المقدمة
ان الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا، من يهده الله فلا مصل له، ومن يضلله فلا هادي له.
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبده ورسوله.
(يا ايها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون) [ال عمران 107] (يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا) [النساء 1] (يا ايها الذين امنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم اموالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) [الاحزاب 70، 71] اما بعد:
فان الله سبحانه وتعالى خلق الحياة الدنيا لعمارة الارض، وفقا لشريعته واهتداء بنورها، الى ان يرث الله الارض ومن عليها، وخلق هذا الانسان فيها ليقوم بعمارتها ويستغل ما منحه الله من خيراتها، وما اودع الله فيها من كنوز، وما اكرمه به من بركات السماء، فكانت عمارتها تقتضي وجود هذا الانسان الى ان تقوم الساعة.
ولما كانت مشيئة الله تعالى قد اقتضت ان تكون الاعمار محدودة – بحيث لا يمر في الغالب مائة عام قبل انقضاء الجيل الذي يعيش فيها – فقد كان حفظ النسل واستمراره ضرورة من ضرورات الحياة.
وقد اودع الله في الحيوانات كلها دوافع التناسل، باجتماع ذكورها واناثها، اجتماعا يثمر التوالد، ولولا ذلك لانقطع النسل الحيواني في فترة قصيرة جدا من عمر الحياة الدنيا، وان كان الله قادرا على ايجاد ما شاء من المخلوقات الحيوانية، ليخلف كل نوع مثيله بلا سبب، ولكنه جلت قدرته ربط الاسباب بالمسببات، وجعل المسبب مترتبا على سببه، والنتائج مترتبة على مقدماتها، وان كانت كلها بمشيئته وارادته.
الفرق بين تناسل الانسان وسائر الحيوان
وفرق سبحانه في كيفية التوالد بين الانسان والحيوان، كما فرق بينهما بتكليف الانسان القيام بعبادة الله وتطبيق شريعته، لما منحه من الة صالحة لان تكون مناطا لذلك التكليف، وهي العقل.
فترك الحيوانات تتوالد بما اودع الله فيها من غريزة – وان اختلفت اجناسها في اساليب تلك الكيفية واشباع تلك الغريزة – فكان لكل جنس طريقته في اتصال ذكره بانثاه بحسب ما فطر عليه، دون تغيير، وكان ذلك كافيا في استمرار تناسل جميع اجناس الحيوانات، وقد يتصارع الذكور على انثى واحدة، فاذا غلب عليها احدها، اتجهت بقية الذكور الى انثى غيرها، لا فرق بين ان تكون الانثى اما او اختا او غيرهما للذكور، فالمطلوب لهما جميعا قضاء شهوة مؤقتة فحسب، اما محافظتها على اولادها بعد ولادتها، فتلك فطرة اخرى فطرها الله عليها.
واما الانسان، فهو بخلاف ذلك، فقد كلفه الله تعالى تكليفات محددة، وقيده بنظام معين لحياته، يضبطه بشريعة شرعها له، ومن ذلك اسلوب توالده الذي هو ضرورة لحياته وبقائه، وافضل لتناسله. [فصل الكاتب ما يتعلق بالضرورات الخمس – ومنها حفظ النسل – في كتابه:الاسلام وضرورات الحياة، وقد طبع مرتين _ نشر دار المجتمع في جدة] والمقصد الشرعي الرئيس من تناسل الانسان، ان يقوم بعمارة هذا الكون العمارة الصالحة النافعة، ويحفظها من الفساد، من يسلم نفسه ووجهه في جميع تصرفاته لخالقه، يعبده وحده ولا يشرك به شيئا، ويطبق شريعته ويلتزم بها منهاجا لحياته كلها، ويحكم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شئون حياته، ويجاهد في سبيله لاعلاء رايته في الارض، فلا يقر الشرك به في الارض، ولا الفسق ينتشر فيها، ماكان قادرا على دفع ذلك وازالته، واذا لم يكن قادرا على ذلك في زمن، عبد الله بما يقدر عليه من ذلك، واعد العدة لمقارعة الباطل واهله في زمن تال.
يعادي من عادى الله ورسوله وعباده المؤمنين ودينه الحق وشريعته السمحة، ويوالي الله ورسوله وعباده المؤمنين وشريعته الغراء، فتكون بذلك الامة الاسلامية التي ترضي ربها بامتثال امره واجتناب نهيه، تنفي الخبث من الارض وتطرد عناصر الفساد من صفها، من اجل ان تحيى حياة سعيدة في الدنيا، وتنجو من سخطه واليم عذابه في العقبى، وتنال من الله الثواب الجزيل في جنة الخلد التي يحل الله عليها رضوانه فلا يسخط عليها بعده ابدا.
تتعاون في حياتها على البر والتقوى، ويحرص كل فرد فيها على مجالسة عباد الله الصالحين، والبعد عن رفقاء السوء من الكفار والفاسقين، يتامرون بالمعروف ويزينونه، ويتناهون عن المنكر ويقبحونه، مخالفة لغيرهم من اعداء الله الذين يتامرون بالمنكر ويتناهون عن المعروف، كما قال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمهم الله ان الله عزيز حكيم [التوبة 71] وقال تعالى: المنافقون والمنافقات بعضهم اولياء بعض يامرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون ايديهم نسوا الله فنسيهم ان المنافقين هم الفاسقون [التوبة 67] وبذلك تحقق هذه الامة – بافرادها واسرها ودولها – الولاء والبراء المشروعين.
يوالي بعضهم بعضا، وان تباعدت انسابهم، ويعادون من عادى الله ورسوله وحارب دينه وعباده المؤمنين، ولو كان اقرب المقربين اليه، كما قال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا اباءهم او ابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه اولئك حزب الله الا ان حزب الله هم الغالبون [المجادلة 22]
عناية الاسلام بالاسرة
ولما كانت الاسرة هي نواة الامة واساسها، فقد عني الاسلام بها عناية فائقة، تحفظ كيانها، وتجعلها متماسكة متجانسة، قوية الايمان محكمة البناء، محاطة بقواعد متينة من احكام دينه وادابه، وذلك لا يتاتى الا بزوجين صالحين، يختار كل منهما الاخر على اساس من الدين والتقوى والخلق القويم، وبهما تبدا الاسرة المسلمة الصالحة التي ترضي ربها، باداء الحقوق والقيام بالواجبات، ومن ذلك التنشئة الصالحة على دين الله وطاعته.
الاسرة في اول البعثة النبوية:
عندما نزل القران الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، كان للناس الذين بعث فيهم عادات ومعاملات يتعاطونها فيما بينهم، وكان المسلمون مرتبطين بالمجتمع الجاهلي ارتباطا اسريا واجتماعيا واقتصاديا، وكان من الصعوبة بمكان ان يطلب منهم فك ذلك الارتباط جملة واحدة.
والله تعالى يعلم ما جبلت عليه النفوس، من حب العوائد والتمسك بها والدفاع عنها، ويعلم تعالى ان التكليف بالاحكام الشرعية التي لم يالفها الناس، يحتاج الى تدرج، وان السبيل الى قبولهم ذلك التكليف – سواء كان فعلا لم يالفوه، او ترك فعل قد الفوه – انما يكون بغرس الايمان الصادق القوي بالله في قلوبهم، والايمان برسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته، والايمان باليوم الاخر، وبالتدرج في التشريع، فاذا ما ثبت ذلك في نفوسهم اذعنوا لامر الله ونهيه وانقادوا، فاطاعوا الامر، وتركوا النهي، طمعا في رضا الله تعالى.
ولهذا بدا الاسلام بهذا الاساس، فنزل القران يدعو الناس الى الايمان بالغيب الذي يشمل الايمان بالله تعالى وعبادته، والايمان برسوله وطاعته، وعدم طاعة كل من خالفه، والايمان بالوحي المنزل من عند الله الذي هو منهج حياة البشر، والايمان باليوم الاخر الذي فيه البعث والعرض والجزاء والحساب والثواب والعقاب، ودخول الجنة او النار.
واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الى هذا الاساس، وترك كل ما يخالفه ثلاثة عشر عاما، ولم يكن يدعو الى احكام شرعية اخرى الا القليل منها، مما يعتبر اصولا عامة للاحكام التفصيلية الكثيرة التي شرعت فيما بعد، ومن الاداب والاخلاق العامة التي اتفقت على حسنها الامم، كالصدق والامانة وصلة الارحام.
لذلك كان الناس يتعاملون فيما بينهم بما الفوا واعتادوا من عادات اجتماعية واقتصادية وغيرها.
ومن ذلك الزواج، فكان المسلم يتزوج الكافرة والمشركة، والكافر يتزوج المسلمة الطاهرة، وكانوا يشربون الخمر، وياكلون لحم الميتة، ويتعاملون بالربا، ويتعاطون الميسر، وبقي كثير من تلك العادات والمعاملات على حالها، حتى هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه الى المدينة.
وقد ذكر العلماء ان ذلك من حكمة الله تعالى في انزاله القران منجما على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزله دفعة واحدة، كما قال تعالى: ((وقرانا فرقناه لتقراه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)) [الاسراء (106)] [يراجع كتاب تاريخ التشريع، للشيخ مناع بن خليل القطان، رحمه الله، من صفحة 52الى صفحة 57 الطبعة العاشرة] وقد اشارت عائشة رضي الله عنها الى هذه الحكمة، فقالت: “انما نزل اول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى اذا ثاب الناس الى الاسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل اول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر ابدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا ابدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم، واني لجارية العب: ((بل الساعة موعدهم والساعة ادهى وامر)) وما نزلت سورة البقرة والنساء الا وانا عنده” [البخاري ، رقم 4707]
وهنا في المدينة النبوية، صار للمسلمين ارض يعيشون عليها اعزة، جمع الله فيها كتيبتي الاسلام من المهاجرين و الانصار، فاصبحوا قوة تتولى شئون الدولة الاسلامية الناشئة، ينفذون امر الله.
وبدا القران الكريم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بالاحكام الشرعية في تدرج الى ان اكمل الله دينه الذي ارتضاه لنا.
تحريم زواج المسلم بالكافرة وتحريم زواج الكافر بالمسلمة
ومن تلكم الاحكام التي نزلت، تحريم التناكح بين الملمين والمشركين، فلا يجوز لمسلم ان ينكح مشركة ابتداء، ولا ان يمسكها في عصمته استدامة، كما لا يجوز لمسلمة ان تتزوج كافرا كذلك. قال تعالى: ياايها الذين امنوا اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله اعلم بايمانهن فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن واتوهم ما انفقوا ولا جناح عليكم ان تنكحوهن اذا اتيتموهن اجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسالوا ما انفقتم وليسالوا ما انفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم [الممتحنة: 10] قال القرطبي رحمه الله: “والمراد بالعصمة هنا النكاح، يقول: من كانت له امراة فقد انقطعت عصمتها … وكان الكفار يتزوجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك في هذه الاية” [الجامع لاحكام القران (18/65)] وكان هذا بعد صلح الحديبية [نفس المرجع (18/61)] وقال تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو اعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو اعجبكم اولئك يدعون الى النار والله يدعو الى الجنة والمغفرة باذنه ويبين اياته للناس لعلهم يتذكرون [البقرة 221]
وفي هذا التحريم تحقيق لامرين:
الامر الاول: المفاصلة بين عباد الله المؤمنين واعدائهم الكافرين في تكوين نواة الامة وهي الاسرة، لان النواة الفاسدة تثمر نباتا فاسدا.
الامر الثاني: تاكيد الولاء بين المسلمين وتقويته في اساس الامة، وهي الاسرة.
وقد تواترت نصوص الكتاب والسنة والتطبيق العملي الذي سار عليه السلف الصالح، من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على هذين الامرين.
وقد اتفق العلماء على تحريم زواج المسلمين من غير اهل الكتاب – وهن اليهوديات والنصرانيات – وفي المجوسيات والصابئيات خلاف، وحديث (سنوا بهم [اي المجوس] سنة اهل الكتاب) ضعفه العلماء، ومع ضعفه حملوه على اخذ الجزية منهم، لا على نحاح نسائهم. يراجع نصب الراية (3/170)] قال ابن قدامة رحمه الله: “وسائر الكفار غير اهل الكتاب، كمن عبد ما استحسن من الاصنام والاحجار والشجر والحيوان، فلا خلاف بين اهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم، وذلك لما ذكرنا من الايتين [يعني اية الممتحنة واية البقرة السابقتين] وعدم المعارض لهما.
والمرتدة يحرم نكاحها على اي دين كانت، لانه لم يثبت لها حكم اهل الدين الذي انتقلت اليه في اقرارها عليه، ففي حلها اولى. ” [المغني (7/121)].
واذا خرجت الكتابية عن دينها الى عبادة الاوثان، صار حكمها حكم الوثنية، لا يجوز نكاحها للمسلم، وان ادعت انها من اهل الكتاب، وكذلك اذا الحدت، فانكرت الدين مطلقا، كما هو حال الشيوعيين في هذا العصر.
قال الخرقي رحمه الله: “واذا تزوج كتابية، فانتقلت الى دين اخر من الكفر غير دين اهل الكتاب، اجبرت على الاسلام، فان لم تسلم حتى انقضت عدتها انفسخ نكاحها” [نفس المرجع (7/122)]
واذا لم يجز استدامة نكاحها، فابتداؤه اولى بعدم الجواز.
وينبغي ان يعلم ان المسلمة لا يجوز –ولا يصح- ان ينكحها كافر مطلقا، سواء كان كتابيا او غير كتابي، وعلى ذلك اجماع العلماء في قديم الزمان وحديثه، وبهذا يعلم شناعة ما نقل من فتوى عن بعض من يدعي الاجتهاد في هذا العصر، من جواز بقاء امراة مسلمة تزوجت جهلا بنصراني، بدعوى ان الضرورة اقتضت تلك الفتوى !!!
لكن اذا اسلمت الزوجة، وبقي الزوج على دينه، ثم دخل في الاسلام قبل انتهاء عدتها، فهما على نكاحهما الاول، على الصحيح، وقيل يفسخ نكاحهما بمجرد اسلامه. [راجع المغني لابن قدامة (7/118)]
حكم الزواج بالكتابية.
اما زواج المسلم بالمراة الكتابية – وهي اليهودية والنصرانية فقط، على الصحيح من اقوال العلماء، فالكلام فيه ينحصر في الفصول الثلاثة الاتية:
[وقد راى بعض العلماء، ومنهم ابن حزم رحمه الله، كما في المحلى (9/445) بان حكم المجوسية حكم الكتابية، وهو راي الامام الشوكاني رحمه الله، كما في السيل الجرار (2/252-254). و راجع المغني لابن قدامة رحمه الله (7/130-131)]
الفصل الاول:
حكم
الزواج بالكتابية في دار الاسلام.
تمهيد:
ورد النهي صريحا في نكاح المشركات وعدم حلهن للمسلمين، في اية البقرة: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، واية الممتحنة ولا تمسكوا بعصم الكوافر وظاهر النهي العموم في كل كافرة ومشركة.
وورد الاذن بحل طعام اهل الكتاب ونسائهم للمسلمين، على وجه الخصوص في قوله تعالى: اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم اذا اتيتموهن اجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي اخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين [المائدة: 5]
وعندما نزلت هذه الايات الحاظرة او المبيحة، كانت الارض تنقسم قسمين:
القسم الاول: دار الاسلام التي ترتفع فيها راية الاسلام، ويقام بها هذا الدين، وتنفذ فيها احكام الشيعة.
القسم الثاني: دار الحرب التي بينها وبين المسلمين حرب لا يوقفها الا دخول اهلها في الاسلام، او خضوعهم لنظامه العام ودفع الجزية، مع بقائهم على دينهم، فيكونون بذلك اهل ذمة تدخل ارضهم في دار الاسلام.
ولم يكن المسلمون يسكنون في دار الحرب، لان الله تعالى امرهم بالهجرة منها الى دار الاسلام، ونهاهم عن المقام بين ظهراني المشركين، لا فرق بين اهل مكة – قبل فتحها – وغيرها، والاصل ان الهجرة من بلاد الحرب الى دار الاسلام باقية الى يوم القيامة.
والمقصود من ذكر هذا التمهيد هنا، ان يعلم ان كلام علماء المسلمين في جواز نكاح الكتابية او عدم جوازه، اذا اطلق يراد به نكاحها في دار الاسلام، اما دار الحرب، فانهم يصرحون بذكر حكم الزواج فيها، ولم يكن يدخلها من المسلمين الا الاسير، او التاجر، او الرسول، كما سياتي الكلام على ذلك.
مذاهب العلم في زواج المسلم بالكتابية في دار الاسلام:
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الاسلام:
المذهب الاول: مذهب الجمهور.
ومنهم الائمة الاربعة: وهو جواز نكاح الكتابية في ارض الاسلام، مع الكراهة.
قال السرخسي رحمه الله: “ولا باس ان يتزوج المسلم الحرة، من اهل الكتاب لقوله تعالى: والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب [المائدة 5 المبسوط (4/210)].
[لم اتغرض لحكم الامة الكتابية، لانقراض ذلك في هذا العصر، بخلاف الحرائر] وقال علاء الدين الكاساني رحمه الله: “ويجوز ان ينكح الكتابية لقوله عز وجل: والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ” [بدائع الصنائع (3/1414)].
وقال في تنوير الابصار: “وصح نكاح كتابية” وقال شارحه في الدر المختار: “وان كره تنزيها” [حاشية رد المحتار (3/45)].
وقال في الشرح الصغير على الدردير: “وحرمت الكافرة” اي وطؤها، حرة او امة بنكاح او ملك” الا الحرة الكتابية “فيحل نكاحها”بكره”عند الامام”.
وقال محققه: “وانما حكم مالك بالكراهة في بلد الاسلام، لانها تتغذى بالخمر والخنزير وتغذي ولدها به، وزوجها يقبلها ويضاجعها، وليس له منعها من التغذي ولو تضرر برائحته، ولا من الذهاب الى الكنيسة، وقد تموت وهي حامل، فتدفن في مقبرة الكفار، وهي حفرة من حفر النار ” [الشرح الصغير (2/420) بتحقيق الدكتور كمال وصفي] وقال النووي رحمه الله: “ويحرم نكاح من لا كتاب لها … وتحل كتابية، لكن تكره حربية، وكذا ذمية على الصحيح”. وقال المحشي: [وكذا] ” تكره ذمية على الصحيح” [لما مر من خوف الفتنة] [المنهاج (3/187) وراجع روضة الطالبين (7/135-137)] وقال الخرقي رحمه الله: “وحرائر نساء اهل الكتاب وذبائحهم حلال للمسلمين” وقال ابن قدامة رحمه الله – بعد ان ذكر اقوال العلماء وناقشها: “اذا ثبت هذا فالاولى ان لا يتزوج كتابية” [المغني (7/129)]
وقد استدل الجمهور لما ذهبوا اليه من الجواز بالكتاب والاثر والمعقول:
اما الكتاب، فقوله تعالى: والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم كما مضى، وراوا ان هذه الاية – وهي اية المائدة – اما مخصصة لعموم قوله تعالى في سورة البقرة ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، واما ناسخة لها، لان نزول سورة المائدة متاخر عن نزول سورة البقرة، واما ان لفظ المشركين لا يتناول اهل الكتاب. [راجع في هذا المغني لابن قدامة (7/129) والسيل الجرار (2/252) ومجموع الفتاوى لابن تيمية (22/178) وجامع البيان عن تاويل القران لابن جرير (2/326) والجامع لاحكام القران (3/69)] واما الاثر فما ورد في نكاح الصحابة الكتابيات من اليهوديات والنصرانيات، منهم طلحة بن عبيد الله، وحذيفة بن اليمان، وعثمان بن عفان، رضي الله عنهم. [جامع البيان عن تاويل القران (2/332-376) واحكام القران للجصاص (1/332/336)] واما المعقول، فان الكتابية – وقد امنت -في الجملة- بالله وبعض كتبه واليوم الاخر – وبعض الرسل – قد تميل الى الاسلام اذا عرفت حقيقته، فرجاء اسلامها اقرب من رجاء اسلام الوثنية، كما قال الكاساني: “الا انه يجوز نكاح الكتابية لرجاء اسلامها، لانها امنت بكتب الانبياء والرسل في الجملة، وانما نقضت الجملة بالتفصيل، بناء على انها اخبرت عن الامر على خلاف حقيقته. فالظاهر انها متى نبهت على حقيقة الامر تنبهت، وتاتي بالايمان على التفصيل، على حسب ما كانت اتت به في الجملة، وهذا هو الظاهر من حال التي بني امرها على الدليل دون الهوى والطبع، والزوج يدعوها الى الاسلام وينبهها على حقيقة الامر، فكان في نكاح المسلم اياها رجاء اسلامها، فيجوز نكاحها لهذه العاقبة الحميدة، بخلاف المشركة، فانها في اختيارها الشرك، ما ثبت امرها على الحجة، بل على التقليد بوجود الاباء على ذلك …” [بدائع الصنائع (3/1414)] وقال في حاشية المنهاج للنووي: “وقد يقال باستحباب نكاحها، اذا رجي اسلامها، وقد روي ان عثمان رضي الله عنه، تزوج نصرانية فاسلمت وحسن اسلامها، وقد ذكر القفال ان الحكمة في اباحة الكتابية ما يرجى من ميلها الى دين زوجها، اذ الغالب على النساء الميل الى ازواجهن وايثارهم على الاباء والامهات، ولهذا حرمت المسلمة على المشرك ” [المنهاج مع الحاشية (3/187)]
المذهب الثاني: تحريم الزواج بالكتابية على المسلم في دار الاسلام.
واشتهر هذا المذهب عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال السرخسي رحمه الله: “ولا باس ان يتزوج المسلم الحرة من اهل الكتاب، لقوله تعالى: والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب الاية. وكان ابن عمر لا يجوز ذلك، ويقول: الكتابية مشركة”. [المبسوط (4/210)]
وقال ابن حزم رحمه الله: “وروينا عن ابن عمر تحريم نساء اهل الكتاب جملة، – ثم ساق بسنده عن نافع – ان ابن عمر سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية؟ فقال: ان الله تعالى حرم المشركات على المؤمنين، ولا اعلم من الاشراك شيئا اكثر من ان تقول المراة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله عز وجل” [المحلى (9/445)] ونقل ابن جرير رحمه الله عن امير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ما يدل على عدم صحة نكاح المسلم الكتابية، فقال: “وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر غضبا شديدا، حتى هم بان يسطو عليهما، فقالا: نحن نطلق يا امير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن انتزعهن منكم صغرة قماء “! [يعني صغارا وذلة]
ثم رد ابن جرير رحمه الله ما نقل عن عمر من التفريق بين طلحة وحذيفة وامراتيهما بالاجماع على خلافه، وذكر انه قد نقل عن عمر خلاف ذلك باسناد اصح [جامع البيان (2/376)] كما ذكر ابن جرير رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، يفهم منها انه يقول بالتحريم، فقال: “بل انزلت هذه الاية – يعني اية البقرة – مرادا بها كل مشركة، من اي اصناف الشرك كانت، غير مخصوص منها مشركة دون مشركة، وثنية كانت او مجوسية او كتابية، ولا نسخ منها شيء. – ثم ذكر بسنده عن ابن عباس – يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اصناف النساء، الا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرم كل ذات دين غير الاسلام، و قال الله تعالى: ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله [نفس المرجع]
ومن الذين حرموا نكاح الكتابية الامامية، كما نص على ذلك في متن الازهار، فذكر من المحرمات في النكاح “المخالفة في الملة” وقد اطال الشوكاني رحمه الله في الرد عليهم بمخالفة كتاب الله في ذلك. [راجع السيل الجرار المتدفق على حدائق الازهار (2/252-254) وستاتي ادلة هذا المذهب ومناقشتها في الحلقة الاتية]
ادلة القائلين بتحريم زواج المسلم الكتابية:
استدل القائلون بهذا المذهب بادلة:
الدليل الاول: من القران الكريم.
وفيه ايتان صريحتان في النهي عن زواج المسلم المشركات، والكتابيات مشركات، والنهي عن امساك المسلمين نساءهم الكوافر، وقد كان هذا مسكوتا عنه في اول الاسلام.
الاية الاولى: اية البقرة، وهي قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو اعجبتكم اولئك يدعون الى النار والله يدعو الى الجنة والمغفرة باذنه ويبين اياته للناس لعلهم يتذكرون [البقرة 221] وجه الدلالة من الاية ان الله تعالى نهى عن نكاح كل امراة مشركة، وجعل غاية النهي عن ذلك ايمانهن، والايمان اذا اطلق في القران والسنة هو الايمان الشرعي الذي نزل به القران والسنة، فكل مشركة داخلة في هذا العموم، والكتابيات مشركات، بدليل وصف الله تعالى اهل الكتاب بالشرك، كما في قوله تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بافواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله انى يؤفكون اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا الا ليعبدوا الها واحدا سبحانه وتعالى عما يشركون [التوبة: 30، 31 وراجع كتاب اضواء البيان (1/204-205) لشيخنا العلامة محمد الامين الشنقيطي رحمه الله]
فقد وصف اليهود والنصارى بانهم يشركون به تعالى. وعلى هذا القول تعتبر اية البقرة ناسخة لاية المائدة – على عكس ما ذهب اليه اهل المذهب الاول.
وقد ذكر ابن حيان قولا لابن عباس: “ان اية البقرة هذه عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير دين الاسلام، ونكاحهن حرام، والاية محكمة على هذا ناسخة لاية المائدة، و اية المائدة متقدمة في النزول على هذه الاية في سورة البقرة، وان كانت متاخرة في التلاوة، ويؤيدها قول ابن عمر في الموطا: ولا اعلم شركا اعظم من ان تقول المراة: ربها عيسى …. ” [التفسير الكبير (2/164) وراجع فتح الباري (9/416-417)] ومعنى هذا ان سورة المائدة، وان كانت من اخر سور القران نزولا، فلا يمنع ذلك من ان تكون بعض اياتها متقدمة على بعض ايات سور نزلت قبلها، ومنها سورة البقرة، الا انه يشكل على ذلك عمل عامة الصحابة والتابعين بعدهم بحكم اية المائدة، اذ لو كانت منسوخة لكان عمل عامة المسلمين على خلافها، وهذا بعيد.
ولهذا قال ابن حيان – بعد ذكره ما تقدم: “ويجوز نكاح الكتابيات، قاله جمهور الصحابة والتابعين: عمر وعثمان وجابر وطلحة وحذيفة، وعطاء وابن المسيب والحسن وطاووس وابن جبير والزهري، وبه قال الشافعي، وعامة اهل المدينة والكوفة. قيل اجمع علماء الامصار على جواز تزويج الكتابيات، غير ان مالكا وابن حنبل كرها ذلك مع وجود المسلمات والقدرة على نكاحهن …”
واجيب عن دعوى نسخ الاية باية البقرة بامرين:
الجواب الاول: عدم وجود دليل على تاخر اية البقرة على اية المائدة، ودعوى نسخ اية البقرة باية المائدة اولى، لان سورة المائدة متاخرة عن سورة البقرة باتفاق بين العلماء [راجع مجموع الفتاوى (32/178) وما بعدها، لابن تيمية رحمه الله] وعلى فرض عدم تاخر اية المائدة على اية البقرة، فان الاولى المصير الى الامر الثاني الاتي.
الامر الثاني: ان الجمع بين النصين – اذا امكن – اولى من اعمال احدهما واهمال الاخر، والجمع هنا ممكن، وهو ما ذهب اليه الجمهور من اعتبار اية البقرة عامة تشمل جميع المشركات، بما فيهن الكتابيات، واية المائدة خاصة استثنت الكتابيات من النهي فبقين على الجواز.
الاية الثانية، وهي قوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر [الممتحنة 10] لفظها عام يتناول كل كافرة، فلا تحل كافرة بوجه من الوجوه، ولا عبرة بخصوص سبب نزولها في نساء المسلمين من مشركات مكة، بل العبرة بعموم لفظها.
واجيب عنها بما اجيب به عن سورة البقرة، بان الكتابيات مستثنيات باية المائدة، ودل على ذلك عمل الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتابعين. [راجع الجامع لاحكام القران (18/65) للامام القرطبي رحمه الله]
الدليل الثاني على تحريم الزواج بالكتابية:
ما ورد من الاثارعن بعض الصحابة رضي الله عنهم من النهي عن زواج المسلم بالكتابيات، كما مضى عن عمر وابنه عبد الله وابن عباس، رضي الله عنهم. فقد نهى عمر رضي الله عنه طلحة وحذيفة عن امساك امراتيهما الكتابيتين، وغضب غضبا شديدا عليهما بسبب ذلك الزواج، وهم ان يسطو عليهما، وعندما قالا له: نحن نطلق ولا تغضب، قال لهما: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن انتزعهن منكم صغرة قماء، وهذا يدل على ان نكاح الكتابيات باطل من اصله عند عمر.
ونقل ابن جرير عن ابن عباس ما يدل على تحريم نكاح الكتابيات، كغيرهن من الوثنيات.
واما ابن عمر فقد صرح بانه لا يعلم شركا اعظم من قول النصرانية: ربها عيسى وهو عبد الله. فهذه الاثار واضحة في دلالتها على التحريم.
واجاب الجمهور عن هذا الدليل، فقالوا: ان عمر رضي الله عنه، انما كره زواج المسلم بالكتابية، ولم يحرمه، وقد صرح بعدم التحريم عندما امر حذيفة ان يفارق امراته اليهودية، فكتب اليه حذيفة: احرام هي؟ فكتب اليه عمر: لا، ولكن اخاف ان تواقعوا المومسات منهن. [احكام القران (1/333) للجصاص] وذكر ابن جرير رحمه الله عن ابن عباس رواية اخرى، تدل على انه يرى جواز نكاح المسلم الكتابية، فقد روى بسنده عن علي بن ابي طلحة عن ابن عباس قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن: ثم استثنى اهل الكتاب فقال: والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب حل لكم اذا اتيتموهم اجورهن.
وذكر ابن جرير كذلك عن عمر رضي الله عنه القول بالجواز، فروى بسنده عن زيد ابن وهب، قال: قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة. ثم قال – ابن جرير: وانما كره لطلحة وحذيفة – رحمة الله عليهم – نكاح اليهودية والنصرانية، حذرا من ان يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، او لغير ذلك من المعاني، فامرهما بتخليتهما.
ثم روى – ابن جرير – بسنده عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب اليه خل سبيلها، فكتب اليه: اتزعم انها حرام فاخلي سبيلها؟ فقال: لا ازعم انها حرام، ولكن اخاف ان تعاطوا المومسات منهن. [جامع البيان عن تاويل اي القران (2/376-378)] فهذه الروايات تدل على ان غاية ما قصده عمر وابن عباس، هي الكراهة، ولم يريدا التحريم، وبذلك يجمع بين الروايات عنهما.
واما ابن عمر، فقد روي عنه الكراهة، كما روى عنه نافع ان كان لا يرى باسا بطعام اهل الكتاب، وكره نكاح نسائهم، ولما سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية، قال: ان الله حرم المشركات على المسلمين قال: فلا اعلم من الشرك شيئا اكبر – او قال -: اعظم من ان تقول ربها عيسى وهو عبد ممن عباد الله.
قال الجصاص: رحمه الله – بعد ان ساق الروايتين -: فكرهه في الحديث الاول ولم يذكر التحريم، وتلا في الحديث الثاني الاية ولم يقطع فيها بشيء، وانما اخبر ان مذهب النصارى شرك، ثم ذكر عنه رواية اخرى استنبط منها ان ابن عمر رضي الله عنهما كان متوقفا في الحكم، فروى بسنده عن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عمر: انا بارض قوم يخالطنا فيها اهل الكتاب، فننكح نساءهم وناكل طعامهم، قال: فقرا علي اية التحليل و اية التحريم. قال: قلت: اني اقرا ما تقرا، فننكح نساءهم وناكل طعامهم، فاعاد علي اية التحليل واية التحريم. ثم قال الجصاص: قال ابو بكر: عدوله بالجواب بالاباحة والحظر الى تلاوة الاية دليل على انه كان واقفا في الحكم، غير قاطع فيه بشيء.
وما ذكره عنه من الكراهة يدل على انه ليس على وجه التحريم، كما يكره تزويج نساء اهل الحرب من الكتابيات. [احكام القران (1/332-333)] تلك هي الاثار التي استدل بها القائلون بالتحريم، وهذه اجوبة من راى الاباحة.
وبهذا يعلم انه لم يوجد دليل يقوى على معارضة اية المائدة الدالة على الاباحة.
تنبيه:
حمل النحاس كلام ابن عمر على الكراهة التنزيهية، او على التوقف، خلاف ظاهر كلامه، ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وقال ابو عبيد: المسلمون اليوم على الرخصة، وروي عن عمر انه كان يامر بالتنزه عنهن من غير ان يحرمهن، وزعم ابن المرابط تبعا للنحاس وغيره، ان هذا مراد ابن عمر ايضا، لكنه خلاف ظاهر السياق، ولكن الذي احتج به ابن عمر يقتضي تخصيص المنع بمن يشرك من اهل الكتاب، لا من يوحد، وله ان يحمل اية الحل على من لم يبدل دينه منهم ” [فتح الباري (9/416-417)] هذا وقد يستدل مستدل على تحريم زواج المسلم بالكتابية، بالنصوص الدالة على وجوب معاداة المسلمين للكفار وعدم موالاتهم، وبخاصة ما ورد في معاداة اهل الكتاب، كقوله تعالى: يا ايها الذين امنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم اولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين [المائدة: 51]
والموالاة تشمل المحبة والنصرة، والزوج لا بد ان يحب امراته، وقد يميل الى بعض ما تهوى مما لا يقره الاسلام، ولكن الاستدلال بهذا بعيد لامور:
الامر الاول: ان الله تعالى الذي نهى المسلمين عن اتخاذ اليهود والنصارى اولياء، هو الذي احل نساء اهل الكتاب للمسلمين، وهو يعلم تعالى ما يترتب على ذلك، والمؤمن مامور ان يتقي الله ما استطاع.
الامر الثاني: ان محبة الزوج لامراته، هي من نوع المحبة الطبيعية التي لا تدخل في المحبة المنهي عنها، وهي المحبة الدينية اي ان يحبها لدينها واخلاقها وعاداتها التي تخالف سريعة الاسلام، فلا يضره ان يحب امراته المحبة الطبيعية.
وحكم امراته الكتابية التي احلها الله له، كحكم امه وابيه واقاربه المشركين، الذين قال الله تعالى في شانهم: عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين واخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون [الممتحنة 7-9] والبر هو الصلة الدنيوية.
الامر الثالث: ان الاصل في المسلم الذي يتزوج الكتابية، ان يجتهد في دعوتها الى الاسلام، لان من اهم اهداف حلها له، ان يرغبها في الاسلام لتدخل فيه ن كما قال علاء الدين الكاساني “فكان في نكاحه اياها رجاء اسلامها، فيجوز نكاحها لهذه العاقبة الحميدة، بخلاف المشركة.. ” [بدائع الصنائع (3/1414) وراجع حاشية منهاج النووي (3/187)] والخلاصة: ان زواج المسلم بالكتابية التي لم تخرج عن دينها الى الوثنية او الالحاد، جائز مع الكراهة، اذا تزوجها في دار الاسلام – وهي الذمية –
وبهذا يعلم ان الراجح هو مذهب الجمهور لما مضى من الادلة.
وسبب القول بالكراهة خشية تاثير الكتابية على زوجها المسلم واسرته واولاده، بمعتقدها او عاداتها واخلاقها التي تخالف الاسلام.
والله اعلم.
الفصل الثاني:
حكم زواج المسلم
بالكتابية في دار الحرب
تمهيد
الاية التي دلت على جواز زواج المسلم بالكتابية، لم تفرق بين ان يتزوجها في دار الاسلام او في دار الحرب.
ولكن دار الحرب تختلف عن دار الاسلام، بان السيطرة في دار الاسلام للمسلمين الذين هم اهل الحل والعقد، يحكمون بشريعة الله التي انزلها في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتظهر فيها شعائر الاسلام، واحتمال ميل الزوجة الى دين زوجها المسلم وارد، كما ان احترامها لاداب الاسلام، وعدم مجاهرتها بما يخالفها اقرب، ارضاء لزوجها الذي يغيظه مخالفة دينه في الاخلاق وارتكاب المحرمات، وان تساهل فيه مراعاة لمعتقدها الذي تزوجها مع علمه به.
وهذا بخلاف دار الحرب التي تكون الهيمنة والسيطرة فيها للكفار الذين هم اهل الحل والعقد، والحكم فيها انما يكون بقوانينهم التي تخالف الاسلام، كما ان الشعائر الظاهرة فيها هي شعائر الكفر، وليست شعائر الاسلام، والاخلاق السائدة فيها هي اخلاق الكفار.
ولهذا تكون الزوجة الكتابية في بلاد الحرب، اكثر تمسكا بدينها واخلاقها وعاداتها، واقل ميلا الى دين زوجها واخلاقه … بل انه ليخشى على زوجها المسلم ان يتاثر بمحيط الكفر الذي يعيش فيه، ويخشى اكثر على ذريته من التدين بدين امهم التي تربيهم عليه.
ولهذا اختلف العلماء الذين اجازوا زواج المسلم بالكتابية في دار الاسلام، في زواجه بها في دار الحرب.
فقد ذكر القرطبي رحمه الله: ان ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن نكاح اهل الكتاب اذا كانوا حربا؟ فقال: ” لا يحل – وتلا قوله تعالى: وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر الى قوله تعالى وهم صاغرون ” [التوبة 29] قال المتحدث: حدثت بذلك ابراهيم النخعي فاعجبه – يعني ان ابراهيم يقول بالتحريم – وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير. اه [ الجامع لاحكام القران 3/69 ] فمذهب ابن عباس رضي الله عنهما وابراهيم النخعي، تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، ويحتمل ان تكون كراهة الامام مالك رحمه الله لذلك، كراهة تحريم.
وسبب التحريم ان المسلم مامور بقتال الكفار المحاربين، وفي زواجه بالحربية في دار الحرب ركون الى تلك الدار، وداع الى سكناه بها وبقائه فيها، وذلك يعود الى معنى قتاله مع اخوانه المسلمين بالنقض، بل ان في بقائه في دار الحرب مع ذريته، تكثير لسواد الكفار المحاربين على المسلمين.
كما ان امراته الحربية قد تنشئ اولاده وتربيهم على النصرانية وبغض المسلمين، وغير ذلك من المفاسد المترتبة على زواجه بالحربية في دار الحرب.
اقوال العلماء في حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب.
وقد صرحت كتب المذاهب الفقهية بكراهة الزواج بالكتابية في دار الجرب، الا ان بعضهم يفسرون الكراهة بكراهة التحريم، وبعضهم يفسرونها بكراهة التنزيه.
قال السرخسي رحمه الله: “بلغنا عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه، ان سئل عن مناكحة اهل الحرب من اهل الكتاب؟ فكره ذلك، وبه ناخذ، فنقول: يجوز للمسلم ان يتزوج كتابية في دار الحرب، ولكنه يكره، لانه اذا تزوجها ثمة، ربما يختار المقام فيهم وقال صلى الله عليه وسلم: (انا بريء من كل مسلم مع مشرك، لا تراءى ناراهما [رواه ابو داود (3/ 105) ولفظه: (انا بريء من كل مسلم يقيم بين اظهر المشركين) قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: (لا تراءى ناراهما)] ولان فيه تعريض ولده للرق، فربما تحبل فتسبى، فيصير ما في بطنها رقيقا، وان كان مسلما، واذا ولدت تخلق الولد باخلاق الكفار، وفيه بعض الفتنة، فيكره لهذا. ” [المبسوط (5/50) وراجع مجمع الانهر في شرح مرتقى الابحر (1/328) وكتاب السير الكبير (5/1838) للامام محمد بن حسن الشيباني] ورجح الفقيه الحنفي محمد امين المشهور بابن عابدين رحمه الله ان الكراهة هنا كراهة تحريمية، وليست كراهة تنزيه، فقال: “وفيه ان اطلاقهم الكراهة في الحربية يفيد انها تحريمية، والدليل عند المجتهد على ان التعليل يفيد ذلك، ففي الفتح: ويجوز تزوج الكتابيات، والاولى ان لا يفعل … وتكره الكتابية الحربية اجماعا، لافتتاح باب الفتنة، من امكان التعليق المستدعي للمقام معها في دار الحرب، وتعريض الولد على التخلق باخلاق اهل الكفر، وعلى الرق، بان تسبى وهي حبلى، فيولد رقيقا، وان كان مسلما اه. [حاشية رد المحتار على الدر المختار (3/45) وصرح الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الاسلامي وادلته (7/145) ان الحنفية يحرمون الزواج بالحربية في دار الحرب] فقوله: “والاولى الا يفعل” يفيد كراهة التنزيه في غير الحربية، وما بعده يفيد كراهة التحريم في الزواج بالحربية في دار الحرب.
وقال في الشرح الصغير – في المذهب المالكي – ” وتاكد الكره – اي الكراهة – ان تزوجها بدار الحرب، لان لها قوة بها لم تكن بدار الاسلام، فربما ربت ولده على دينها، ولم تبال باطلاع ابيه على ذلك … [الشرح الصغير (2/420)] وقال النووي رحمه الله: “وتحل كتابية، ولكن تكره حربية، وكذا ذمية على الصحيح” وقال في الحاشية: “لكن الحربية اشد كراهة منها” [المنهاج مع حاشيته (2/187)] وقال الخرقي رحمه الله: “ولا يتزوج في ارض العدو، الا ان تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها، ولا يتزوج منهم، ومن اشترى منهم جارية لم يطاها في الفرج، وهو في ارضهم” وقال ابن قدامة – معلقا على ذلك: ” يعني والله اعلم من دخل ارض العدو بامان، فاما ان كان في جيش المسلمين فمباح له ان يتزوج، وقد روي عن سعيد بن ابي هلال انه بلغه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوج ابا بكر اسماء بنت عميس وهم تحت الرايات. اخرجه سعيد، لان الكفار لا يد لهم عليه، فاشبه من في دار الاسلام.
اما الاسير فظاهر كلام احمد انه لا يحل له التزوج ما دام اسيرا، لانه منعه من وطء امراته اذا اسرت معه، مع صحة نكاحهما، وهذا قول الزهري، فانه قال: لا يحل للاسير ان يتزوج ما دام في ارض المشركين ” [المغني (9/292-293)]
وقال ابن القيم رحمه الله: “وانما الذي نص عليه احمد، ما رواه ابنه عبد الله، قال: كره ان يتزوج الرجل في دار الحرب، او يتسرى، من اجل ولده، وقال في رواية اسحاق بن ابراهيم: لا يتزوج ولا يتسرى الاسير، ولا يتسرى بمسلمة، الا ان يخاف على نفسه، فاذا خاف على نفسه لا يطلب الولد …” [احكام اهل الذمة (2/420)] وبهذا يظهر ان مذهب الامام احمد، اكثر صراحة في تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، بل لا يبيح له وطء امته المسلمة او امراته في دار الحرب الا للضرورة، مع توقي انجاب الولد. ويلي مذهب الامام احمد في الصراحة بالتجريم المذهب الحنفي.
اسباب تحريم العلماء زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب.
والذي دعا العلماء الى القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب او كراهته، يتلخص في ثلاثة امور رئيسة:
الامر الاول: الخوف على ذرية المسلم المولودين في دار الحرب.
من ان يربوا على غير دين ابيهم، فيكون بذلك قد غرس لاعداء الاسلام غرسا يكثر به سوادهم، ويخسر بذلك المسلمون الذين هم اولى بتكثير سوادهم، وقد علم ان حفظ النسل ضرورة من ضرورات الحياة التي يجب حفظها وحمايتها.
والمقصد الاساسي من حفظ النسل البشري في الارض، ان يكون النسل محققا لعبادة الله، لان الله تعالى انما خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى ” وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون [ الذاريات 56 ] وبعبادة الله تعالى يعمر الكون عمارة ترضيه، وتحقق للبشرية السعادة في الدنيا والاخرة، والمسلم الذي يلقي نطفته في رحم يعلم او يغلب على ظنه، ان ذريته المتناسلة من ذلك الرحم سيكونون في عداد الكفار الذين يصدون عن دين الله، يكون قد اضاع نسله، ولم يحفظه الحفظ الذي يترتب عليه المقصد الاساسي منه.
ولهذا نص بعض العلماء على ان المسلم لا يتزوج في دار الحرب وان خاف على نفسه. وبعضهم اجاز له ان يتزوج بمسلمة ويعزل عنها ز وبعضهم اجاز له التزوج بالحربية ولا يقصد الولد، ولا يطا جاريته في فرجها. كل ذلك من اجل الخوف على ولده من الكفر.
الامر الثاني: الخوف من اختيار المسلم المقام بين ظهراني الكفار الحربيين، لما في ذلك من المفاسد:
مفاسد الزواج بالكتابية في دار الحرب
المفسدة الاولى: مخالفة الامر بالهجرة الى بلاد الاسلام.
وفي ذلك تعريض المسلم نفسه لعذاب الله وسخطه، واذلال نفسه لعدوه، كما قال تعالى: ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا الم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك ماواهم جهنم وساءت مصيرا الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا
قال القرطبي رحمه الله: “المراد بها جماعة من اهل مكة، كانوا قد اسلموا، واظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الايمان به، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، اقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان امر بدر خرج منهم قوم مع الكفار، فنزلت الاية …” [الجامع لاحكام القران (5/345)] فالمسلم الذي يقيم في بلاد الحرب وهو قادر على الهجرة الى بلاد الاسلام معرض لسخط الله.
المفسدة الثانية: تكثير سواد الكافرين، وتقليل سواد المسلمين.
وفي ذلك تقوية للكفار، واضعاف للمسلمين.
المفسدة الثالثة: تعريض ذريته للكفر، او الاسترقاق، ولو كانوا مسلمين، ذلك ان امراته قد ياسرها المسلمون وهي حامل، فيكون ولدها رقيقا.
المفسدة الرابعة: ما قد يتعرض له المسلم من المنكر.
ومن ذلك تعاطي المحرمات التي قد لا يستطيع الافلات من تعاطيها، ومشاهدة المنكرات الكثيرة التي تجعله يالفها ولا ينكرها قلبه، بل قد يموت قلبه فيرضى بها لكثرتها.
المفسدة الخامسة: ما تمارسه امراته من منكرات.
فقد تمارس انواعا كثيرة من تلك المنكرات، وقد يميل مع طول الوقت والمعايشة، الى كثير من تلك المنكرات المخالفة لدينه، ان سلم من الارتداد عنه.
ومن هنا يبدو رجحان القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، لان زواجه بالكتابية في دار الاسلام مباح مع الكراهة، ومعلوم ان تناول المباح اذا ادى الى مفاسد تفوق المصلحة من تناوله، غلب جانب المفسدة الراجحة فيدخل في الحرام بذلك، ومفاسد نكاح الكتابية في دار الحرب تفوق المصالح المترتبة عليه كما هو واضح مما تقدم، و الله تعالى اعلم
الفصل الثالث:
حكم زواج المسلم بالكتابية
في دار الكفر اليوم
هذا الموضوع هو اصعب موضوعات هذه الرسالة، وسبب صعوبته ان احوال بلدان المسلمين وبلدان الكفر قد تغيرت.
فقد كانت الارض في العصور الاسلامية السابقة، تنقسم الى بلاد اسلام يطبق فيها شرع الله، واهل الحل والعقد فيها هم المسلمون، وترفع بها راية الاسلام، وتبعث منها كتائب الدعوة الى الله والجهاد في سبيله، وبلاد كفر اهلها يحاربون الاسلام، حربا مباشرة، ولا يخرجها عن كونها بلاد حرب، الا المعاهدات التي تعقد بين زعماء المسلمين وزعماء تلك البلدان.
اما الان فان كثيرا من بلدان المسلمين التي كل سكانها او غالبهم مسلمون، قد تربع على كراسي حكمها من يحاربون الاسلام وتطبيق شريعته، اشد من كثير من الكفار الحربيين.
ومن امثلة ذلك بعض الشعوب الاسلامية التي حكمها شيوعيون ملحدون، لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الاخر ولا بالوحي، بل يعدون الايمان بالغيب الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، خرافة تجب محاربتها والقضاء على من يعتقدها ويؤمن بها.
وكذلك العلمانيون الذين يرون اقصاء الاسلام عن حياة الناس، ويسندون رايهم بالقوة، ويرون ان قوانين البشر انفع لحياة الناس من احكام القران والسنة، وقلما تخلو من احد هذين الصنفين بلاد من بلدان المسلمين، وان كانوا في بعض الشعوب لا يجرؤن على الظهور بمظهر الدعوة الى اقصاء الاسلام علنا، لعلمهم بان الظروف غير مناسبة لذلك.
فبماذا نحكم على هذه البلدان التي يحكمها امثال هؤلاء؟
اهي بلاد اسلام، نظرا لان كل سكانها، او اغلبهم مسلمون _ وان كان الحل والعقد فيها لغير المسلمين – ام هي بلاد كفر، لان الاحكام التي تنفذ فيها هي احكام القوانين التي تعارض نصوص القران والسنة التي اجمعت الامة على وجوب الحكم بها؟
وتعريف بعض علماء الاسلام لبلاد الاسلام وبلاد الكفر يرجح اعتبارها دار كفر، وليست دار اسلام، فقد قال علاء الدين الكاساني رحمه الله: “ان دار الكفر تصير دار اسلام بظهور احكام الاسلام فيها … وان دار الاسلام تصير دار كفر بظهور احكام الكفر فيها ” [ بدائع الصنائع 9/4374.. ] وقد سالت بعض العلماء المعاصرين عن تعريفهم لدار الكفر ودار الاسلام، فلم يجبني الا سماحة رئيس مجلس القضاء الاعلى السابق في المملكة العربية السعودية الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، وهذا نص جوابه: “نفيدكم ان العبرة بمن كانت له الولاية والحل والعقد والتصرف في البلد، فان كان ذلك للمسلمين، فهي دولة اسلامية، وان وجد بها كفار، وان كان الحل والعقد والتصرف والولاية للكفار، فتعتبر الدولة كافرة، وان كثر فيها المسلمون” [ في خطاب خاص بعث به الي برقم (422/1 وتاريخ 7/3/1401ه ] يلاحظ ان الشيخ اختار لفظ ” الدولة ” ولم يختر لفظ ” الدار ” ولعله لا يريد ان يسمي الدار دار كفر، لان بعض بلدان المسلمين يحكمها من لا يؤمن بالاسلام.
ولقد ابتلي المسلمون بهذا الوضع الشاذ في كثير من بلدانهم، ولو طبقنا تعريف بعض العلماء لبلاد الكفر، لما سلم من هذا الوصف كثير منها، وفي ذلك من الاخطار ما فيه، اذ يترتب عليه الا يتزوج المسلم في بلاده التي تلك صفتها بالمسلمة، فضلا عن الكتابية، خشية من ان يصبح اولاده شيوعيين او علمانيين يحاربون الاسلام، واذا اضطر الى ذلك لا يقصد الولد.
لهذا لا اريد الخوض في هذا الامر، وعلى المسلمين ان يتقوا الله ما استطاعوا في بلدانهم، وان يصبروا على التمسك بدينهم، وعلى تنشئة اولادهم عليه، حسب قدرتهم ووسعهم، ولا يكلف الله نفسا الا وسعها.
ولندع بلدان المسلمين، وننتقل الى الكلام عن بلدان الكفر، لنعرف كيف تغيرت احوالها هي ايضا، لانها هي المقصودة في هذا الموضع.
حكم زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر اليوم.
والكلام فيها يتلخص في ثلاث مسائل:
المسالة الاولى: صفة بلاد الكفر اليوم.
المسالة الثانية: حالة المسلمين في بلاد الكفر اليوم.
المسالة الثالثة: حكم زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر اليوم.
المسالة الاولى: صفة بلاد الكفر اليوم.
لقد كانت الخلائق في اخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن القيم رحمه الله ثلاثة اقسام: “مسلم مؤمن به، ومسالم له امن، ومحارب” [ زاد المعاد 3/160 ] والمراد بالمسالم له الامن اهل الذمة.
واما الارض فكانت قسمين: ارض الاسلام، وهي التي يدين اهلها بالاسلام، او يخضعون لحكمه باداء الجزية، وارض الكفر، وهي التي يسيطر عليها الكفار المحاربون.
وهكذا استمرت الارض في عهد اصحابه، رضي الله عنهم، اما بلاد اسلام واما بلاد حرب، والبلدان التي كانت تعقد هدنة مؤقتة مع المسلمين، هي بلاد حرب مالم يؤد اهلها الجزية ويخضعوا لحكم الاسلام.
اما الان فان بلدان الكفار اذا تاملت واقعها، وجدتها تنقسم قسمين:
القسم الاول: بلدان يعلن اهلها الالتزام بالسلم ونبذ الحرب، مع الشعوب الاسلامية وغيرها، وهي في الحقيقة ذات صفتين:
صفة تبدو بها انها ليست بلاد حرب، وهي صفة المعاهدات والاتفاقات الدولية، التي يترتب عليها تبادل السفراء، والمعاملات التجارية والاقتصادية والصناعية والثقافية، وغيرها من المنافع، فهي بهذه الصفة شبيهة ببلاد العهد في العصور الاسلامية السابقة، الا ان العهد في هذا العصر يتخذ صفة الدوام، وليس على اسس اسلامية، كما كان في السابق، وغالب المعاهدات والاتفاقات تكون المصالح الراجحة فيها لاهل الكفر وليست لاهل الاسلام، لان اهل الكفر – وبخاصة البلدان الغربية – عندهم من القوة ما يجعلهم يسيطرون على من سواهم.
ومن الامثلة على ذلك: امريكا وبعض دول اوربا وغيرها …
وصفة تبدو بها دار حرب، وذلك من ثلاثة جوانب:
الجانب الاول: انها تساعد الدول المحاربة للمسلمين بالمال والسلاح والغذاء والخبراء والاعلام، وكل ما تحتاج اليه الدولة المحاربة، كما تفعل امريكا مع اليهود ضد المسلمين في فلسطين والدول العربية المجاورة، وكما تفعل مع الفليبين ضد المسلمين في الجنوب …
الجانب الثاني: ان اساطيلها البحرية واسراب طائراتها الجوية، وجحافل جيوشها البرية، تجوب البلدان الاسلامية وغير الاسلامية، وهي على استعداد في اي وقت لمهاجمة اي دولة من دول الشعوب الاسلامية، اذا خرجت على مخططاتها الظالمة، كما فعلت امريكا نفسها مع السودان، عندما هاجمت مصنع الشفاء، وكما فعلت في افغانستان في نفس الفترة، وقد زاد عدوانها على العالم، وبخاصة المسلمين، بعد حادث مبنى التجارة العالمي في نيويورك يوم 11 سبتمبر 2001م
الجانب الثالث: انها تسعى لايجاد احزاب تواليها وتؤيدها في داخل الشعوب الاسلامية، لمحاربة الاسلام والمسلمين، وتقوم بامداد تلك الاحزاب بالمال والعتاد والخبراء، وبالوسائل الاعلامية، وتدفع تلك الاحزاب للقيام بانقلابات في داخل الشعوب الاسلامية، اذا لزم الامر، من اجل القضاء على الحركات الاسلامية، كما حاولت ذلك – ولا زالت تحاول – في السودان – حيث دعمت الدول المجاورة، بالمال والسلاح، ودعمت الاحزاب السودانية الشمالية الموجودة في خارج السودان، لفتح جبهات قتالية، كما دعمت الحركات النصرانية والوثنية في جنوب السودان، لنفس الغرض.
وهذه الجوانب الثلاثة كافية لعد تلك الدول الكافرة دول حرب، وبلدانها بلدان حرب.
وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم قريشا – في مدة الهدنة بينه وبينهم – حربا على المسلمين، بسبب اعانتهم بني بكر الذين دخلوا في عهدهم بالسلاح، على خزاعة الذين دخلوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. [راجع في ذلك تفسير الامام البغوي 2/266] واذا كانت الشعوب الاسلامية غير قادرة في الوقت الحاضر بسبب ما هي فيه من ضعف وتفرق، وبسبب المعاهدات والاتفاقات الدولية التي لا طاقة لهم بمخالفتها ان تعامل تلك الدول المعتدية عليها معاملة الحربيين بكثير من الاحكام الشرعية، كدعوتها لاحد امرين: الدخول في الاسلام، او اداء الجزية، فان ابوا فاعلان الجهاد في سبيل الله، كما كان ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومضى عليه السلف الصالح، عندما كانوا متمسكين بالاسلام، فيجب ان يعد المسلمون العدة المعنوية، وهي تقوية ايمانهم، والتقرب الصادق والاخلاص الكامل لله عز وجل، والعدة المادية، من اقتناء العتاد وصنعه، وتدريب الشعوب الاسلامية ليوم اللقاء المرتقب.
القسم الثاني: دار اسلام من حيث الاصل، ولكها اصبحت دار حرب، بسبب استيلاء اعداء الاسلام من اليهود عليها، وهي ارض فلسطين التي انتزعها اليهود بمناصرة النصارى في البلدان الغربية، وعلى راسها بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية، فهي من حيث هذا الاستيلاء دار حرب.
والاصل انه لا فرق في الحكم بين دار الحرب في الماضي، ودار الحرب في هذا الزمان، من حيث عدم جواز زواج المسلم بالكتابية فيها، لما مضى من الادلة القاضية بذلك.
اما زواج المسلم بالمسلمة في هذا البلد، فلا يمكن تطبيق حكم دار الحرب عليه، فلا يمنع المسلم من الزواج بالمسلمة، بحجة تعريض الولد للكفر واخلاق الكفار، او تكثير سواد الحربيين، لان الزواج وقصد الاولاد والاكثار من النسل، هو في مصلحة المسلمين الذين يجب عليهم ان يتخذوا كل الاسباب التي تحرر الارض المباركة وقبلة المسلمين الاولى، من ايدي العدو اليهودي المغتصب، وكثرة النسل يعين المسلمين على كثرة المجاهدين، والاعداد لطرد اليهود منها، ولا يجوز للمسلمين الهجرة هن بلادهم، بحجة انها دار حرب، لانالمحارب معتد طارئ الوجود في البلد، ولان في هجرة المسلمين من بلادهم، يتيح لاعداء الاسلام الاستئثار بها، وخسارة المسلمين لارضهم.
والواجب على المسلمين المجاورين لارض فلسطين، ان ينصروا المجاهدين الفلسطينيين، حتى تتحرر ارضهم، واذا لم يكف هؤلاء وهؤلاء، وجب على من يليهم في البلدان الاسلامية ان ينضموا اليهم، حتى لو لم يكف لجهاد لاعداء الله من اليهود الا جميع المسلمين، لوجب عليهم عينا القيام بذلك، والا كان كل قادر منهم على الاشتراك هذا الجهاد اثما اذا لم يقم به.
حالة المسلمين المقيمين في بلاد الكفر اليوم
ان اغلب المسلمين الذين ينتقلون من بلادهم الى بلاد الكفر، ويسكنون فيها، انما يفعلوا ذلك لنيل مصالح خاصة، وهي: طلب الرزق بالحصول على اجور معينة على الاعمال التي تتاح لهم، او تجارة لطلب الربح، وبعضهم يهاجرون اليها لطلب علم معين، ومنهم من يهاجر اليها هربا من الظلم الذي يصبه عليهم حكامهم، وقليل جدا من يبقى في بلاد الكفار من اجل الدعوة الى الاسلام
[تنبيه: هذا كان في الفترة التي كتبت فيها هذا البحث، اما اليوم فقد كثرت المراكز الاسلامية والمساجد والمدارس، بل بدا المسلمون ينشئون جامعات في بلدان الغرب، وقد يفرغ بعض الدعاة والعلماء للقيام بتعليم المسلمين ودعوة غيرهم الى الاسلام].
هذا من حيث مقاصد المسلمين المقيمين في بلاد الكفر.
اما حالتهم في تلك البلدان، فان المصالح التي تعود الى الكفار منهم اعظم من المصالح التي تعود على المسلمين، فغالب المسلمين هم من ذوي الاعمال البدنية ذات الجهود الشاقة، والاجور الزهيدة، وثمار اعمالهم عائدة الى الكفار، الذين يعدون العدة للاضرار بالمسلمين عند الحاجة، فالمسلمون العاملون في البلدان غير الاسلامية، يساعدون اهل تلك البلدان بطريق مباشر او غير مباشر – بغير قصد في الغالب – ضد المسلمين في بلدانهم.
وكذلك المتخصصون المهرة في اي علم من العلوم الكونية والانسانية، كالطب والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والاقتصاد، والقانون، والسياسة، والعلوم العسكرية … كل جهود هؤلاء تعود ثمارها بالفائدة على بلاد الكفر.
وقد سمعت من بعض المسلمين المتخصصين في بعض تلك العلوم الذين اضطروا الى البقاء في تلك البلدان، انهم نادمون ندما شديدا على مشاركتهم في بناء بلاد الكفر بجهودهم، وحرمان بلادهم من تلك الجهود، مع العلم ان ما يجنونه من اجور على تلك الجهود لا يعد شيئا يذكر، ولو اتيحت لهم فرص العمل في تخصصاتهم باقل من ذلك، لفضلوا العمل في بلدانهم على العمل في تلك البلدان.
وقد يظن بعض الناس ان المسلمين يستفيدون فائدة معنوية في بلدان الكفر، لا يجدونها في بلدانهم، تلك الفائدة هي حرية التدين، وحرية الكلمة، والدعوة الى الاسلام، واقامة الشعائر الدينية.
وهذا الظن صحيح في ظاهر الامر، اما الواقع فان خسارة المسلمين في بلاد الغرب التي توجد فيها حرية لا توجد في اكثر بلاد المسلمين، خسارة فادحة.
فالحرية الموجودة في تلك البلاد، يتمتع بها اهل البلاد انفسهم، لانهم هم الغالبية العظمى التي لها عقائدها، وعاداتها، واخلاقها، ونظمها وقوانينها، ووسائل اعلامها وتعليمها.
اما الوافدون المسلمون من خارج تلك البلاد، فهم قلة قليلة يعدون في تلك البيئة كقطرة ماء صاف عذب، القيت في محيط من القاذورات، ترى هل تؤثر تلك القطرة في ذلك المحيط، او تذوب فيه فتصبح كالعدم؟
وما ذا عسى ان يصنع احاد المسلمين في المصانع بين الاف الكافرين؟ وما ذا عسى ان يصنع مسلم واحد، او اسرة واحدة في منزل بحي من الاحياء التي يسكنها ملايين من الكفار؟ وما ذا سيحدث مركز اسلامي صغير لا يوجد به دعاة فقهاء في الدين بين الاف الدعوات المضادة للاسلام، المسندة بقوة الدولة والشعب؟
لهذا تجد الوافد الجديد على البلدان غير الاسلامية التي بها تلك الحرية، ممن يفقدون الحصانة الايمانية والفقه في الدين يذوبون – غالبا – في بوتقة البيئة الغربية، وتذوب من باب اولى ذريتهم، ولو بقيت اسماؤهم اسلامية.
طفل مسلم صغير يجهل ابواه الاسلام، يدفع به في رياض الاطفال، ثم في المراحل لدراسية الاخرى، يختلط بزملاء غير مسلمين، لهم عقائدهم واخلاقهم وعاداتهم، ومدرسين غير مسلمين، يوجهونه الى محبة عاداتهم واعتقادهم واخلاقهم، ويرى كل ذلك في سلوكهم، كيف ينجو من الكفر واثاره في مراحل دراسته من الروضة الى الجامعة، الى الدراسات العليا؟ كيف ينجو الشاب من مخالطة الخليلات، وكيف تنجو الشابة من الخلان والاخدان؟ كيف يفلت المسلم والمسلمة من شرب المسكرات وتناول لحم الخنزير، كيف ينجو من دخول الكنيسة واداء الطقوس النصرانية الكافرة؟ كيف ينجو من الضلال والارتداد عن دينه بسبب ما تلقى عليه من الشبهات المشككة في الاسلام؟
ثم لو فرض وجود ابوين مسلمين حريصين على تربية اولادهما تربية اسلامية، فعصاهما الاولاد بعد بلوغهم سنا معينة – كالثامنة عشرة مثلا – فاختاروا الكفر على الاسلام، والكنيسة على المسجد، والفسق على الطاعة، فما سلطة الابوين على اولادهما، والقانون يحول بينهما وبين منع اولادهما من تلك الامور، تحقيقا للحرية الموجودة في البلد؟
الفتاة المسلمة لها الحق ان تتزوج بالرجل الكافر، ولا حق لابويها في الاعتراض على ما تختار ومن تختار، تحقيقا للحرية السائدة في البلد، ولا يستطيع المسلم المقيم في ديار الكفر ان يستنجد باي دولة من دول الشعوب الاسلامية، لتنقذه من القوانين المنفذة في بلاد المهجر، بل على العكس من ذلك لو استنجد احد الكفار بدولته الكافرة وهو في بلد مسلم، لحصل على النجدة التي تنقذه من سلطة الدولة التي يوجد بها، ولو كان مجرما، على خلاف ما كان عليه المسلمون في الماضي.
هذه هي حال المسلمين في بلاد الكفر في هذا الزمان، انهم شبيهون في ضياع دينهم واسرهم بالاسرى في دار الحرب لشدة الضغوط الاجتماعية والقانونية، في الشئون الاسرية التي يتعرضون لها في تلك البلدان – وان كانت القوانين المتعلقة بالمعاملات الاخرى اقل عنتا وعسرا.
شواهد وتجارب تدل على خطر زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر
انك لا تذهب الى اي بلد من بلدان الكفر، الا وجدت كثيرا من المسلمين يشكون اشد الشكوى من ارتداد مسلمين عن دينهم، وتشرد كثير من ابنائهم وهربهم عن اسرهم، بتاييد من سلطات تلك الدول التي استوطنوها، عن طريق القانون والضمان الاجتماعي الذي يوفر للشاب والشابة المسكن والنفقة بعيدا عن اسرته.
واقلهم خطرا من لا يزال يدعي الاسلام وهو لا يفهم من الاسلام شيئا، يمارس اغلب المنكرات التي يمارسها الكفار، وفي مقابل ذلك تجد قلة ممن يدخلون في الاسلام من اهل الكتاب، اكثرهم بعيدون عن فهم حقيقة الاسلام، وعن تطبيق مبادئه تطبيقا سليما، بسبب قلة من يتابعهم من الدعاة الى الله الذين يفقهون الاسلام فقها صحيحا، ويمثلون للناس القدوة الحسنة.
بل قد وجدنا من دخل في الاسلام واصبح زعيما للمسلمين، وامراته نصرانية تجمع التبرعات من المسلمين ومن النصارى لرفع شان الكنيسة !
وما ذا عسى ان يجد ابناؤه من تربية، وامهم لا يهدا لها بال الا في النشاط الكنسي، واذا ذهبت الى الكنيسة، فهل ستدع اولادها في المنزل، او تبعثهم الى المسجد الذي لا يعرفه ابوهم الا في المناسبات.
وقد اخبرنا بعض المسلمين في مدينة “برزبن” وهي من المدن الاسترالية الشرقية في يوم السبت 29/من شهر شوال عام 1404ه، ان بعض المسلمين من افغانستان والهند الذين جاءت بهم بريطانيا للعمل هناك لاستخدامهم في الاعمال الشاقة، كانوا متمسكين بدينهم، وبنوا لهم مسجدا صغيرا من الخشب في منطقة تسمى “كويزلند” سنة 1908م يقيمون فيه شعائر دينهم، وتزوجوا من نصرانيات وانجبوا ذرية، اصبحوا بعد انقراض ابائهم نصارى، ولا يزالون يسكنون في نفس المنطقة ويقفون بقرب المسجد ينظرون الى المسلمين وهم يصلون ويدرسون ابناءهم، ويحملون اسماء ابائهم المسلمين، وقد حاول امام المسجد وبعض المسلمين دعوتهم للرجوع الى الاسلام دين ابائهم، فلم يستجيبوا لذلك.
وكان سبب ذوبانهم في دين امهاتهم جهلهم بدينهم، وتنشئتهن لهم على دينهن.
[وقد بنى المسلمون مكان هذا المسجد الصغير مركزا اسلاميا، يشتمل على مسجد ومدرسة ومكتبة، لتدريس ابنائهم، وقد زرنا هذا المركز، انا والشيخ عمر فلاتة رحمه الله، في نفس التاريخ المذكور 2/شوال عام 1404ه] هذا في استراليا، وفي وقت مبكر نسبيا.
وفي يوم السبت 25 شوال عام 1405ه اخبرنا – انا والشيخ عمر فلاتة ايضا – امام المركز الاسلامي الثقافي في في مدينة “شيكاغو” الامريكية، واسم الامام: “مصطفى ابراهيم سرك” وهو متخرج من كلية اللغة العربية بالجامعة الازهرية سنة 1978م، ان فتاة يوغسلافية كانت تسكن مع اسرتها في هذه المدينة، ثم ذهبت الى ولاية كاليفورنيا، وانتظمت في احدى المدارس، واتصلت ببعض المسيحيين، واشتكت بانها تجد نفسها حزينة في بعض الاوقات، فقالوا لها: ان عيسى – عليه السلام – ” Jesus ” هو الذي سيحل لها مشكلاتها، اذا هي امنت به، وقالوا لها: ان محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان مجنونا، وان اتباعه كانوا فقراء متخلفين، فامنت بالمسيحية وارتدت عن الاسلام.
وعندما رجعت الى اسرتها، غضبوا عليها وامرها ابوها ان تعود الى الاسلام، فرفضت، وقالت: انها مستعدة ان تموت من اجل ايمانها بالمسيحية، مؤكدة بذلك شدة ايمانها بها، وهي الان خارج منزل اسرتها.
ولا يغرن اخواننا الدعاة المتجولين في العالم، ما يرزن من نشاط اسلامي طلابي او غيره في بعض دول الكفر، كالولايات المتحدة الامريكية وكندا وبعض دول اوربا، فانهم لو اختلطوا بالجاليات المسلمة في تلك البلدان، وتعرفوا على كثير من الاسر المسلمة، لراوا البون الشاسع بين ربح النشاط الاسلامي والخسارة الفادحة التي تصيب تلك الاسر في دينها وسلوكها، وبعد ابنائها الذين يدرسون في مدارس البلدان الكافرة عن مبادئ الاسلام.
هذه نبذة موجزة عن حالة المسلمين في البلدان غير الاسلامية، ومن اراد ان يعرف الحقيقة المرة عن تلك الحال، فليشد الرحال الى تلك البلدان، ويختلط بالجاليات والاسر الاسلامية في منازلهم، وليزر ابناءهم في المدارس الرسمية، وفي النوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية ليرى ما لم يدر في حسبانه.
كيف والمنصرون يخرجون ابناء المسلمين من دينهم الى الدين النصراني في عقر دارهم. [راجع كتاب ” غارة تبشيرية جديدة على اندونيسيا ” لابي هلال الاندونيسي. طبع دار الشروق]
حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر اليوم
سبق ان جمهور العلماء يرون جواز زواج المسلم بالكتابية في دار الاسلام مع الكراهة، وبعض العلماء يرى جواز ذلك في دار الحرب، مع الكراهة الاشد، وبعضهم يرى تحريم ذلك في دار الكفر.
وان بعض السلف يرى تحريم الزواج بالكتابية، في دار الاسلام ودار الكفر على السواء.
وسبق ان دار الكفر في هذه الازمان ليست دار حرب محضة، كما كانت دار حرب في الماضي، وليست دار عهد محضة، بل كثير منها تعتبر بلاد حرب غير مباشرة، كما هو الحال بالنسبة للدول التي تساعد اليهود ضد المسلمين بالمال والسلاح وغيرهما، وهي مستعدة للحرب المباشرة في اي لحظة تشعر فيها بالخطر على مصالحها او مصالح اليهود، كامريكا وبعض دول اوربا، او بالرجال، مثل الاتحاد السوفييتي (سابقا) وبعضها دار حرب مباشرة كحال الاتحاد السوفييتي (سابقا) في حرب افغانستان – كان هذا قبل ان تغادر القوات السوفييتية ارض افغانستان)- وانكى من ذلك واشد ان تلك الدول تحارب المسلمين في بلدانهم، حربا سياسية، بدعم الاحزاب الموالية لها بالسلاح لضرب بعضها بعضا، واقتصاديا كذلك …
وكثير من الاتفاقات الدولية المبرمة بين دول الكفر وحكومات الشعوب الاسلامية، تكون في صالح دول الكفر اكثر من كونها في صالح المسلمين، بل ان الضرر الذي يلحق الشعوب الاسلامية من تلك الاتفاقات، اكثر من النفع الذي تحصل عليه منها.
كما ان بعض المعاهدات تخالف مقاصد الاسلام، ومن اهمها ابطال معنى الجهاد في سبيل الله، الذي هدفه الاول هو الدعوة الى الله، ودخول الناس في هذا الدين، او خضوعهم لنظامه العام بدفع الجزية، والا قوتلوا، كما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه، ومن تبعهم من السلف الصالح، وهو الحكم الشرعي الباقي الى يوم الدين.
وسبق بيان حالة المسلمين في ديار الكفر، وانهم معرضون للذوبان في المجتمع الكافر، وان بعضهم يرتد عن الاسلام، وبعضهم يبقى مسلما بالاسم والانتساب، وهو قد ضاع في تلك المجتمعات الكافرة، والناجون من ذلك قليل.
فاذا نظرنا الى ديار الكفر من جهة ما تقوم به من حرب مباشرة ضد المسلمين، او غير مباشرة، فان القياس يقتضي تحريم زواج المسلم بالكتابية فيها قياسا على تحريم ذلك عند بعض العلماء في دار الحرب، واذا نظرنا اليها من جهة ما بينها وبين حكام الشعوب الاسلامية من معاهدات واتفاقات، فالقياس يقتضي اباحة الزواج بالكتابية في ديار المسلمين – وان كانت لا تعتبر ذمية ولا حربية – اما الزواج بها في ديار الكفر التي فيها شبه بدار الحرب المحضة، وشبه بدار العهد فان فيه اشكالا، لان هذه الدار التي هذه صفتها جديدة لم تكن موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه لان الديار كلها كانت اما دار اسلام – ويدخل فيها اهل الذمة –، واما دار حرب – ويدخل فيها دار العهد المؤقت – وعندما كان المسلمون يتزوجون بالكتابيات، انما كانوا يتزوجون بهن في ديار الاسلام، وديار الاسلام كانت محكومة بشريعة الله، والمجتمع فيها كان مجتمعا اسلاميا، والكتابية ذمية وليست حربية، واسلام الكتابية التي يحيط بها المجتمع الاسلامي، الذي تطبق فيه احكام الاسلام في المنزل والمسجد والشارع مامول، وتربية ابنائها على الاسلام وتنشئتهم على مبادئه وادابه هي الاساس، لان البيئة كلها تساعد على ذلك: الاسرة، والجيران، والمسجد، ودور العلم، والمجتمع كله، لان القوة في كفة الاسلام والمسلمين، والمراة اقرب الى التاثر بالاسلام من التاثر في ولدها بالكفر وعاداته.
ولو فرض انها حاولت التاثير فيه فانها ستفشل، واذا علم الزوج واسرته او اي مسلم بذلك يبادر الى احباط تلك المحاولة، ولو تقدمت بشكوى الى القضاء تطلب فيها الاستقلال بتربية اولادها، فان الشرع الاسلامي لا يبيح لها ذلك، بل يحكم بالاشراف على الاولاد وتربيتهم لمن في اشرافه وتربيته مصلحتهم في دينهم، ولا يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.
واذا فرض ان زوج الكتابية تساهل معها في تربية اولاده، فان المسلمين لا يسكتون عن ذلك، لتمسكهم بقاعدة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، اما من قبل المحتسبين من المجتمع، واما من قبل الحاكم المسلم هذا بالنسبة لدار الاسلام.
المفاسد المترتبة على زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر
اما دار الكفر في هذا الزمان، فان الزواج بالكتابية فيها يترتب عليه مفاسد كثيرة، ومنها ما ياتي:
المفسدة الاولى: اقامة المسلم في دار الكفر.
وذلك مخالف لحكم الهجرة من دار الكفر الى الاسلام، كما هو معروف.
المفسدة الثانية:
اعانة المسلم المقيم في بلاد الكفر للكافرين على المسلمين، لما يبذله من جهد وطاقة في تقويتهم بعمله معهم، سواء كان الجهد بدنيا في المصانع وغيرها، او عقليا في شتى العلوم المهمة، كالطب والهندسة الفلك وغيرها، ويدخل في ذلك تقصيره في قتال الكفار المحاربين للمسلمين وهي مفسدة عظيمة لا يجوز اغفالها [ احكام القران للجصاص (1 / 366) ].
المفسدة الثالثة:
تعرض المسلم لعادات اهل الكفر واخلاقهم ومعاملاتهم التي يكون كثير منها محرما في دينه، وقد لا يقدر على ترك ذلك لاضطراره الى الاختلاط بهم في المنازل واماكن العمل والتنقلات، ويخشى عليه ان كان جاهلا ضعيف الايمان، ان يترك دينه ويدخل في دين الكفر وهذا وقع.
المفسدة الرابعة:
فقد معنى الولاء والبراء الذي امر الله به المؤمنين، كما قال تعالى: ((يا ايها الذين امنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم اولياء يعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين)) [ المائدة: 51 ] وقوله تعالى: ((انما وليكم الله ورسوله والذين امنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين امنوا فان حزب الله هم الغالبون يا ايها الذين امنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين اتوا الكتاب من قبلكم والكفار اولياء واتقوا الله ان كنتم مؤمنين)) [ المائدة: 55 – 57 ].
وقوله تعالى: ((قد كانت لكم اسوة حسنة في ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم انا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده..) [ الممتحنة: 4 ].
والغالب ان المسلم الذي يخالط الكفار ويؤاكلهم ويشاربهم ويصاهرهم يذهب من قلبه العداء لهم، ويقل في قلبه ولاؤه لله ولرسوله ولعباده المؤمنين.
المفسدة الخامسة:
الرضا بالمنكر الذي يراه يتكرر امام ناظريه في كل وقت: من شرب الخمر واكل لحم الخنزير والكفر بالاسلام ووسائل الزنا، بل والزنا نفسه، وقد يقع هو نفسه في تلك المعاصي، لان احساسه بمفاسدها وكونها من مساخط الله تعالى يضعف في نفسه لتكرارها وبقائها في محيط اهلها.
المفسدة السادسة:
تاثير امراته الكتابية عليه بعاداتها واخلاقها، اكثر من تاثيره هو عليها، لان المحيط الذي يعيش فيه هو محيطها والبيئة بيئتها، وهي تاكل لحم الخنزير وتشرب الخمر وتختلط بالاجانب من الرجال امامه، محارم وغير محارم وهي كاشفة اغلب جسمها، وقد تصافحهم، وقد تراقصهم وهو يرى ذلك كله ويسكت عنه فيالف الدياثة، وقد ينالون منها ما وراء ذلك كله، وهو يدري او لا يدري، كما انه هو قد يختلط بقريباتها وصديقاتها اختلاطا فيه مفاسد كثيرة على دينه وخلقه، وكيف ينجو من التاثر بذلك وهو في محيطه وبيئته؟!
شرط مفقود في الغالب
ولابد هنا من التاكيد على صفة الاحصان التي اباح الله بها للمسلم ان يتزوج الكتابية في قوله تعالى: ((والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب)) [ المائدة: 5 ] فان اشتراط هذه الصفة، يدل على عدم جواز زواج المسلم بالكتابية التي لا توجد فيها صفة الاحصان، وقد اختلف في صفة الاحصان هذا على قولين:
القول الاول: ان المراد بها العفة، فاذا كانت الكتابية عفيفة لم تقارف الفاحشة جاز نكاحها، وممن فسر الاحصان بالعفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانه عندما كتب اليه حذيفة بن اليمان: “احرام هي – يعني الكتابية – كتب اليه عمر قائلا: لا، ولكني اخاف ان تواقعوا المومسات منهن، قال ابو عبيدة: يعني العواهر …”
وقال مطرف عن الشعبي في قوله تعالى: ((والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم)) قال: (احصان اليهودية والنصرانية: ان تغتسل من الجنابة وان تحصن فرجها..) [ احكام القران للجصاص (2 / 324) ]، وممن قال بذلك: السدي، ومجاهد وسفيان.
القول الثاني: ان المراد بالاحصان هنا الحرية، اي يجوز نكاح الكتابية الحرة – دون الامة – وان كانت قد اتت بفاحشة اذا تابت منها، بشرط ان تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده ان يجبر على الكفر.
وقد رجح هذا القول ابن جرير الطبري، وذكر القائلين به في تفسيره جامع البيان عن تاويل اي القران (6 / 107-2-108) ] وعلى كلا القولين فان الكتابية التي في دار الكفر – وليست في دار الاسلام – يرجح جانب الحذر منها، لما في بيئتها من الفساد الواضح، وكيف تكون عفيفة من توصم بالعار والامراض النفسية اذا بلغت سنا معينا، ولم تجد من يعيش معها معيشة غير مشروعة، كما يعيش الزوج مع زوجته؟ وكيف لا يخشى من عدم عفة امراة تختلط بالاجانب في الخلوة كالجلوة كما مضى؟
المفسدة السابعة:
ان امراته وهي لا تلتزم بامر الله ونهيه، قد تنجب ذرية من غيره وينسبون اليه، ويترتب على ذلك احكام كثيرة فاسدة: فيورثون اذا بقوا على دينه – ولو في الظاهر – ويختلطون بابنائه وبناته على انهم محارم، وكذلك اخواته واخوانه، مع انهم في الواقع ليسوا اولاده.
المفسدة الثامنة:
انها قد تنشئ اولاده على الكفر وعادات الكفار واخلاقهم، وتاخذهم معها الى الكنيسة والمراقص والمسارح واماكن اللهو، وتفسد قلوبهم، ولا يستطيع هو ان يحول بينها وبين ذلك، وقد اشترط ابن جرير رحمه الله في جواز الزواج بالكتابية “ان تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده، ان يجبر على الكفر” [ جامع البيان عن تاويل اي القران (6 / 108) ].
وليس من شرط الاجبار على الكفر ان يكون بالقهر المادي كالتهديد بالقتل، او الحبس او الضرب، بل قد يكون الاجبار على الكفر بالضغوط الاجتماعية والتعليمية والثقافية والسياسية وتشويه الاسلام، وهذا كله واقع في بلاد الكفار.
المفسدة التاسعة:
ان القانون الاسري في مصلحتها في بلادها، فلو اراد ان يطلقها فان القانون يجبره على مغادرة منزله وتركه لها ولاولادها، ويحكم لها بالاولاد ما داموا دون سن معينة كالثامنة عشرة، فيخسر اولاده وتربيهم هي كما تريد، وهو يشاهد ذلك فلا يقدر على حمايتهم من ذلك، بل ان المراة الكافرة التي يتزوجها المسلم وينقلها الى بلاده في اي شعب من شعوب المسلمين، اذا كرهته تستطيع ان تذهب في غفلة منه الى سفارة بلادها في ذلك الشعب باولادها، فتصبح بذلك كانها في بلاد الكفر تحميها دولتها وقوانينها وتنقلها مع اولادها الى بلادها، ولا تستطيع دولة الشعب المسلم ان تفتكها ولا تفتك اولادها.
المفسدة العاشرة:
ترك المسلم التزوج بالمسلمة، وايثار التزوج بالكتابية، وفي ترك التزوج بالمسلمة الموجودة في بلاد الكفر تعريض المسلمات للفتنة، اما بالزنا الصريح او باستباحة زواجهن بالكفار الذين لا يحل لهم ان يتزوجوا المسلمات، وهذا الامر موجود في بلاد الكفر، فقد وجدنا كثيرا من المسلمين يشكون من هذه الحالة، ويتمنون ان يجدوا لبناتهم ازواجا مسلمين من نفس البلد الذي يتزوج فيه المسلمون الكافرات لاغراض دنيوية، كالحصول على الاقامة او التجنس او الوظيفة.
وقد ذكر العلماء ان من اسباب كراهية بعض اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعمر رضي الله عنه، الزواج بالكتابية الذمية في دار الاسلام زهد المسلمين في الزواج بالمسلمات، كما قال ابن جرير رحمه الله: “وانما كره عمر لطلحة وحذيفة – رحمة الله عليهم – نكاح اليهودية والنصرانية، حذرا من ان يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، او لغير ذلك من المعاني فامرهما بتخليتهما” [ جامع البيان عن تاويل اي القران (2 / 378) ].
واذا كان هذا السبب يؤدي الى كراهة الزواج بالكتابية في دار الاسلام، خشية من الزهد في الزواج بالمسلمات اللاتي لا يجدن الازواج الراغبين فيهن غالبا، فانه – اي هذا السبب – صالح لتحريم الزواج بالكتابية في دار الكفر، اذا ادى الى ترك الزواج بالمسلمة وافتتانها بالزنا او الزواج بالكفار، وهو محرم عليها كالزنا، من باب اولى.
واذا كان زواج المسلم بالكتابية مباحا، والمسلمون انما تعاطوه في دار الاسلام، ومع ذلك وجد من يرى تحريمه من السلف وعامة اهل العلم كرهوه، وكثير منهم حرموه في دار الحرب، واذا علمنا تلك المفاسد التي تترتب عليه في دار الكفر فما حكمه؟!.
ان كثيرا من هذه المفاسد ليست مفروضة فرضا، وانما هي واقعة مع كثير من المسلمين المقيمين في دار الكفر ممن يتزوجون الكافرات، وقد تكون هناك مفاسد كثيرة يعرفها اولئك المسلمون الذين يقعون في شراك الاستيطان في بلاد الكفر.
ولو لم يكن من تلك المفاسد الا خشية وقوع المسلم نفسه في الارتداد عن دينه، او التخلق باخلاق الكفار التي لا يقرها الاسلام، وكذلك مفسدة تنشئة نسله على الكفر وعادات الكفار، لو لم يكن من تلك المفاسد كلها الا هاتان المفسدتان لكانتا كافيتين في القول بتحريم زواج المسلم الكتابية في بلاد الكفر، فكيف بها اذا اجتمعت كلها؟!.
اذا افضى المباح الى محرم صار محرما
ومعلوم ان المباح هو ما استوى طرفاه، اي: فعله وتركه، فهو ليس مطلوب الفعل ولا مطلوب الترك شرعا من حيث هو مباح، فاذا كان وسيلة الى مندوب صار مطلوب الفعل ندبا، وان كان وسيلة الى مكروه صار مطلوب الترك كراهة، فاذا كان ذريعة الى محرم صار مطلوب الترك تحريما.
وان كان وسيلة الى واجب، صار مطلوب الفعل وجوبا؟ ونكاح المسلم الكتابية مباح من حيث هو، فاذا صار ذريعة الى تلك المفاسد التي كل مفسدة محرمة وحدها، فانه يصير مطلوب الترك تحريما لذلك.
هذا هو الحكم الذي اطمانت اليه النفس بالنسبة لزواج المسلم بالكتابية في ديار الكفر، ما دامت تلك المفاسد تترتب عليه، فاذا ادعى مدع ان تلك المفاسد لا تترتب على ذلك واثبت حجة على دعواه، فالامر عندئذ يختلف، وما اخال احدا يثبت ذلك اللهم الا في مسائل فردية نادرة، والعبرة بالغالب وليس بالنادر.
ولا اظن ان الذي توصلت اليه في هذه المسالة يخالف ما ذهب اليه علماء الاسلام قديما، فان تحريم الزواج بالكتابية في دار الكفر في هذه الايام اكثر شبها بدار الحرب في الماضي، وقد حرم الزواج بالكتابية في دار الحرب: الخليفة الرابع علي بن ابي طالب وابن عباس رضي الله عنهما، ورجح ذلك بعض علماء المذهب الحنفي، وكرهه اخرون منهم، كما كرهه كراهة شديدة الامام مالك، وهو كذلك في المذهب الشافعي، وصرح بتحريمه علماء الحنابلة [ راجع الفصل الثاني من هذا المبحث ] وعللوا ذلك بمسالة ركونه اليها وسكناه في دار الحرب، وتنشئة اولاده على الكفر ومحبة اهله.
وهذه المفاسد وغيرها موجودة في دار الكفر في هذه الايام.
ما يفضي الى المفسدة اربعة اقسام:
ذكر ابن القيم ان ما يفضي الى المفسدة اربعة اقسام:
القسم الاول: وسيلة موضوعة للاضافة الى مفسدة.
القسم الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوصل الى مفسدة.
القسم الثالث: وسيلة موضوعة للمباح، لم يقصد التوصل بها الى مفسدة، لكنا مفضية اليها غالبا، ومفسدتها ارجح من مصلحتها.
القسم الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي الى المفسدة ومصلحتها ارجح من مفسدتها.
ثم قال: “فالشريعة جاءت باباحة هذا القسم واستحبابه او ايجابه، بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع في القسم الاول، كراهة او تحريما بحسب درجاته في المفسدة.
بقي النظر في القسمين الوسط، هل هما مما جاءت الشريعة باباحتهما او المنع منهما، فنقول الدلالة على المنع من وجوه..”
وساق تسعة وتسعين وجها مستدلا بها على المنع [راجع اعلام الموقعين (3 / 136-159)].
ومعنى هذا: ان المباح الذي وضع وسيلة، ولم يقصد به التوسل الى مفسدة لكنه يفضي اليها غالبا، ومفسدته ارجح من مصلحته يكون محرما، والزواج بالكتابية في ديار الكفر من هذا النوع كما هو واضح.
ومعلوم ان مدار الشريعة الاسلامية ومبناها على مصالح العباد، كما قال ابن القيم رحمه الله: “فان الشريعة مبناها واساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسالة خرجت عن العدل الى الجور، وعن الرحمة الى ضدها، وعن المصلحة الى المفسدة، وعن الحكمة الى العبث، فليس من الشريعة” [ نفس المرجع ].
وهناك قاعدة شرعية عظيمة، وهي ان الدين من الضرورات التي يجب حفظها، والزواج بالكتابية في دار الكفر قد يعود على هذه الضرورة بالنقض، اما دين الزوج المسلم واما دين ذريته، واما دينه ودين ذريته. [ راجع اول الجزء الثاني من كتاب الموافقات ].
الضرورة تقدر بقدرها
اذا كان حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر هو التحريم لما مضى من المفاسد المترتبة عليه، فما حكم المشقة المترتبة على تحريمه بالنسبة، لمن يضطر الى السكن في دار الكفر من اصناف المسلمين الاتية؟
صنف السفراء والموظفين التابعين لهم الذين تندبهم حكوماتهم للقيام بمصالحها في تلك الدول.
صنف الطلبة: الذين يبتعثون لاخذ العلوم التي لا غنى لبلادهم عنها، وهي لا توجد في بلادهم.
صنف بعض المسلمين الذين يؤذون في بلادهم: بالاعتداء على دينهم او انفسهم او اعراضهم او اموالهم او تلك الامور مجتمعة، من قبل حكام بلادهم الظلمة بسبب مخالفتهم لهم في بعض تصرفاتهم المخالفة للاسلام، او بسبب بعض الاتجاهات السياسية المختلفة، ولا يجدون من ياذن لهم بالهجرة الى بعض البلدان الاسلامية، فيضطرون الى الانتقال الى بعض بلاد الكفر التي يحصلون فيها على امن نسبي، كما هو الحال في بلدان الغرب، كالدول الاوربية الغربية، والولايات المتحدة الامريكية وكندا ونحوها.
صنف المسلمين الذين هم اصلا: من بلاد الكفر.
صنف التجار: الذين يحتاجون الى البقاء في بلاد الكفر.
والجواب: ان الضرورة تقدر بمقدارها.
فاذا خاف هؤلاء الاصناف من الوقوع في جريمة الزنا، بسبب المغريات والسبل الداعية اليه في تلك البلدان، فعليهم ان يتزوجوا مسلمات صالحات من بلادهم ويسافروا بهن معهم، وان يحاولوا ايجاد مساكن متقاربة لهم في البلد الذي ينزلون فيه، لتكون اسرهم متجاورة حتى يحصل بينهم التزاور والتعاون على الخير، ليعيشوا عيشة اسلامية حسب الاستطاعة.
وهذا ممكن للسفراء والموظفين التابعين لهم، وكذلك بالنسبة للطلاب الذين يتمكنون من الدخول في جامعة واحدة، وكذلك الجاليات الاسلامية التي عندها مقدرة على شراء مساكن متجاورة في حارة واحدة واستئجارها، فان هؤلاء يبقون مددا طويلا في تلك البلدان، وعليهم ان يتقوا الله في تربية اسرهم ويحافظون عليها قدر استطاعتهم، واذا وصل اولادهم الى سن يتمكنون معها على الدراسة، فان عليهم ان يبعثوا اولادهم الى بلدانهم، ويجب على حكام شعوبهم ان يسهلوا لهم وسائل التعليم والاشراف على تربيتهم في مدارس خاصة بها اقسام داخلية، الا اذا كان لهم اقارب يشرفون على تربيتهم، او تقوم حكومات الشعوب الاسلامية بانشاء مدارس خاصة في بلدان الكفر، تتولى اعداد مناهجها ومدرسيها وادارييها من المسلمين، وتكون بها اقسام داخلية تتولى الاشراف على الطلاب وتربيتهم تربية اسلامية شاملة، حتى لا يقعوا في احضان الكفار الذين يخشى منهم افسادهم بالعقائد الكافرة وعادات الجاهلية.
وهذه الحالة تشمل الطلاب والسفراء ومن يتبعهم من الموظفين وبعض الجاليات التي يتمكن افرادها، من بعث اولادهم الى بلدانهم او ايجاد مدارس اسلامية خاصة بهم في بلاد الكفر.
وكذلك الذي يدخل في الاسلام من اهل تلك البلدان، اذا تمكن من الحصول على زوجة مسلمة صالحة ومجاورة الاسر المسلمة، ليتعاون معها على تربية اسرته واولاده.
وقد وجدنا يعض المسلمين، تمكنوا في بعض المدن الولايات المتحدة الامريكية، من استئجار منازل لاسرهم متقاربة، وهم من الطلاب، وكذلك بعض الجاليات الاسلامية، كما في مدينة ديربورن التي تسمى: القرية العربية.
اما المسلم الذي يحتاج الى البقاء في تلك البلدان فترات قصيرة للتجارة ونحوها، فعليه ان يصبر ويتقي الله في ترك المحرمات، واذا راى انه يخاف على نفسه فليصطحب معه اهله وبعض محارمها لمرافقتها عند انشغاله، فاذا قضى حاجته رجع الى بلاده.
وكل من يقدر على ترك السكنى في بلاد الكفر، فلا يجوز له البقاء فيها خشية الفتنة على نفسه واسرته، ومن اضطر الى البقاء فيها – والله اعلم بالمضطر – ولم يجد مسلمة يحصن بها نفسه وخاف على نفسه الزنا فيجوز له – من باب الاضطرار – ان يتزوج الكتابية – اليهودية او النصرانية التي ما زالت تعترف بدينها ولم تتنكر له بالالحاد – ولكن يجب عليه ان يتخذ الوسائل التي تمنعها من الانجاب له، لانه اذا انجبت له اولادا خاف عليهم من افسادهم بتنشئتهم على الكفر وعادات الكفار، فانه شبيه بالاسير في بلاد الحرب والتاجر، وقد مضى بانهما لا يتزوجان الكتابية ولا يطان زوجاتهما المسلمات، خشية من اعتداء الكفار عليهن وانجابهن اولادا ليسوا من ازواجهن المسلمين [كما مضى في الفصل الثاني] الا انني ارى ان الزوجة المسلمة يمكن لزوجها ان يطاها وينجب منها اذا كانت صالحة، وغلب على ظنه تمكنه من تربية اولاده منها في بلاده، او في مدرسة اسلامية في نفس البلاد التي يعيش فيها كما مضى، وانما قلنا بوجوب اتخاذ الوسائل التي تمنع الانجاب من الكتابية، لما مضى من المفاسد المترتبة على الزواج بها في بلاد الكفر، ومن ذلك تنشئة الاولاد على الكفر واخلاق الكفار، فاذا غلب على ظنه تنشئتهم على الاسلام، فلا يجب عليه حينئذ ان يتخذ وسائل عدم الانجاب، وهذا يشمل المسلم الوافد الى بلاد الكفر والذي يدخل في الاسلام من اهل ذلك البلد.
النتائج
وبعد فان الصحيح ما عليه جمهور علماء المسلمين من جواز زواج المسلم بالكتابية في بلاد المسلمين – وهي الذمية التي تخضع لاحكام الاسلام العامة – وان الافضل – مع الجواز – ترك ذلك وقد كرهه اغلب العلماء.
وانه لا يجوز للمسلم الزواج بالحربية، وهي الكتابية التي تعيش في بلاد الحرب، على الصحيح من اقوال العلماء.
وان بلاد الكفر اليوم حكمها حكم بلاد الحرب في هذا الحكم بالذات، لان المفاسد التي تترتب على زواج المسلم بالكتابية في بلاد الحرب، تترتب على زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر اليوم.
واذا دعت الضرورة ان يتزوج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر وغلب على ظنه ان ذريته ستنشا تنشئة اسلامية، فلا يجب عليه ان يتخذ الوسائل التي تمنع الانجاب، وان غلب على ظنه عكس ذلك وجب عليه اتخاذ ذلك.
اما اذا غلب على ظنه فتنته هو في دينه او فتنة اولاده منها او من غيرها، فانه لا يجوز له ان يتزوج بها مطلقا، وعليه ان يتقي الله ويبتعد عن الحرام ويبحث عن زوجة مسلمة صالحة.
هذا ما ظهر لي في هذا البحث، فان كان صوابا فالله هو الذي وفقني للوصول اليه، وان كان خطا فاستغفر الله واتوب اليه، وفي كلا الامرين اسال الله ثوابه فاني ما قصدت الا رضاه.
- قد دخلوا في الدين بعد التحريف فلا تعتبر كتابية فلا يجوز نكاحها
- هل ولد صغير يتول في عقر زواج امه