افضل مواضيع جميلة بالصور

رواية اتغنى بها حبيبتي

 

ما زلت اذكر قولك ذات يوم :

“الحب هو ما حدث بيننا. والادب هو كل ما لم يحدث”.

يمكنني اليوم, بعد ما انتهى كل شيء ان اقول :

هنيئا للادب على فجيعتنا اذن فما اكبر مساحة ما لم يحدث . انها تصلح اليوم لاكثر من كتاب .

وهنيئا للحب ايضا …

فما اجمل الذي حدث بيننا … ما اجمل الذي لم يحدث… ما اجمل الذي لن يحدث .

قبل اليوم, كنت اعتقد اننا لا يمكن ان نكتب عن حياتنا الا عندما نشفى منها .

عندما يمكن ان نلمس جراحنا القديمة بقلم , دون ان نتالم مرة اخرى .

عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين, دون جنون, ودون حقد ايضا .

ايمكن هذا حقا ؟

نحن لا نشفى من ذاكرتنا .

ولهذا نحن نكتب, ولهذا نحن نرسم, ولهذا يموت بعضنا ايضا .

– اتريد قهوه ؟

ياتي صوت عتيقة غائبا, وكانه يطرح السؤال على شخص غيري .

معتذرا دون اعتذار, على وجه للحزن لم اخلعه منذ ايام .

يخذلني صوتي فجاة …

اجيب باشارة من راسي فقط .

فتنسحب لتعود بعد لحظات, بصينية قهوة نحاسيه كبيرة عليها ابريق، وفناجين, وسكريه, ومرش لماء الزهر, وصحن للحلويات .

في مدن اخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان, وضعت جواره مسبقا معلقه وقطعة سكر .

ولكن قسنطينة مدينه تكره الايجاز في كل شيء .

انها تفرد ما عندها دائما .تماما كما تلبس كل ما تملك. وتقول كل ما تعرف .

ولهذا كان حتى الحزن وليمه في هذه المدينة .

اجمع الاوراق المبعثرة امامي , لاترك مكانا لفنجان القهوة وكانني افسح مكانا لك ..

بعضها مسودات قديمة, واخرى اوراق بيضاء تنتظر منذ ايام بعض الكلمات فقط… كي تدب فيها الحياة, وتتحول من ورق الى ايام .

كلمات فقط, اجتاز بها الصمت الى الكلام, والذاكرة الى النسيان, ولكن ..

تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني حبك .

فكرت في غرابه هذا الطعم العذب للقهوة المرة . ولحظتها فقط, شعرت انني قادر على الكتابة عنك فاشعلت سيجارة عصبية, ورحت اطارد دخان الكلمات التي احرقتني منذ سنوات, دون ان اطفئ حرائقها مرة فوق صفحه .

هل الورق مطفاة للذاكرة؟

نترك فوقه كل مرة رماد سيجارة الحنين الاخيرة , وبقايا الخيبة الاخيرة. .

من منا يطفئ او يشعل الاخر ؟

لا ادري … فقبلك لم اكتب شيئا يستحق الذكر… معك فقط سابدا الكتابة.

ولا بد ان اعثر اخيرا على الكلمات التي سانكتب بها, فمن حقي ان اختار اليوم كيف انكتب. انا الذي اخترت تلك القصة .

قصه كان يمكن ان لا تكون قصتي, لو لم يضعك القدر كل مره مصادفه, عند منعطفات فصولها .

من اين جاء هذا الارتباك؟

وكيف تطابقت مساحة الاوراق البيضاء المستطيلة, بتلك المساحة الشاسعة البياض للوحات لم ترسم بعد.. وما زالت مسنده جدار مرسم كان مرسمي ؟

وكيف غادرتني الحروف كما غادرتني قبلها الالوان. وتحول العالم الى جهاز تلفزيون عتيق, يبث الصور بالاسود والابيض فقط ؟

ويعرض شريطا قديما للذاكرة, كما تعرض افلام السينما الصامتة .

كنت احسدهم دائما, اولئك الرسامين الذين كانوا ينتقلون بين الرسم والكتابة دون جهد, وكانهم ينتقلون من غرفه الى اخرى داخلهم. كانهم ينتقلون بين امراتين دون كلفة ..

كان لا بد الا اكون رجلا لامراة واحدة !

ها هوذا القلم اذن.. الاكثر بوحا والاكثر جرحا .

ها هو ذا الذي لا يتقن المراوغة , ولا يعرف كيف توضع الظلال على الاشياء . ولا كيف ترش الالوان على الجرح المعروض للفرحة .

وها هي الكلمات التي حرمت منها , عارية كما اردتها , موجعه كما اردتها , فلم رعشة الخوف تشل يدي , وتمنعني من الكتابة؟

تراني اعي في هذه اللحظة فقط ، انني استبدلت بفرشاتي سكينا. وان الكتابة اليك قاتله.. كحبك .

ارتشفت قهوتك المرة, بمتعه مشبوهة هذه المرة. شعرت انني على وشك ان اعثر على جمله اولى, ابدا بها هذا الكتاب .

جمله قد تكون في تلقائية كلمات رسالة .

كان اقول مثلا :

“اكتب اليك من مدينه ما زالت تشبهك, واصبحت اشبهها. ما زالت الطيور تعبر هذه الجسور على عجل, وانا اصبحت جسرا اخر معلقا هنا.

لا تحبي الجسور بعد اليوم..”.

او شيئا اخر مثل :

” امام فنجان قهوة ذكرتك ..

كان لا بد ان تضعي ولو مرة قطعة سكر في قهوتي . لماذا كل هذه الصينية.. من اجل قهوة مرة..؟”.

كان يمكن ان اقول اي شيء …

ففي النهاية, ليست الروايات سوى رسائل وبطاقات, نكتبها خارج المناسبات المعلنة.. لنعلن نشرتنا النفسية, لمن يهمهم امرنا .

ولذا اجملها, تلك التي تبدا بجمله لم يتوقعها من عايش طقسنا وطقوسنا. وربما كان يوما سببا في كل تقلباتنا الجوية .

تتزاحم الجمل في ذهني . كل تلك التي لم تتوقعيها .

وتمطر الذاكرة فجاة ..

فابتلع قهوتي على عجل. واشرع نافذتي لاهرب منك الى السماء الخريفية.. الى الشجر والجسور والمارة.

الى مدينة اصبحت مدينتي مرة اخرى . بعدما اخذت لي موعدا معها لسبب اخر هذه المرة .

ها هي ذي قسنطينة.. وها هو كل شيء انت .

وها انت تدخلين الي, من النافذة نفسها التي سبق ان دخلت منها منذ سنوات. مع صوت الماذن نفسه, وصوت الباعة, وخطى النساء الملتحفات بالسواد, والاغاني القادمة من مذياع لا يتعب …

“يا التفاحة .. يا التفاحة … خبريني وعلاش الناس والعة بيك ..”.

تستوقفني هذه الاغنية بسذاجتها .

تضعني وجها لوجه مع الوطن . تذكرني دون مجال للشك بانني في مدينه عربيه فتبدو السنوات التي قضيتها في باريس حلما خرافيا .

هل التغزل بالفواكه ظاهره عربية؟ ام وحده التفاح الذي ما زال يحمل نكهة خطيئتنا الاولى, شهي لحد التغني به، في اكثر من بلد عربي .

وماذا لو كنت تفاحه؟

لا لم تكوني تفاحه .

كنت المراة التي اغرتني باكل التفاح لا اكثر. كنت تمارسين معي فطريا لعبة حواء . ولم يكن بامكاني ان اتنكر لاكثر من رجل يسكنني, لاكون معك انت بالذات في حماقة ادم !

-اهلا سي خالد..واش راك اليوم ..؟

يسلم علي الجار, تسلقت نظراته طوابق حزني. وفاجاه وقوفي الصباحي, خلف شرفة للذهول .

اتابع في نظرة غائبة, خطواته المتجهة نحو المسجد المجاور . وما يليها من خطوات, لمارة اخرين, بعضها كسلى, واخرى عجلى, متجهة جميعها نحو المكان نفسه .

الوطن كله ذاهب للصلاة .

والمذياع يمجد اكل التفاحة .

واكثر من جهاز هوائي على السطوح, يقف مقابلا الماذن يرصد القنوات الاجنبية، التي تقدم لك كل ليله على شاشة تلفزيونك, اكثر من طريقه _عصريه_ لاكل التفاح !

اكتفي بابتلاع ريقي فقط .

في الواقع لم اكن احب الفواكه. ولا كان امر التفاح يعنيني بالتحديد .

كنت احبك انت. وما ذنبي ان جاءني حبك في شكل خطيئة؟

كيف انت.. يسالني جار ويمضي للصلاة .

فيجيب لساني بكلمات مقتضبة، ويمضي في السؤال عنك .

كيف انا؟

انا ما فعلته بي سيدتي.. فكيف انت ؟

يا امراة كساها حنيني جنونا، واذا بها تاخذ تدريجيا , ملامح مدينه وتضاريس وطن .

واذا بي اسكنها في غفلة من الزمن, وكانني اسكن غرف ذاكرتي المغلقة من سنين .

كيف حالك؟

يا شجرة توت تلبس الحداد وراثيا كل موسم .

يا قسنطينية الاثواب ….

يا قسنطينية الحب … والافراح والاحزان والاحباب .. اجيبي اين تكونين الان؟ .

ها هي ذي قسنطينه …

باردة الاطراف والاقدام. محمومة الشفاه, مجنونة الاطوار .

ها هي ذي .. كم تشبهينها اليوم ايضا … لو تدرين !

دعيني اغلق النافذة!.

كان مارسيل بانيول يقول:

“تعود على اعتبار الاشياء العادية .. اشياء يمكن ان تحدث ايضا ” .

اليس الموت في النهاية شيئا عاديا. تماما كالميلاد, والحب, والزاج, والمرض, والشيخوخة, والغربة والجنون, واشياء اخرى ؟

فما اطول قائمة الاشياء العادية التي نتوقعها فوق العادة, حتى تحدث. والتي نعتقد انها لا تحدث سوى للاخرين, وان الحياة لسبب او لاخر ستوفر علينا كثيرا منها, حتى نجد انفسنا يوما امامها .

عندما ابحث في حياتي اليوم, اجد ان لقائي بك هو الشيء الوحيد الخارق للعادة حقا. الشيء الوحيد الذي لم اكن لاتنبا به، او اتوقع عواقبه علي. لانني كنت اجهل وقتها ان الاشياء غير العادية, قد تجر معها ايضا كثيرا من الاشياء العادية .

ورغم ذلك ….

ما زلت اتساءل بعد كل هذه السنوات, اين اضع حبك اليوم ؟

افي خانة الاشياء العادية التي قد تحدث لنا يوما كاية وعكه صحية او زلة قدم.. او نوبة جنون؟

ام .. اضعه حيث بدا يوما؟

كشيء خارق للعادة, كهدية من كوكب, لم يتوقع وجوده الفلكيون. او زلزال لم تتنبا به اية اجهزة للهزات الارضية .

اكنت زلة قدم .. ام زلة قدر ؟.

اقلب جريدة الصباح بحثا عن اجوبة مقنعه لحدث “عادي” غير مسار حياتي وجاء بي الى هنا .

اتصفح تعاستنا بعد كل هذه الاعوام , فيعلق الوطن حبرا اسود بيدي .

هناك صحف يجب ان تغسل يديك ان تصفحتها وان كان ليس للسبب نفسه في كل مرة. فهنالك واحده تترك حبرها عليك .. واخرى اكثر تالقا تنقل عفونتها اليك .

الان الجرائد تشبه دائما اصحابها, تبدو لي جرائدنا وكانها تستيقظ كل يوم مثلنا, بملامح متعبه وبوجه غير صباحي غسلته على عجل، ونزلت به الى الشارع. هكذا دون ان تكلف نفسها مشقة تصفيف شعرها, او وضع ربطة عنق مناسبة.. او اغرائنا بابتسامة .

25 اكتوبر 1988 .

عناوين كبرى.. كثير من الحبر الاسود. كثير من الدم. وقليل من الحياء .

هناك جرائد تبيعك نفس صور الصفحة الاولى.. ببدلة جديدة كل مره .

هنالك جرائد.. تبيعك نفس الاكاذيب بطريقة اقل ذكاء كل مرة ….

وهنالك اخرى، تبيعك تذكرة للهروب من الوطن.. لا غير .

وما دام ذلك لم يعد ممكنا, فلاغلق الجريدة اذن.. ولاذهب لغسل يدي .

اخر مره استوقفتني فيها صحيفة جزائرية, كان ذلك منذ شهرين تقريبا. عندما كنت اتصفح عن طريق المصادفة, واذا بصورتك تفاجئني على نصف صفحه باكملها, مرفقه بحوار صحافي بمناسبة صدور كتاب جديد لك .

يومها تسمر نظري امام ذلك الاطار الذي كان يحتويك. وعبثا رحت افك رموز كلامك . كنت اقراك مرتبكا، متلعثما, على عجل. وكانني انا الذي كنت اتحدث اليك عني, ولست انت التي كنت تتحدثين للاخرين, عن قصة ربما لم تكن قصتنا .

اي موعد عجيب كان موعدنا ذلك اليوم! كيف لم اتوقع بعد تلك السنوات ان تحجزي لي موعدا على ورق بين صفحتين, في مجلة لا اقراها عادة .

انه قانون الحماقات، اليس كذلك؟ ان اشتري مصادفة مجلة لم اتعود شراءها، فقط لاقلب حياتي راسا على عقب

واين العجب؟

الم تكوني امراة من ورق. تحب وتكره على ورق. وتهجر وتعود على ورق. وتقتل وتحيي بجرة قلم.

فكيف لا ارتبك وانا اقراك. وكيف لا تعود تلك الرعشة المكهربة لتسري في جسدي، وتزيد من خفقان قلبي، وكانني كنت امامك، ولست امام صورة لك.

تساءلت كثيرا بعدها، وانا اعود بين الحين والاخر لتلك الصورة، كيف عدت هكذا لتتربصي بي، انا الذي تحاشيت كل الطرق المؤدية اليك؟

كيف عدت.. بعدما كاد الجرح ان يلتئم. وكاد القلب المؤثث بذكراك ان يفرغ منك شيئا فشيئا وانت تجمعين حقائب الحب، وتمضين فجاة لتسكني قلبا اخر.

غادرت قلبي اذن..

كما يغادر سائح مدينة جاءها في زيارة سياحية منظمة. كل شيء موقوت فيها مسبقا، حتى ساعة الرحيل، ومحجوز فيها مسبقا، حتى المعالم السياحية التي سيزورها، واسم المسرحية التي سيشاهدها، وعنوان المحلات التي سيشتري منها هدايا للذكرى.

فهل كانت رحلتك مضجرة الى هذا الحد؟

ها انا امام نسخة منك، مدهوش مرتبك، وكانني امامك.

تفاجئني تسريحتك الجديدة. شعرك القصير الذي كان شالا يلف وحشة ليلي.. ماذا تراك فعلت به؟

اتوقف طويلا عند عينيك. ابحث فيهما عن ذكرى هزيمتي الاولى امامك.

ذات يوم.. لم يكن اجمل من عينيك سوى عينيك. فما اشقاني وما اسعدني بهما!

هل تغيرت عيناك ايضا.. ام ان نظرتي هي التي تغيرت؟ اواصل البحث في وجهك عن بصمات جنوني السابق. اكاد لا اعرف شفاهك ولا ابتسامتك وحمرتك الجديدة.

كيف حدث يوما.. ان وجدت فيك شبها بامي. كيف تصورتك تلبسين ثوبها العنابي، وتعجنين بهذه الايدي ذات الاظافر المطلية الطويلة، تلك الكسرة التي افتقدت مذاقها منذ سنين؟

اي جنون كان لك.. واية حماقة!

هل غير الزواج حقا ملامحك وضحكتك الطفولية، هل غير ذاكرتك ايضا، ومذاق شفاهك وسمرتك الغجرية؟

وهل انساك ذلك “النبي المفلس” الذي سرقوا منه الوصايا العشر وهو في طريقه اليك.. فجاءك بالوصية الحادية عشرة فقط.

ها انت ذي امامي، تلبسين ثوب الردة. لقد اخترت طريقا اخر. ولبست وجها اخر لم اعد اعرفه. وجها كذلك الذي نصادفه في المجلات والاعلانات، لتلك النساء الواجهة، المعدات مسبقا لبيع شيء ما، قد يكون معجون اسنان، او مرهما ضد التجاعيد.

ام تراك لبست هذا القناع، فقط لتروجي لبضاعة في شكل كتاب، اسميتها “منعطف النسيان” بضاعة قد تكون قصتي معك.. وذاكرة جرحي؟

وقد تكون اخر طريقه وجدتها لقتلي اليوم من جديد, دون ان تتركي بصماتك على عنقي .

يومها تذكرت حديثا قديما لنا . عندما سالتك مرة لماذا اخترت الرواية بالذات. واذا بجوابك يدهشني .

قلت يومها بابتسامة لم ادرك نسبة الصدق فيها من نسبة التحايل:

” كان لا بد ان اضع شيئا من الترتيب داخلي.. واتخلص من بعض الاثاث القديم . ان اعماقنا ايضا في حاجة الى نفض كاي بيت نسكنه ولا يمكن ان ابقي نوافذي مغلقه هكذا على اكثر من جثة ..

اننا نكتب الروايات لنقتل الابطال لا غير, وننتهي من الاشخاص الذين اصبح وجودهم عبئا على حياتنا. فكلما كتبنا عنهم فرغنا منهم… وامتلانا بهواء نظيف …” .

واضفت بعد شيء من الصمت:

” في الحقيقة كل رواية ناجحة, هي جريمة ما نرتكبها تجاه ذاكرة ما. وربما تجاه شخص ما, على مراى من الجميع بكاتم صوت. ووحده يدري ان تلك الكلمة الرصاصة كانت موجهة اليه

والروايات الفاشلة, ليست سوى جرائم فاشلة, لا بد ان تسحب من اصحابها رخصة حمل القلم, بحجة انهم لا يحسنون استعمال الكلمات, وقد يقتلون خطا بها اي احد .. بمن في ذلك انفسهم , بعدما يكونون قد قتلوا القراء … ضجرا !”.

كيف لم تثر نزعتك السادية شكوكي يومها .. وكيف لم اتوقع كل جرائمك التي تلت ذلك اليوم, والتي جربت فيها اسلحتك الاخرى؟

لم اكن اتوقع يومها انك قد توجهين يوما رصاصك نحوي .

ولذا ضحكت لكلامك, وربما بدا يومها انبهاري الاخر بك. فنحن لا نقاوم, في هذه الحالات , جنون الاعجاب بقاتلنا !

ورغم ذلك ابديت لك دهشتي . قلت :

_ كنت اعتقد ان الرواية طريقه الكاتب في ان يعيش مرة ثانيه قصه احبها.. وطريقته في منح الخلود لمن احب .

وكان كلامي فاجاك فقلت وكانك تكتشفين شيئا لم تحسبي له حسابا:
– وربما كان صحيحا ايضا, فنحن في النهاية لا نقتل سوى من احببنا. ونمنحهم تعويضا عن ذلك خلودا ادبيا . انها صفقه عادلة . اليس كذلك؟!
عادله ؟

من يناقش الطغاة في عدلهم او ظلمهم؟ ومن يناقش نيرون يوم احرق روما حبا لها, وعشقا لشهوة اللهب . وانت, اما كنت مثله امراة تحترف العشق والحرائق بالتساوي؟

اكنت لحظتها تتنباين بنهايتي القريبة، وتواسينني مسبقا على فجيعتي…

ام كنت تتلاعبين بالكلمات كعادتك, و وتتفرجين على وقعها علي, وتسعدين سرا باندهاشي الدائم امامك, وانبهاري بقدرتك المذهلة, في خلق لغة على قياس تناقضك .

كل الاحتمالات كانت ممكنه …

فربما كنت انا ضحية روايتك هذه, والجثة التي حكمت عليها بالخلود, وقررت ان تحنطيها بالكلمات… كالعادة.

و ربما كنت ضحية وهمي فقط, ومراوغتك التي تشبه الصدق. فوحدك تعرفين في النهاية الجواب على كل تلك الاسئلة التي ظلت تطاردني, بعناد الذي يبحث عن الحقيقة دون جدوى .

متى كتبت ذلك الكتاب؟

اقبل زواجك ام بعده؟ اقبل رحيل زياد .. ام بعده؟ اكتبته عني .. ام كتبته عنه؟ اكتبته لتقتليني به.. ام لتحييه هو ؟

لم لتنتهي منا معا، وتقتلينا معا بكتاب واحد… كما تركتنا معا من اجل رجل واحد ؟

عندما قرات ذلك الخبر منذ شهرين,. لم اتوقع اطلاقا ان تعودي فجاة بذلك الحضور الملح, ليصبح كتابك محور تفكيري, ودائرة مغلقه ادور فيها وحدي .

فلا كان ممكنا يومها بعد كل الذي حدث, ان اذهب للبحث عنه في المكتبات , لاشتري قصتي من بائع مقابل ورقه نقدية. ولا كان ممكنا ايضا ان اتجاهله واواصل حياتي وكانني لم اسمع به , وكان امره لا يعنيني تماما .

الم اكن متحرقا الى قراءة بقية القصة؟

قصتك التي انتهت في غفلة مني , دون ان اعرف فصولها الاخيرة. تلك التي كنت شاهدها الغائب, بعدما كنت شاهدها الاول. انا الذي كنت,. حسب قانون الحماقات نفسه. الشاهد والشهيد دائما في قصة لم يكن فيها من مكان سوى لبطل واحد .

ها هوذا كتابك امامي.. لم يعد بامكاني اليوم ان اقراه. فتركته هنا على طاولتي مغلقا كلغز, يتربص بي كقنبلة موقوتة, استعين بحضوره الصامت لتفجير منجم الكلمات داخلي … واستفزاز الذاكرة .

كل شيء فيه يستفزني اليوم .. عنوانه الذي اخترته بمراوغه واضحة.. وابتسامتك التي تتجاهل حزني . ونظرتك المحايدة التي تعاملني وكانني قارىء, لا يعرف الكثير عنك .

كل شيء.. حتى اسمك .

وربما كان اسمك الاكثر استفزازا لي, فهو مازال يقفز الى الذاكرة قبل ان تقفز حروفه المميزة الى العين .

اسمك الذي .. لا يقرا وانما يسمع كموسيقى تعزف على الة واحدة من اجل مستمع واحد.

كيف لي ان اقراه بحياد, وهو فصل من قصة مدهشه كتبتها الصدفة, وكتبها قدرنا الذي تقاطع يوما؟

يقول تعليق على ظهر كتابك انه حدث ادبي .

واقول وانا اضع عليه حزمة من الاوراق التي سودتها في لحظة هذيان..

” حان لك ان تكتب.. او تصمت الى الابد ايها الرجل . فما اعجب ما يحدث هذه الايام !”

وفجاة.. يحسم البرد الموقف, ويزحف ليل قسنطينة نحوي من نافذة للوحشة. فاعيد للقلم غطاءه, وانزلق بدوري تحت غطاء الوحدة .

مذ ادركت ان لكل مدينة الليل الذي تستحق, الليل الذي يشبهها والذي وحده يفضحها, ويعري في العتمة ما تخفيه في النهار, قررت ان اتحاشى النظر ليلا من هذه النافذة .

كل المدن تمارس التعري ليلا دون علمها, وتفضح للغرباء اسرارها , حتى عندما لا تقول شيئا .

وحتى عندما توصد ابوابها.

ولان المدن كالنساء, يحدث لبعضهن ان يجعلننا نستعجل قدوم الصباح. ولكن …

“soirs, soirs.que de soirs pour un seul matin ..”

كيف تذكرت هذا البيت للشاعر “هنري ميشو” ورحت اردده على نفسي باكثر من لغة ..

“امسيات .. امسيات كم من مساء لصباح واحد ”

كيف تذكرته, ومتى تراني حفظته؟ .. تراني كنت اتوقع منذ سنين امسيات بائسة كهذه, لن يكون لها سوى صباح واحد ؟

انقب بعض الشيء في ذاكرتي عن القصيدة التي اخذ منها هذا البيت, واذا بعنوانها “الشيخوخة” ..

فيخيفني اكتشافي فجاة وكانني اكتشف معه ملامح وجهي الجديدة. فهل تزحف الشيخوخة هكذا نحونا حقا بليل طويل واحد. وبعتمة داخليه تجعلنا نتمهل في كل شيء, ونسير ببطء, دون اتجاه محدد؟

ايكون الملل والضياع والرتابة جزءا من مواصفات الشيخوخة ام من مواصفات هذه المدينة ؟

تراني انا الذي ادخل الشخوخة.. ام ترى الوطن باكمله هو الذي يدخل اليوم سن الياس الجماعي؟

اليس هو الذي يملك هذه القدرة الخارقة, على جعلنا نكبر ونهرم في بضعة اشهر, واحيانا في بضعة اسابيع فقط ؟

قبل اليوم لم اكن اشعر بثقل السنين, كان حبك شبابي, وكان مرسمي طاقتي الشمسية التي لا تنضب, وكانت باريس مدينه انيقة, يخجل الواحد ان يهمل مظهره في حضرتها . ولكنهم طاردوني حتى مربع غربتي, واطفاوا شعلة جنوني … وجاؤوا بي حتى هنا .

الان نحن نقف جميعا على بركان الوطن الذي ينفجر , ولم يعد في وسعنا , الا ان نتوحد مع الجمر المتطاير من فوهته, وننسى نارنا الصغيرة… اليوم لا شيء يستحق كل تلك الاناقة واللياقة. الوطن نفسه اصبح لا يخجل ان يبدو امامنا في وضع غير لائق !

السابق
ابنى يخاف من الناس
التالي
دبل للرجال