وبركاته
الحمد لله الذي له ملك السماوات والارض وله الحمد في الاخرة وهو الحكيم الخبير، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير، واشهد ان محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى اله واصحابه والتابعين لهم باحسان الى يوم الدين، وسلم تسليما .
اما بعد:
ايها الناس، اتقوا الله تعالى .
عباد الله، اعلموا ان الله وحده له الخلق والامر، فلا خالق الا الله، ولا مدبر للخلق الا الله، ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله، فهو الذي يوجب الشيء ويحرمه، وهو الذي يندب اليه ويحلله .
ولقد انكر الله على من يحللون ويحرمون باهوائهم فقال تعالى: ﴿قل ارايتم ما انزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله اذن لكم ام على الله تفترون (59) وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة﴾ [يونس: 59-60]، وقال تعالى: ﴿ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (116) متاع قليل ولهم عذاب اليم﴾ [النحل: 116-117].
عباد الله، ان من اكبر الجنايات ان يقول الشخص عن شيء انه حلال وهو لا يدري عن حكم الله فيه، او يقول عن الشيء انه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه، او يقول عن الشيء انه واجب وهو لا يدري ان الله اوجبه، او يقول عن الشيء انه غير واجب وهو لا يدري ان الله لم يوجبه؛ ان هذا جناية وسوء ادب مع الله عز وجل، كيف تعلم – ايها العبد – ان الحكم لله ثم تتقدم بين يديه فتقول في دينه وشريعته ما لا تعلم ؟
لقد قرن الله تعالى القول عليه بلا علم بالشرك فقال سبحانه وتعالى: ﴿قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ [الاعراف: 33] .
عباد الله، ان كثيرا من العامة يفتي بعضهم بعضا بما لا يعلمون: فتجدهم يقولون هذا حلال او حرام او واجب او غير واجب وهم لا يدرون عن ذلك شيئا، افلا يعلم هؤلاء المفتون ان الله تعالى سائلهم عما قالوا يوم القيامة ؟ افلا يعلم هؤلاء المفتون انهم اذا اضلوا شخصا فاحلوا له ما حرم الله او حرموه مما احل الله له فقد باؤوا باثمه وكان عليهم مثل وزر ما عمله وذلك بسبب ما افتوه به من الجهل ؟
ان بعض العامة يجني جناية اخرى: فاذا راى شخصا يريد ان يستفتي عالما يقول له هذا العامي: لا حاجة ان تستفتي، هذا امر واضح، هذا حرام مع انه في الواقع حلال، فيحرمه ما احل الله له، او يقول له: هذا واجب وهو ليس بواجب فيلزمه بما لم يلزمه الله به، او يقول له: هذا غير واجب وهو واجب في شريعة الله فيسقط عنه ما اوجب الله عليه، او يقول: هذا حلال وهو في الواقع حرام فيوقعه فيما حرم الله عليه، وهذا جناية منه على شريعة الله وخيانة لاخيه المسلم؛ حيث غره بدون علم، ارايتم لو ان شخصا سال عن طريق بلد من البلدان فقلتم الطريق من هنا وانتم لا تعلمون، افلا يعد الناس ذلك خيانة منكم وتغريرا ؟ فكيف تتكلمون عن طريق الله، عن شريعة الله، عن طريق جنته، كيف تتكلمون عنها وانتم لا تعلمون عنها ؟
وان بعض المتعلمين انصاف العلماء يقع فيما يقع فيه العامة من الجراة على الشريعة في التحليل والتحريم والايجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون ويجملون في الشريعة ويفصلون وهم من اجهل الناس في احكام الله، اذا سمعت الواحد منهم يتكلم فكانما ينزل عليه الوحي من جزمه فيما يقول وعدم تورعه، لا يمكن ان ينطق بلا ادري او لا اعلم مع ان عدم العلم هو وصفه الحق ومع ذلك يصر بناء على جهله على انه عالم فيضر العامة؛ لان الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء القوم يقتصرون على نسبة الامر اليهم، لا بل تراهم ينسبون ذلك للاسلام فيقول: الاسلام يقول كذا، الاسلام يرى كذا، وهذا لا يجوز الا فيما علم القائل انه من دين الاسلام ولا طريق الى ذلك الا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – او اجماع المسلمين عليه .
ان بعض الناس لجراته وعدم ورعه وعدم حيائه من الله وعدم خوفه منه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه، يقول: ما اظن هذا حراما، او عن الشيء الواجب الواضح وجوبه، يقول: ما اظن هذا واجبا، اما جهلا منه او عنادا ومكابرة او تشكيكا لعباد الله في دين الله .
فنسال الله ان يعافينا من حال هؤلاء وان يهديهم الى الحق وان يريهم الحق حقا ويرزقهم اتباعه .
ان من العقل وان من الايمان وان من تقوى الله وتعظيمه ان يقول الرجل عما لا يعلم: لا اعلم، لا ادرى، اسال غيري؛ فان ذلك من تمام العقل؛ لان الناس اذا راوا تثبته وثقوا به؛ ولانه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلتها وان ذلك ايضا من تمام الايمان بالله وتقوى الله؛ حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه في دينه ما لا يعلم، ولقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو اعلم الخلق بدين الله، كان يسال عما لم ينزل عليه فيه الوحي فينتظر حتى ينزل عليه الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه .
لقد كنتم تقرؤون في كتاب الله امثال هذه الايات ﴿يسالونك ماذا احل لهم قل احل لكم الطيبات﴾ [المائدة: 4]، ﴿ويسالونك عن ذي القرنين قل ساتلو عليكم منه ذكرا﴾ [الكهف:83]، ﴿يسالونك عن الساعة ايان مرساها قل انما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها الا هو﴾ [الاعراف: 187]، ولقد كان الاجلاء من الصحابة تعرض لهم المسالة لا يدرون حكم الله فيها فيهابونها ويتوقفون فيها، فهاهو ابو بكر – رضي الله عنه – اولى الخلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «اي سماء تظلني واي ارض تقلني اذا انا قلت في كتاب الله بغير علم»(1) «وهاهو عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها»(2) قال ابن سيرين: «لم يكن احد اهيب مما لا يعلم من ابي بكر ولم يكن احد بعد ابي بكر اهيب بما لا يعلم من عمر»(3) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «ايها الناس، من سئل عن علم يعلمه فليقل به ولم يكن عنده علم فليقل: الله اعلم؛ فان من العلم ان يقول لما لا يعلم: الله اعلم»(4) و«سئل الشعبي عن مسالة فقال: لا احسنها، فقال له اصحابه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: ﴿لا علم لنا الا ما علمتنا﴾»(5) [البقرة: 32] .
فاتقوا الله عباد الله، لا تقولوا في دين الله ما لا تعلمون، لا تتجرؤوا على رب العزة والعظمة؛ انه ان كان لا يمكنكم ان تقولوا على ادنى واحد من ملوك الارض ما لا تعلمون فكيف تتجرؤون فتقولون على الملك القهار ما لا تعلمون ؟ ﴿فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ان الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ [الانعام: 144] .
اللهم اعصمنا من الزلل، ووفقنا لصواب العقيدة والقول والعمل، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين؛ انك انت الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على احسانه، واشكره على توفيقه وامتنانه، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له في الوهيته وربوبيته وسلطانه، واشهد ان محمدا عبده ورسوله المؤيد ببرهانه، الداعي الى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وانصاره واعوانه، وسلم تسليما .
اما بعد:
ايها الناس، اتقوا الله تعالى وعظموا شريعة الله وعظموا دين الله، لا تقولوا على الله ما لا تعلمون، وانه ما اكثر ما يفتي العوام بما لا يعلمون في دين الله فيضلون ويضلون عباد الله وما اكثر الامثلة على ذلك ولكنني اضرب لكم امثلة:
اولا: يفتي بعض العامة ان المريض اذا تنجست ثيابه ولم يمكنه ان يطهرها يفتيه بانه لا يصلي حتى يطهر ثيابه، وهذه فتوى كذب خاطئة باطلة؛ فالمريض يصلي ولو كان عليه ثياب نجسة ولو كان بدنه نجسا اذا كان لا يستطيع ان يطهر ذلك؛ لان الله يقول: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ [التغابن: 16]، فيصلي المريض على حسب حاله وعلى حسب ما يقدر عليه يصلي قائما فان لم يستطع فقاعدا فان لم يستطع فعلى جنبه يومئ براسه ان استطاع فان لم يستطع اوما بعينه عند بعض اهل العلم فان لم يستطع الايماء بعينه وكان معه عقله فلينو الفعل بقلبه وليقل القول بلسانه، مثلا يقول: الله اكبر ثم يقرا الفاتحة وسورة، ثم يقول: الله اكبر وينوي انه راكع وان لم يقدر على الحركة، ثم يقول: سمع الله لمن حمده وينوي انه رفع من الركوع، ثم يقول هكذا في السجود وبقيه افعال الصلاة ينوي الفعل الذي لا يقدر عليه ينويه بقلبه ولا يؤخر الصلاة عن وقتها .
ايها المسلمون، اما تعلمون انه بسبب هذه الفتوى الكاذبة الخاطئة انه يموت بعض المسلمين وهم لا يصلون من اجل هذه الفتوى الكاذبة، ولو انهم علموا ان الانسان يصلي على اي حال كان لماتوا وهم يصلون .
وان من الفتوى الخاطئة: ان بعض العوام يقول: ان الرجل اذا طلق زوجته وهي حامل فان الطلاق لا يقع، وهذه ايضا فتوى كاذبة خاطئة مخالفة لكتاب الله؛ فالانسان اذا طلق زوجته وهي حامل وقع الطلاق عليها؛ لان الله يقول: ﴿واولات الاحمال اجلهن ان يضعن حملهن﴾ [الطلاق: 4]، اي: ان المراة اذا طلقت وهي حامل فان عدتها تنتهي اذا وضعت الحمل وهذا نص صريح في ان الحامل يصح طلاقها ويقع عليها الطلاق، وهذه الفتوى الكاذبة الخاطئة من بعض العامة لا يجوز الاعتماد عليها، ويجب ان ينشر بين الناس ان طلاق الحامل واقع كطلاق غير الحامل .
ومن الامثلة ايضا: ان بعض العوام يقول: اذا ذبحت الذبيحة الى غير القبلة فانها تكون ميتة ولا يحل اكلها، وهذا خطا ايضا؛ فانه اذا ذبحت الذبيحة الى غير القبلة فان الذبيحة تكون حلالا وليس عليك في ذلك اثم ولا معصية لله ورسوله .
مثل هذه المسائل واشباهها كثير يجب على العامة ان يتلقوا احكامها من اهل العلم؛ حتى يعرفوا بذلك حكم الله عز وجل؛ وحتى لا يقولوا في دين الله ما لا يعلمون .
واعلموا – ايها المسلمون – «ان خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الامور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم بالجماعة وهي: لزوم دين الله عز وجل؛ فان يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار»، واعلموا ان الله امركم بامر بدا فيه بنفسه فقال جل من قائل عليما: ﴿ان الله وملائكته يصلون على النبي يا ايها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ [الاحزاب: 56] .
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم ادخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جناته النعيم مع الذين انعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين .
اللهم ارض عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة اجمعين وعن التابعين لهم باحسان الى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم واصلح احوالنا كما اصلحت احوالهم يارب العالمين .
اللهم اعز الاسلام والمسلمين، واذل الشرك والمشركين، ودمر اعداء الدين، واجعل بلدنا هذه امنا وسائر بلاد المسلمين .
اللهم انا نسالك ان توفق المسلمين للولاة المخلصين الناصحين وان تزيل عنهم الولاة الظلمة الذين ياخذونهم بغير الحق؛ انك على كل شيء قدير .
اللهم اصلح بطانة ولاة امور المسلمين ومن كان من بطانتهم غير ناصح لهم ولا لعبادك فابعده عنهم يا رب العالمين، ﴿ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ [الاعراف: 23]، ﴿ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا انك رءوف رحيم﴾ [الحشر: 10] .
اللهم ارزقنا شكر نعمتك على ما انعمت به علينا من هذا الغيث واجعله نافعا وصيبا مباركا يا رب العالمين، وامنن علينا بغيث قلوبنا بالعلم والايمان؛ انك على كل شيء قدير .
عباد الله، ﴿ان الله يامر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (90) واوفوا بعهد الله اذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ان الله يعلم ما تفعلون﴾ [النحل:90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ﴿ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون﴾ [العنكبوت: 45]