتلقى اخيرا درسا كبيرا وخطيرا..

فى السياسة.

(تمت بحمد الله)

 

 

  • درس عن مجلس النواب لصف الثالث
السابق
فصيلة الدم a موجب
التالي
ملابس العيد