-لا..خرحت هذه الكلمة بقسوة ووحشية فقطعت سؤال الكاهن
وحل محله الصمت الذي اطبق على الحاضرين.
عاد الكاهن يقول :”ايدان؟هل تقبل باينديا زوجة لك؟”.
-لا….!.
-لايمكن ان تعني…
انقضت يده عليها بسرعة يجذبها بعنف وقسوة:
-لا..لن اتزوج بك في السراء وفي الضراء،في الصحة وفي
المرض في الغنى وفي الفقر…
وخرج ايدن وولف من حياة العروس المحطمة بدون اكتراث كمن
يدوس زهرة مرمية..وكما رحل عاد..بعد سنة..فخبات اينديا دموع الذل
في عينها خلف ستار اللا مبالاة ،لن تكون لعبة سهلة هذه المرة
،لكن ايدان مازال يسعى للانتقام،والثمن الذي ستدفعه الان سيكون اكبر…
1- اصابع باردة
لا..كانت هذه الكلمة الوحيدة التي لم يتوقع احد سماعها في مناسبة كهذه،فما كان لاي من
الحشد في كنيسة القرية الصغيرة ان ينتظر حدوث امر مماثل.
كلمة واحدة وحسب ،غير انها كانت كافية لافساد جو السعادة والبهجة العارمة في يوم كان يفترض انه من اروع ايام اينديا فاذا به يتحول الى اسوا كابوس شهدته في حياتها.
قبل بضع ثوان،كان عمها الكاهن يبتسم مشجعا الزوجين الماثلين امامه ،فتلاقت عيناه بعيني اينديانا الخضراوين عبر خمارها الرقيق الشفافنقال الكاهن:
-والان نصل الى اهم مرحلة في المراسم،وهيي تكريسكما،”ايدان…”.
كان الرجل الواقف بجانب ابنة اخيه قد اعتدلت قامته بشكل ملحوظ،وارتفع راسه الداكن وتراجعت كتفاه للوراء..لفتت هذه الحركة البسيططة نظر اينديا الذي تحول اليه على الفور فرات التوتر مرتسما على وجهه،وعضلات فكه منقبضة،ولكن سرعان ماتلاشى قلقها ،واتسعت ابتسامتها المرتعشة وارتسمت بثقة اكبر على شفتيها.
ماكانت لتصدق ان هذا الرجل سيخاف في هذه اللحظات الهامة،وحين احست بخشيته انبعث الدفء في قلبها،مما جعلها تترك يدها لتنسل في يده،ولكن اربكها قليلا الا يظهر ايدان اي تجاوب،واكتفى في المقابل بترك يدها تستقر في يده دون ان تلتف اصابعه القوية حولها كما كانت تتوقع.
تناهى صوت عمها قائلا:
-ايدان هل تقبل بانديا زوجة لك..؟
-ايدان؟
كان لنداء “وليام مارشتت”المتسائل صدى بين الحشد..فتعالت همسات الحاضرين بعفوية وفضول،ولم تتمكن انديا خلف خمارها المزدان بالنقوش من عدم الابتسام،فقد خطر لها ان عائلتها واصدقائها قد توقعوا ان تخونها هي شجاعتها في هذه اللحظة وليس العريس.
على الاقل ليس هذا العريس تحديدا “فايدان وولف “او لون وولف”
الذائع الصيت معروف برجل الاعمال الفولاذي المتحجر القلب،افيعقل ان يفقد هذا الرجل ثقته بنفسه لتخونه الكلمات؟ابدا!
اعاد عمها الكرة:
-ايدان،هل تقبل ب..؟
-لا..
خرجت هذه الكلمات بقسوة تكاد تكون وحشية ،فقطعت سؤال الكاهن ليحل الصمت المطبق بشكل تام ومحكم.
-لا؟.
كان لهذه الكلمة في راس انديا وقع اشبه بالصاعقة التي تخلفها ضربة عنيفة على الراس.وشعرت بالهواء ينسحب من رئتيها..لايعقل انه قال لا؟.
ارتسمت الكلمة على شفتيها دون ان يصدر منها اي صوت وبعينيها الخضراوين اللتين اذهلتهما الصدمة،لم تتمكن سوى بالتحديق الى الرجل الذي اتت هنا لكي تتزوجه،فامتقع وجهها وتلاشت الوانه.
كانت ملامح ايدن الخالية القاسية قد انعكست بوضوح على احدى النوافذ الصغيررة ،وكان راسه الداكن الفخور شامخا الى الاعلى .
انحدر خيط من اشعة الشمس عبر الزجاج الملون فالقى الضوء على قامته الطويلة الصلبة،قبل ان يقع على بقعة ناعمة دافئة من الحجر عند قدميه،لكن بالنسبة للرجل نفسه لم يكن اي شيء دافئا وناعما،حين راته انديا بهذا الشكل تملكها شعور مفاجيء بان اصابع باردة فظيعة قبضت على قلبها وعصرته بوحشية.
حاول عمها مجددا وبصعوبة جليه :ايدن..قلت،هل تقبل..؟
-وقد اجبت بلا!
تحرك اخيرا وارتد الى الوراء ليواجه اينديا وحين رات تعابير وجهه تمنت لو انه ابقى راسه حيث كان.
لم يكن هذا هو الرجل الذي عرفته! لقد تحول الى مخلوق قاسي الملامح ذي عينين داكنتين متقدتين تسحقانها بلهيب من الازدراء.
لم يكن هو الرجل الذي وقعت في حبه من راسها حتى اخمص قدميها.
لاحظت نظراته الفضة التي مرت على وجهها الابيض،التناقض الواضح بين وجنتيها الباهتتين وشلال شعرها الاسود الطويل المصفف.
لم يظهر على وجهه اي اثر للانفعال او عاطفة تبدي تاثره بمظهرها المنسحق.
-ايدان…؟
ارتعشت عند التلفظ باسمه ولم تدر مااذا كانت اليد التي عانقت ذراعه ستقدم لها بعضا من الدعم فقد خافت من الانهيار والوقزع ارضا عند نعليه الانيقين.
-ارجوك،لاتمزح..
وحاولت انتزاع ابتسامة من شفتيها تظهر تفهمها.
لكن ابتسامتها قوبلت بفظاظة عكستها نظرة عدائية رافضة،ثم انتزع يدها من ذراعه بحركة قاسية وقال :”اني لاامزح ياعزيزتي”.
لقد قلت لا وقد عنيت لا.
فما كان من الحشد الا ان حدق بصمت وذهول.
-لايمكن ان تعني..
ردد ايدان ذلك بتهكم:
-لايمكن ان اعني؟
ثم اضاف:
-مالذي لايمكن ان اعنيه ياعزيزتي؟ياالهي”ايجب ان اهجئها لك”حسنا.
انقضت يده عليها بسرعة الثعبان وامسك خصرها بشدة يجذبها اليه بعنف وقسوة مماجعلها تلتف في نصف دائرة لتواجه الحشد.
وبعينبها الهائمتين رات والدها في المقعد الامامي وقد علا الاحمرار وجهه.وتذكرت ببؤس ان والدها لم يكن يرد لهذا الزواج ان يتم وقد حذرها من ربط حياتها برجل بمواصفات ايدن وسمعته.
اردف ايدن:”لنوضح الامر تماما لا،لن اتزوج بك”؟
خرجت كل كلمة بدقة موجعه للتاكد من عدم وجود اي سوء تفاهم.
-لن اتزوج بك في السراء والضراء ،في الصحة وفي المرض،في الغنى وفي الفقر-خاصة في الفقر-او في اي من تلك الوعود التافهة تماما،التي كنت تتوقعين مني ان اتلفظ بها امام كل الحاضرين هنا.
اجفلها تهكمه وسخريته فانهارت امالها وواحلامها لتتناثر حولها اشلاء صغيرة.وكرد فعل طبيعي للدفاع عن النفس حاولت رفع يديها لتسد بهما اذنيها ،فامسك بها ايدان مرغما اياها على انزالهما مجددا لتحدق عينا خشب الابنوس بتلك العينين الخضراوين وقال:
-اسمعي ايتها اللعينة”اريد منك ان تسمعي ماسوف اقول.اريد منك ان تعلمي اني لن اتزوج بك الان او في اي وقت اخر ،واني افضل الموت على ان اسلم نفسي لمثل هذا السجن والاذعان لما اعتبره اسوانوع من الاكاذيب.
-ولكن…
-لا.
لم افلت يدها كما لو ان الامساك بها يصيبه بالعدوى،واخذ نفسا عميقا ثم مرر اصابعه القوية بعنف في شعره الاسود الناعم وقال:
-اسف صغيرتي ،لكن هكذا ستجري الامور
ابرزت اشعة الشمس ومضة البريق التي ترسلها بعض الشعيرات النحاسية في الممر الداكن،وجعلت حركة يده القاسية خصلة شعر واحدة تسقط على جبينه العريض،وحين استعادت ذاكرتها المناسبات العديدة في الماضي،التي كانت قادرة فيها على رفع مثل هذه الخصلة المشاكسة عن وجهه،وجدت اصابعها متلهفة لفعل ذلك.لو انها تمكنت من لمسه.
غير ان وجهه وعينيه التين تقدحان شررا خنقوا هذه الفكرة في مهدها،وفجاة باتت الحقيقة المرة من الصعوبة بحيث فاقت قدرتها على الاحتمال،فصرخت بحدة:”لست اسفا البتة”.
اعتصر الالم اعماقها بقوة حين راته يحني راسه في تاكيد مستهتر لاتهامها وقالت:
-لست اسفا لانك..لانك..
وعلقت الكلمات في حنجرتها..لانك لاتهتم حتى..تلك الكلمات التي عجزت عن النطق بها لفظتها بشكل غير واضح،لتمنع نفسها من الاختناق من حدة الالم.
لطالما علمت منذ بدء علاقتهما العاطفية الجارفة ان مشاعر ايدن لم تكن في الواقع تطابق تماما مشاعرها.فلم يكن هو من صعق بها لذا لم تصدق يوما ان هذا الشخص المذهل يرغب بها حقا،هذا هو الرجل الذي افقدها رشدها واتزانها ،فلم تترد حين طلب منها الزواج في القبول فورا،وكان ان اسرعت في اتمام الزفاف في اسرع وقت ممكن خوفا من ان يغير رايه.
لكن كيف بامكانه ان يفعل ذلك؟كيف يستطيع ببساطة ان يقف هناك بهدوء وبرود ورباطة جاش،في حين انه يحطم عالمها وحياتها كليا مع كل كلمة يتلفظ بها؟
-لاتفعل هذا.
كان صوتها منخفضا جدا،ولكنها تحكمت به بقوة بحيث بدا ببرود صوته هو،واضافت:”لاتجعلني اكرهك”.
فاجابها مرددا:”كره..”.
ارتفعت كتفاه العريضتان في حركة رافضة تكشف الازدراء واللا مبالاة فما كان منها الا ان قالت:
-سوف اكرهك!ساكرهك من كل قلبي!اذا فعلت هذا ياايدان فلن اغفر لك ابدا!.
لقد تبسم فعلا،غير ان شكل شفتيه لم يعكس اي دفء او اي اثر للدعابة،وقال جازما:”حسنا ،هذا جيد بالنسبة الي،ففي الواقع ياحلوتي هذا مااريده تماما”.
وبابتسامته الكريهة ارتد على عقبيه مبتعدا عنها بخطى واسعة وكان صدى خطواته يحطم الصمت المذهول.
-لا!
دفعت اينديا بخمارها المزركش الى الوراء بغضب،لتكشف عن وجه شاحب برزت فيه عيناها الخضراوان البراقتان كحجري زمرد ملتهبين فوق وجنتيها العاليتين وانقبض ثغرها المكتنز الواسع من التوتر،فقالت له:
-لايمكنك ان تفعل هذا!لايمكنك ان تتخلى عني بهذه البساطة!
حدجها بنظرة سريعة قاسية من اعلى كتفيه قائلا:”راقبيني”.
وبتدافع غريزي يتخطى اي تفكير منطقي سليمناندفعت اينديا الى الامام ونزعت باقة الورود الصغيرة الصفراء من يد اشبينتها المدهوشة قائلة:
-لقد قلت لا!
في هذه اللحظة قذفت بالباقة وراءه وراحت تراقب الورود التي اختارتها متجهة مباشرة نحو ظهره العريض.
لكن نوعا من الحدس او نظرة خاطفة القاها بطرف عينه نبهته فارتد برشاقة نمر وبسط ذراعه الطويللة ليلتقط الباقة قبل ان تقع ارضا.
ساد صمت لفترة طويلة ،واصدمت عيناه الداكنتان الغامضتان بعينيها الخضراوين البراقتين من فوق رؤس الحشد فتحجرت كحيوان بري صغير تجمد امام اضواء سيارة اتيه،لكن ايدان مالبث ان قطع فجاة هذا الاتصال المتوتر .فالقى نظرة على الباقة في يده ،ليبتسم بعد لحظة ابتسامة من تلك الابتسامات غير المتوقعه التي لاتعبر ابدا عن حس للدعابة.
ثم رفع الورود في تحية ساخرة قائلا:
-حسنا الان،اعتقد ان هذا يعني انني ساكون اول من يتزوج من بين هؤولاء الحاضرين.اليس هذا مايفترض حدوثه لمن يلتقط باقة العروس؟لكن عليك ان تعذريني اذا مافضلت تفويت هذه الفرصة الخاصة،او اي فرصة اخرى قد تحين،فان مجرد التفكير في حياة العبودية لامراة واحدة هو امر لااستطيع مواجهته.
لم تسطع اينديا تصديق ماتسمعه..حياة العبودية!كان يتكلم كما لو انها اوقعته في شرك بطريقة ما،لكنه هو من طلب منها الزواج!
لماذا طلب اذن الزواج منها؟.
تناهى الى سمعها صوته قائلا:”لكن ربما ان حاولت مرة اخرى فسيكون حظك اوفر مع شخص اخر”.
قذف بالورد نحوها بازدراء وتعمد الا تصل اليها.وعندما وقعت الباقة ارضا اضاف:
-قلت انك ترغبين بالزواج من رجل ثري ياعزيزتي ،لكني اسف فلن اكون انا هذا الرجل،حتى لو كنت اول من يلج من هذا الباب.
فاتضح حينها قصده وانت حزنا لانها تذكرت كلماتها الغبية التي قالتها يوما لصديقتها:
-لقد سئمت وتعبت من الفقر،راقبيني فحسب!ساجد لنفسي زوجا ثريا،يستطيع ان يجعلني احيا بمستوى انوي التعود عليه..ولن اجلس بانتظاره لياتي الي في الواقع،ان الرجل الثري الذي سيلج من هذا الباب سيجد نفسه فريسة حملة من الاغراء بحيث انه لن يتمكن من مقاومتي.واراهنك اني ساضع خاتمه في اصبعي قبل ان يدرك مالذي صعقه…!
لقد كان ذلك مزاحا لاغير،حاولت القول انها كانت تمزح يومذاك ولكن شيئا مامنع حنجرتها من التلفظ بتلك الكلمات .
لكن حين دخل ايدان الغرفة بعد وقت قصير،نسيت في لحظة كل ماجرى قبل ذلك.فتوقف تفكيرها امام تيار من الاحاسيس التي غمرتها بحيث عجزت عن التفكير في اي شيء اخر.
لكن كيف تمكن ايدان من سماع رهانها المجنون؟فلم يكن في المنزل حينها.
ام انه كان؟
-ايدان…
حاولت الكلام لكن صوتها كان من الضعف بحيث لم يصل اليه.
وحين نظرت الى معالم وجهه الصلبة ،علمت انه ماكان ليسمعها على اي حال،وكان لردها البسيط شاهدا عليها ودليلا على ذنبها،فاذا به يقول:
-اذن،انا اسف.
لقد كان جليا من النبرة الشريرة ان الاسف كان اخر مايشعر به.
-عليك ان تتدبري امرك بما لديك،فليس لدي بعد مااقدمه لك.لكن لاتياسي ولاتستسلمي حبيبتي،فمازال البحر مليئا بالاسماك.
ولوحت يده السمراء القوية في الهواء بحركة شملت الحشد الذي كان يراقب بعيون دهشة.
لاحظت اينديا ببؤس عائلتها واصدقائها ،لقد كانت تعلم ان ايدان ليس له عائلة على قيد الحياة ،وقد زعم ان السرعة التي تم فيها الاعداد للزفاف حالت دون ان يتمكن اصدقاؤه من حضور الزفاف،وهي الان تتسائل عما اذا دعا في الواقع ايا منهم ،منذ متى كان يخطط للانتقام بمثل هذا الرفض العلني؟.
تابع قائلا:”انا متاكد ان احدا ما هنا سيكون عازما على اسدائك هذه الخدمة،لكن لاتنتظري مني ان ابقى للمشاهدة”.
وما ان انهى كلامه حتى ارتد على عقبيه وابتعد عنها خارجا من الكنيسة ومن حياتها دون ان ينظر للوراء********************