للكاتب الامريكي او. هنري
ترجمة حصه العمار
مكتبة العبيكان
وشرع شاب قوي الجسم ، واثق الخطوة ، يصعد الطريق مرتديا زي صياد ظباء .. وبدا محياه الوسيم وقد لوحته الشمس بسمرة محببه . وكان رشيق الخطوات ينطق ناظره بالصراحه والصدق وسلامة الطوية , وكان يدندن بمقاطع من اغنية صيد ” بافاريه ” ، فيما كانت يده تطبق على زهرة برية بيضاء اقتطفها من حافة الوادي ، وفجاه تسمر في مكانه وماتت على شفتيه حروف الاغنيه حينما عبرت الطريق امامه فتاة في زي فلاحة سويسريه . كانت تحمل دلو ماء صغير ملاته من النبع القريب لتوها . كان شعرها الكثيف منسكبا على كتفيها كشلال تبر انساب في دعة حتى عبر خط خصرها الرقيق ، ولمعت عيناها ببريق الشفق المتغلغل في قنوات السماء ، فيما تسللت من بين شفتها نصف المفتوحتين ابتسامة كشفت عن اسنان تاصعة البياض ، وكانما جذبتها قوى غامضة ، تسمر كل منهما في مكانه لا يحيد عن الاخر بنظره ، على ان الصياد تقدم بشجاعة منها قبل ان يلمس في رقة ريش قبعته وينحني لها احتراما محييا اياها ببضع كلمات المانيه ، وردت الفاتنه تحيته بصوت ارعش خجلى نبراته ، على ان بابا فتح لكوخ بين الاشجار لم يكن من قبل واضحا للعيان ، وارتفعت على اثره اصوات شتى اصطبغ في اعقابها خدا الفتاة بحمرة قانيه ، وخطت عائدة من حيث اتت .. لكنها التفتت اليه فجاه فرمقته بنظرة طويله ثابته وكانما لتختزن صورته في فؤادها العمر كله ، فتحظنه داخل اجفانها ، وشعرت وهي ترنو اليه بانها تعرفه منذ امد بعيد بعيد .. وتقدم هو منها بضع خطوات ثم اشار اليها بيده في توسل ان لا ترحلي ، الا انها نظرت بوجد اليه ثم اخرجت من صدرها بضع زهرات ( جنتانيا ) الزرقاء فرمت بها اليه ، والتقطها بخفة قبل ان تقع ، ثم تقدم بدوره صوبها ووضع في يدها زهراته البريه فدستها بسرعه في صدر فستانها قريبا من قلبها ، وعدت عائدة كظبي رشيق .. الى مصدر الاصوات المختلطه . وظل الصياد في مكانه .. لا يبرحه لوهلة ، ثم اسرع في استئناف سيره صاعدا النهر ببطء اكثر ، وبدا كمن فقد عزيزا ، فماتت على شفتيه اهازيج اغنيته النشوى انفا ، المفعمة باريج السعادة والمرح وخلو البال ، وكان وهو يسير يضغط بازاهيرها على شفتيه بين الفينة والاخرى .
اعدت العده لزواج القرن .. وكان كل ساكن يحلم بان تصله دعوة لحضوره .. كان العريس ينتمي الى اكثر العائلات وجاهة .. ال (فان وينكلر) ويتسنم منصبا مرموقا ، واما العروس فساحرة الحسن مكتملة الجمال .. وبمهر بلغ خمسة ملايين دولار وكانت ترتيبات الزواج قد جرت فيما يشبه الصفقة التجارية ، ما كان للعاطفة والحب اي دور فيها مقايضة محضة وطلب سريع رضيت به دون جم اكتراث .
وتذكرت كيف التقت عائلتاهما قبل عام في احد منتجعات سويسرا … وبالاحرى كيف تم الاندماج بين عائلة ال (فان وينكر) وثروة ال ( فانس ) . كان مقررا ان تقام مراسم الزواج بعد العصر .
وامر العريس ( بيلام فان وينكر ) بان توقد نار في مدفاته العتيقة رغم الدفء الغامر ، وما ان تم له ذلك حتى جلس على حافة منضدة الكتابة وشرع يلقي في النار بخطابات قديمة لف بعضها باشرطة وردية ، وكان يبسم هازئا من ان لاخر وهو يشاهد السنة اللهب تزدرد ماتبقى من حواف كل خطاب ، او يلمح وردة قديمة جافة بين طيات الرسائل ، وقد يجد قفازا معطرا او خصلة شعر مذعورة . اما اخر ماقدمه للنار المتاججه امامه فكان ضمة جافة من زهرات ( جنتيانا ) الزرقاء ، وتنهد ( فان وينكلر ) وزايلت الابتسامة محياه ، ومر شريط الذكريات بباله فتذكر كيف كان العام المنصرم في ثلة من صحبه … والشفق يطرز منحدرات جبال الالب … كانوا في قمة السعادة والنشوة … لاهين عابثين غير عابئين بشيء … وكان يرتدي زي صياد ضباء … ثم اطلت من خياله كالغيث في مهامه البيداء العطشى ، صورة تلك الصبية الفلاحه بعينين جذبتاه فسمرتاه ، وسحرتاه فاطارتا عنه لذيذ النوم ردحا من الزمن … كيف رنت اليه ثم رمت له بباقة من زهر ( الجنتيانا ) الزرقاء ، لو انه لم يكن ينتمي لال ( وينكلر ) بكل مايحمله هذا اللقب من تبعات ” قال لنفسه ” لتبعها وخطبها لنفسه فتزوجها ، اذ ان طيفها لم يفارق ناظريه وفؤاده مذ راها تلك الليله الشفقيه الا ان قيود العائلة والمجتمع قد حرمت عليه الزواج منها وبينهما ذلك الفرق الشاسع … على ان زواجه سيتم بعد العصر ” ذكر نفسه ” من ابنة تاجر الحديد المليونير . والقى ( بيلام فان وينكلر ) بباقة الزهرات الزرقاء في النار ثم دق الجرس مستدعيا خادمه الخاص .
هربت العروس انسه ( اوغستا فانس ) من جمهرة قريباتها بعد ان سئمت ضجيجهن وصراخهن المزعج فاحتمت بمخدعها الهادئ ولم يكن لها رسائل تحرقها او ماض تدفنه ، فاما والدتها ام العروسه فكانت في اوج سعادتها اذ ان ملايين العائلة قد بواتهم مكان الصدارة باقترانهم بعائلة ال ( وينكلر ) .
كانت مراسم حفل زواجها من ( بيلام وينكلر ) ستقام بعد عصر ذلك اليوم ، وغابت في لجة احلام اليقضه فتذكرت رحلة قامت بها مع عائلتها قبل عام الى اوروبا . ثم توقف تفكيرها عند جزء من تلك الرحله الماتعه حين امضوا اسبوعا في كوخ متسلق جبال سويسري على اعتاب جبال الالب .. واسترجعت بسعادة يشوبها الحزن ذلك الحلم حين عبات دلوها من نبع قريب وكرت راجعة ، وكانت يومها ترتدي على سبيل الدعابة زي فلاحة استعارته من ابنة صاحب الكوخ ، وعكست لها مراة خيالها صورتها ذلك اليوم وكيف بدت ساحرة الجمال فيه ، وقد انساب شعرها شلال تبر غطى كتفيها وتجاوز خصرها الرقيق ، وكيف صادفت في طريقها ابان قفولها عائدة شابا قويا وشته سمرة جذابة ، وكان يرتدي زي صياد ضباء .. كيف التقت عيناهما فتسمرت نظرات كل منهما على الاخر . ثم لاحت من ذاكرتها التفاتة الى باب كوخهم الذي فتح فجاة فتعالت منه اصوات شتى تناديها ، ولم تستطع تجاهل ذلك ، فخفت راجعة الى مصدر الصوت بعد ان قطعت باقة من ازهار ( الجنتيانا ) الزرقاء كانت معلقة على صدرها فرمت بها اليه ، وسارع هو بالتقاطها قبل ان تلامس الارض ، ثم دس بدوره في يدها زهرة برية كان قد اقتطفها من حافة الوادي . من يومها ” اعترفت لنفسها ” مابرحت صورته خيالها ، لقد شاء الله ان يلتقيا على انها وهي الثرية ذات المهر الذي بلغ خمسة ملايين دولار ماكانت لترتكب حماقة بزواجها من احد صيادي جبال الالب العاديين .
ونهضت الانسة ( فانس ) ففتحت علية مجوهرات ذهبية كانت فوق منضدة العطور ، واخرجت منها زهرة برية جافة سحقتها بين اصابعها حتى استحالت فتاتا ، ثم دقت الجرس مستدعية خادمتها فيما كان ناقوس الزواج يدق مؤذنا ببدء مراسم حفل الزفاف المنتظر .