{ كل نفس ذائقة الموت} (ال عمران: 185)، هذه هي الحقيقة الابدية والقاعدة الكلية التي ليس فيها استثناء، فالموت باب سيدخله الجميع ويشربون كاسه، ولم يجعل الله سبحانه وتعالى لاحد الخلد في الدنيا، ولكنه اجل مكتوب، وعمر محسوب، وهذا الموت قد افسد على اهل النعيم نعيمهم، فالعاقل من التمس نعيما لا موت فيه.
واذا اجرينا مقارنة بين الكيفية التي كان الناس يموتون فيها سابقا، وبين ما ال اليه الحال في ايامنا هذه، لوجدنا مفارقة تسترعي الانتباه، ففي السابق كان الموت يحل بالناس لاسباب الحرب: طعنة برمح، او ضربة بسيف، او رمية بسهم، او نزف لجراح، وكذلك لاسباب مرضية والتاريخ يذكر لنا كيف كان الناس يعانون من امراض مزمنة تلزمهم الفراش اوقاتا متطاولة، حتى ينتهي بهم المطاف الى مغادرة الدنيا، وثمة اسباب اخرى تتفق مع ما سبق في سمة واحدة: ان الموت كان يحل بصاحبه شيئا فشيئا، وقلما نسمع عن حلول الموت فجاة وبغتة.
بينما في العصر الحاضر، نلحظ تزايد حالات الموت الفجائي الذي لا يمهل صاحبه، ونستطيع القول ان مظاهر واسبابا جديدة قد برزت الى الوجود، وكلها ترتبط بظاهرة الموت الفجائي وتسببه، وسوف نتطرق اليها لاحقا.
اذن، فالموت فجاة هو امر طاريء على تاريخ البشرية، صحيح انه كانت له صور في السابق، الا انه لم يكن بمثل هذه الكثافة التي نراها هذه الايام، فهل لهذه الظاهرة المعاصرة علاقة بالحديث عن اشراط الساعة وعلاماتها؟
بالعودة الى السنة نجد ان تزايد حالات الموت الفجائي علامة اشار اليها النبي –صلى الله عليه وسلم- وبينها ووضحها تمام الوضوح، والعمدة فيها حديث انس بن مالك رضي الله عنه ان النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (ان من امارات الساعة ان يظهر موت الفجاة)، رواه الطبراني وحسنه الالباني.
فقوله –صلى الله عليه وسلم-: (ان يظهر موت الفجاة) يدل على ان هذه الحالة كانت موجودة في السابق وان بشيء من القلة، فلم تكن ظاهرة عامة ولكن حالات معدودة يمكن وصفها بالندرة، ثم يؤول الحال –بمقتضى الحديث السابق- الى بروز هذه الظاهرة وتزايد حالاتها وتناميها بحيث يلحظها الجميع.
نعم: لقد كان موت الفجاة موجودا في السابق، ونمثل له بما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري، من قول الامام البخاري:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع* فعسى ان يكون موتك بغتة
كم صحيح مات من غير سقم *ذهبت نفسه الصحيحة فلتة
ثم قال الحافظ بعدها: ” وكان من العجائب انه هو وقع له ذلك او قريبا منه، كما سياتي في ذكر وفاته”.
وينسب الحافظ كذلك الى الامام النووي قوله ان جماعة من الانبياء والصالحين قد ماتوا كذلك بغتة ودون امهال.
ثم نعرج الى حديث اخر كثيرا ما يذكر في سياق الحديث عن موت الفجاة، لربما يفهمه البعض على غير وجهه، وهو حديث عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه ان النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: (موت الفجاة اخذة اسف) رواه احمد وابو داود.
اذا غضضنا الطرف عن الاختلاف اليسير في مسالة وقف الحديث ورفعه في ظل وجود عدد من العلماء الذين يصححونه، فان وصف النبي –صلى الله عليه وسلم- لموت الفجاة بانه: (اخذة اسف) قد تفهم بانها حالة تستوجب الذم، فالاسف من حيث الاصل اللغوي هو الغضب، ومنه قوله تعالى: {فلما اسفونا انتقمنا منهم} (الزخرف: 55).
وهذا يقودنا الى السؤال التالي: هل موت الفجاة بحد ذاته مذموم؟ او انه –كما يقال- امارة على سوء الخاتمة؟؟ في الحقيقة ان هذه المسالة بحاجة الى بيان وتفصيل، فالنصوص الشرعية من حيث الاصل لا تدل على ان الموت السريع دون معالجة السكرات التي يراها الناس في المحتضرين ذات دلالة مذمومة بحيث يظن بصاحبها ظن السوء، ليس الامر كذلك، وهذا ما يشير اليه كلام العلماء وله دلائل من الشرع، فقد بوب الامام البخاري بابا في صحيحه وعنونه ب: ” باب موت الفجاة البغتة” واورد بعده حديث عائشة رضي الله عنها: ان رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ان امي افتلتت نفسها، واظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها اجر ان تصدقت عنها؟ قال: (نعم) ، والمقصود بالافتلات : الموت بغتة.
يعلق الامام بدر الدين العيني قائلا: ” هذا باب في بيان حال الموت فجاة، ولم يبينه –اي البخاري- اكتفاء بما في حديث الباب بانه غير مكروه، لانه -صلى الله عليه وسلم- لم يظهر منه كراهيته لما اخبره الرجل بان امه افتلتت نفسها”.
والفيصل في المسالة ان الذم في موت الفجاة لا من حيث الاصل، ولكن من حيث ما يترتب عليه، فميت الفجاة لا تتاح له الفرصة في ان يلقن الشهادة كما هو الحال للمحتضرين الاخرين، وقد لا يكون مستعدا للقاء الله، بخلاف من تقدمت له الدلائل وساق الله تعالى له من الشواهد على قرب مفارقته للدنيا، فاستعد للقاء خالقه ومولاه، وليس هذا بحاصل لمن يفجؤه الموت.
ثم ان الذين يموتون على هذا النحو لا يتوقعون موتا ولا ينتظرونه؛ لعدم قيام اماراته لديهم، كمرض، او كبر سن، او جروح، او نحو ذلك، وبالتالي يكون حرصهم على كتابة الوصية واعدادها اقل من غيرهم، ولاجل هذه المعاني يمكن ان يقال: ان للموت -على نحو غير مباغت- مزية على من فجاه الموت، وهذا المنحى قد اشار اليه العلماء في معرض شرح الحديث السابق.
يقول ابن بطال: “والاسف: الغضب، ويحتمل ان يكون ذلك، والله اعلم، لما في موت الفجاة من خوف حرمان الوصية، وترك الاعداد للمعاد، والاغترار الكاذبة، والتسويف بالتوبة”.
ويمكن النظر الى موت الفجاة من زاوية اخرى، بان يقال: هو يختلف باختلاف متعلقه، فان تعلق باهل الصلاح والتقوى، كان رحمة من الله لاصحابه؛ اذ خفف عنهم سكرات الموت وصانهم من معالجة شدته، وان تعلق باهل الفسق والفجور كان نقمة من الله عليهم، اذ لم يمهلهم حتى يتوبوا ويتداركوا امرهم، وبذلك يكون رحمة للصالحين، ونقمة على الكافرين والفاسقين، والنظر الى المسالة من هذا المنظور وارد على السنة الصحابة رضي الله عنهم، فقد اثر عن عبد الله بن مسعود وعائشة رضي الله عنهما قولهم : “هو اسف على الفاجر، وراحة للمؤمن”.
ومن معالم انتشار موت الفجاة في العصر الحاضر ظهور عدد من الامراض المسببة له، ولم تكن تعرف من قبل او لم يكن لها ذاك الانتشار، كحدوث الجلطة الدماغية، والسكتة القلبية، وهبوط الدورة الدموية، وارتفاع نسبة البوتاسيوم في الدم او زيادة معدل حموضته، او حدوث ما يسمى بالرجفان البطيني، وكلها امور تسبب الموت السريع لصاحبه، والواقع يشهد بارتفاع معدل الوفيات عالميا بسبب هذه الاعراض دون تفريق بين صفوف الشباب والمتقدمين في العمر؛ اذ لا علاقة لها بعامل السن.
ومن اسباب موت الفجاة ولا شك: ما ابدعته عقول البشرية من انواع الاسلحة الحديثة من قنابل وصواريخ ومعدات حربية، تقتل من الناس وتسفك من الدماء ما لم يكن في عصور السيوف والرماح، فضلا عن الاسلحة النوعية ذات الدمار الشامل، كالقنبلة النووية والقنبلة الهيدروجينية، وما اخبار هيروشيما وناجازاكي عنا ببعيد، حيث تسببت القنبلتان اللتان القيت في المدينتين المذكورتين انفا الى حصد اروح ما يزيد عن مائة واربعين الف شخص في غمضة عين، وهي كارثة لم يمح عارها عن جبين التاريخ الانساني.
ومن الصور الحديثة لموت الفجاة: ما تسببه حوادث الطرق ، وتعرض الناس لهذه المخاطر بسبب اهمال بعض السائقين وقيادتهم على نحو متهور، فضلا عن الخسائر البشرية الحاصلة جراء الاصطدام او تجاوز الطريق او انفجار العجلات، وما يحصل احيانا من الاعطال الميكانيكية في السيارة، ومثل هذا الكلام ينسحب على وسائل النقل الاخرى كالقطارات والطائرات.
ويمكن ان يضاف الى ما سبق، كثرة الزلازل في الاونة الاخيرة، وما تسببه من اثار تدميرية وقتلى بالعشرات، ومعلوم ان عددا ليس باليسير منها لا يمكن التنبؤ به من قبل هيئة الارصاد الجوية، وقد لا تستمر تلك الزلال اكثر من عشرين او ثلاثين ثانية كما يذكر المختصون، فحينها يمكن وصف ضحايا هذه الزلازل بان الموت قد اخذهم بغتة.
هذا هو موت الفجاة، وانسلال الروح على حين غرة، فلا مقدمات ولا علامات، ولا امارات ولا دلالات، ولا امهال ولا اخطار، فليحذر كل الحذر المتهاونون الغافلون، الذين غرهم طول الامل، وغرهم بالله الغرور، ولينتبه المسوفون للتوبة، والمنشغلون بحطام الدنيا ومتاعها، ولا بد من المحاسبة الجادة للنفس والعودة الى الله تعالى، قبل ان يفجا الموت، ولات حين مندم، قال الله تعالى: { ان تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وان كنت لمن الساخرين* او تقول لو ان الله هداني لكنت من المتقين* او تقول حين ترى العذاب لو ان لي كرة فاكون من المحسنين} (الزمر:56-58).
وخاتمة الكلام ان ننوه على احاديث لم تصح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في الباب:
الاول: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موت الفجاة؟ فقال: ” راحة للمؤمن، واخذة اسف للفاجر “، رواه احمد وفيه عبيد الله بن الوليد – وهو الوصافي – متروك، وعبد الله ابن عبيد الله بن عمير لم يسمع من عائشة، ولكن الحديث صح من طرق اخرى موقوفا عليها رضي الله عنها.
واما الحديث الثاني فهو عن ابي امامة رضي الله عنه، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من موت الفجاة، وكان يعجبه ان يمرض قبل ان يموت. رواه الطبراني في معجمه الكبير قال الهيثمي: فيه عثمان بن عبد الرحمن القرشي وهو متروك.
والثالث: عن ابي هريرة رضي الله عنه، ان النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بجدار او حائط مائل، فاسرع المشي، فسئل عن ذلك، فقال: (اني اكره موت الفوات)، رواه احمد، وفيه ابراهيم بن اسحاق، ضعفه غير واحد من الائمة، وقال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك.