الانتحار في السويد

الانتحار فالسويد

 

ذكرت تقارير صحافيه عديده صادره عن جهات مختلفة ان “السويد” تاتى فمقدمه دول العالم فمعدلات الانتحار.
وهي ظاهره بالاضافه لكونها مقلقة،
تستحق الوقوف امامها طويلا،
والبحث فاسبابها و مسبباتها،
ولكن،
قبل تحليل دلالاتها و ابعادها ينبغى التاكد اولا من مدي مصداقيه هذي التقارير.

وجة الغرابه فهذه التقارير،
ان بلدا ينعم بالامن و الاستقرار و الرفاهية،
اكثر من اي بلد احدث فالعالم من المفترض ان يصبح مواطنية راضين و سعداء،
فلماذا ينتحر اي منهم و لدية جميع سبب الحياة الكريمه و مقوماتها !

فاذا كان ذلك ما يحدث مع شعب السويد المترف؛
فماذا ابقوا لشعوب العالم الثالث الذين لديهم الف اسباب للانتحار ؟
!

ربما يصبح مشهد الانتحار افظع و اغرب عمل ممكن ان يقدم عليه اي انسان،
فهو من ناحيه يمثل قمه التراجيديه الانسانيه على مسرح الحياة،
حيث يصبح بها “بطل” المشهد هو القاتل و القتيل فنفس الوقت.
ومن ناحيه اخرى هو من بين اكثر الموضوعات اثاره للحيره و الدهشة،
اى الدهشه من تلك القوه الغريبة التي تسيطر على الانسان و تدفعة لانهاء حياته.
واغرب ما فالمشهد لحظه تنفيذ قرار الانتحار ؟

اللحظه التي تمثل ذروه الماساة؛
حين يفقد المنتحر جميع امل فالحياة،
ويختار طائعا (او مكرها) ان يغادرها على الفور.

الانتحار ليس بالظاهره الجديدة؛
فقد عرفتها الشعوب القديمة،
وادخلتها طقوسها الدينيه و الفلسفية؛
فمثلا انقسم فلاسفه الاغريق حول الانتحار،
فيما اعتبر محاربو “الفايكنج” القدامي الموت الطبيعي امرا مهينا للمحارب؛
فاذا ما احس احدهم انه موشك على الموت فانه يضع حدا لحياتة بنفسة بكيفية “لائقة”،
اما محاربو “الساموراي”،
فلقد لجئوا الى الانتحار على كيفية “الهاراكيري”،
فاذا ما احس مقاتل بانه سيقع فالاسر؛
فانة يقطع احشائة بسيفه.
والتاريخ قدم لنا كذلك الكثير من الامثله عن حالات انتحار لشخصيات مرموقه لم تجد امامها خيارا حينما امتحنت كرامتها سوي الانتحار: هنيبعل،
وكليوباترا و زنوبيا و غيرهم.
الا ان الكرامه ليست الاسباب =الوحيد للانتحار.
فهنالك حالات انتحار لشخصيات ناجحه بالمعايير المجتمعيه السائدة،
مثل الروائى الامريكي ارنست همنجواى ،

والكاتب السويدى و ليام موبيرى ،

والممثله الشهيره ما رلين مونرو .

وجاء فتقرير اصدرتة منظمه الصحة العالمية،
بان اكثر من مليون و 200 الف شخص يقدمون على الانتحار فالعالم سنويا.
وكشف التقرير الذي صدر فالعام 2024 ان اعمار غالبيه الفئات المنتحره تتراوح ما بين 15 ~ 45 عاما،
وان الامراض النفسيه و الذهنيه كالاكتئاب،
وانفصام الشخصية،
والوسواس القهري،
والادمان على الكحول و المخدرات تاتى فمقدمه سبب الانتحار،
يليها سبب اجتماعيه و نفسيه ثانية كالفشل فالدراسة،
او انهيار علاقه عاطفية،
او البطالة،
او الافلاس،
وكذلك هنالك الامراض المزمنه و المستعصية،
والفراغ و الوحده و الياس،
والقلق .
.
وكلها دوافع لاقدام الكثيرين فالقارات الخمس على الانتحار بارادتهم “المهزوزة” او “القوية” .
.
لا فرق.

ومع ان العديد من هذي الاسباب موجوده فالمجتمع،
ويعانى منها اغلب الناس،
لكنهم يتعاطون معها بطرق و درجات متفاوتة،
وقله قليلة منهم تختار “الانتحار”،
ذلك لانة ليس بالقرار السهل الذي ممكن ان يتخذة الانسان جميع يوم.
لهذا فان البعض اعتبر الشخص المنتحر شجاع و ذو اراده صلبة،
لم يقبل بان تمتهن كرامته،
فاختار الموت على حياة بلا معنى.
بينما اعتبر اخرون ان المنتحر جبان و انانى و ذو شخصيه مهزوزه و غير قادر على المواجهة،
فاختار الهروب.
ومنهم من راي فالمنتحر شخص مضحي،
اراد ان يعبر عن احتجاجة على قضية ما ،
ولكن بالتضحيه بحياته.
وبالرغم من ذلك الخلاف الا ان المجتمعات الانسانيه جميعها ترفض الانتحار و تدينه،
والديانات السماويه كلها شددت على تحريم الانتحار،
والاسلام اعتبر الانتحار نوعا من قتل النفس التي حرم الله.

علماء النفس و علماء الاجتماع،
كتبوا العديد عن هذي القضية،
ومن اثناء تقسيمهم المنتحرين الى فئات عمرية،
وجنسية،
والي طبقات و شرائح اجتماعية،
ومستويات تعليمية،
ومادية،
وتحليل البيانات و الاحصاءات المتعلقه بهذا الموضوع،
توصلوا لنتائج عديدة،
اهمها ان العوامل النفسيه الضاغطه التي توصل الشخص للانتحار من الصعب اختزالها فعامل واحد،
او ارجاعها لسبب محدد،
او حصرها فمنطقة ما دون غيرها.

وبالرجوع للتقارير الصحافيه و المواضيع التي تحدثت عن نسب الانتحار فالدول المختلفة،
نجد ان اغلبها اجمعت على ان “السويد” تحتل المرتبه الاولي فنسب الانتحار فبورصه الانتحار العالمية.
ولكن بالتدقيق نجد العديد من التباينات و التناقضات بين هذي التقارير،
كما نجد المبالغات و الارقام غير المنطقية،
والتفسيرات السطحيه المجتزاة،
التى تري الحقيقة بعين واحدة،
وبجكم مسبق.

ومع ذلك،
لا احد ينكر – بما فذلك المصادر الرسمية السويديه – ان ظاهره الانتحار موجوده فعلا فالدول الاسكندينافيه بمعدلات مقلقة،
لكن الخلاف حول سبب هذي الظاهرة؛
باحثين كثر اعتبروا ان الفراغ الروحى و الملل و الخواء الفكرى اهم دوافع الانتحار فتلك البلدان،
حيث تؤدى تلك العوامل الى التية و الضياع و تعميق الشعور بالوحدة،
وبالتالي فقدان حافز الاستمرار فالحياة.
واخرين اضافوا قله الوازع الديني؛
حيث ان غالبيه السويديين لا علاقه لهم بالدين،
ولا يرتادون الكنيسة،
ولا يؤمنون بالله.

ولكن الفراغ الروحى و الازمات النفسيه و ضغوطات الحياة ليست حكرا على السويد؛
انها نتاج الراسمالية،
وهي موجوده فكل المجتمعات الصناعيه تقريبا.
وبالنسبة للوازع الدينى هنالك مجتمعات لا اسلاميه كثيرة حول العالم،
ومع هذا لم تركز التقارير على معدلات الانتحار فيها،
كما ركزت على السويد.

واذا ما استبعدنا العوامل الماديه و الاقتصاديه كاسباب محتمله للانتحار،
نظرا لان الدول الاسكندينافيه (وفى مقدمتها السويد) توفر الدعم المادى و السكن و فرص العمل و التعليم المجانى و التامين الصحي و الرعايه الاجتماعيه لكافه الفئات المجتمعية،
لا يبق امامنا سوي البحث فالتفسير البيولوجى لشعوب تلك الدول و البيئه المناخيه التي يعيشون بها لعلنا نجد فيهما الجواب.
ومعروف ان تلك البلدان تعيش شتاءات طويله و شديده البرودة،
يترافق معها احتجاب شبة كامل للشمس لفترات طويله جدا،
وبالتالي قد تكون هذي الظاهره هي المسئوله عن زياده اعداد المنتحرين،
حيث تبعث الظلمه على الاكتئاب،
وتسبب الغمه فالنفوس.
وبما ان معدلات المنتحرين فتلك الدول فالصيف هي تقريبا نفسها معدلات انتحار نظرائهم فالشتاء،
فان تفسير هذا يعود لطول فترات ظهور الشمس،
الامر الذي يؤدى الى خلل و اضطرابات فالساعة البيولوجيه للانسان (فى الصيف و الشتاء)،
يتسبب بعدم انتظام ساعات النوم،
وبالتالي اختلال توازن الدماغ،
ينشا عنه تعب و ارهاق نفسي ربما يصل الى حد الاكتئاب.
لكن الملاحظ ان اغلبيه الناس تمارس الرياضه و تشارك فالنشاطات التطوعيه بكثرة.

وعلي ما يبدو ان اغلب التقارير و الدراسات التي زعمت ان السويد تتربع على قمه معدلات الانتحار فالعالم،
هى تقارير موجهة،
ذات دوافع ايديولوجيه و سياسية و اضحة،
تريد ان توصل الينا رساله مفادها ان نظام الحكم فالسويد فاشل،
وان الرخاء و الرفاهيه تدفع الناس للانتحار،
وبالتالي فهي “كماليات” غير مطلوبة،
مع التاكيد على ان نماذج الحكم فالعالم الثالث هي الافضل،
(سواء الانظمه القائمة فعليا،
او الانظمه الافتراضيه التي تنتظر فرصتها فالحكم)،
حيث لا يقبل رعايا هذي الانظمه على الانتحار.

ولزياده التاكيد على ان نموذج الحكم السويدى فاشل و غير صالح،
وانة بحد ذاتة بيئه مفرخه للمنتحرين،
داب كثير من الكتاب على التنقيب على مثالب و مساوئ ثانية فالمجتمع السويدي،
مع شيء من المبالغة،
من اثناء استعراض تقارير و اخبار تتحدث عن الجرائم و المخدرات،
او عن حالات التحرش و الاعتداء الجنسي،
او تلك التي تصف تفكك الاسرة و انحلال المجتمع،
وسقوط القيم الاخلاقية،
وخواء الانسان و ضياعة …

القضية هنا ليست دفاعا عن السويد،
ولا عن النظام الراسمالى .
.
انها قراءه فعقليه منهجيه تجد فاخطاء الاخرين عزاء لها،
وتغطيه على فشلها.
فلا شك ان مناظر السويد الخلابه تخفى و رائها العديد من السلبيات و المثالب،
وانة بالرغم من جهود الدوله و برامجها الهادفه لخدمه المواطنين،
الا ان الانسان بها ما زال يعانى من الازمات النفسيه و ضغوطات الحياة الخانقة،
التى ربما تدفع بالبعض للانتحار.
وفى ذلك دليل بان الحضارة الغربيه (الراسمالية) ما زالت عاجزه عن تحقيق سعادة الانسان.
وبالتعمق اكثر فالادبيات الماركسيه و الاشتراكيه و الاسلاميه سنجد جميع عيوب الراسماليه على اقبح ما تكون.
لكن الدول الاسكيندنافيه عامة قدمت نموذجا مختلفا فالاقتصاد الراسمالي؛
نموذجا به العديد من الاشتراكيه و العداله الاجتماعيه و الانصاف فتوزيع الثروة،
وحقوق العمال،
وشفافيه الدولة.
(رئيس الوزراء السويدى السابق،
“يوران برشون”،
اضطر للانتظار اكثر من سته اشهر كى ياتية الدور لاجراء عملية جراحيه فالعمود الفقري).

بعض الدراسات اشارت الى ان نسبة الانتحار فالدول العربية و الاسلاميه هي الاقل.
البعض ارجع هذا لموقف الاسلام المتشدد بتحريم الانتحار.
لكن الاسلام حرم كذلك القتل و السرقه و الكذب و الغش… و مع هذا فان كثير من الناس فالمجتمعات الاسلاميه تمارس هذي الموبقات اكثر من غيرها !
!
بعض المفسرين اوضحوا ذلك التناقض معتبرين ان المؤمن حين يقدم على اقتراف اي معصيه فانه يبرر لنفسة ذلك،
علي امل انه سيعيش طويلا الى ان يجد الفرصه للتكفير عن اخطائه،
اما المنتحر فلن يجد اي فرصه للتوبة.
لكن هذي التفسيرات تنطلق من فرضيه ان الشخص المنتحر كان لدية ترف الخيار و التفكير.

ومع ذلك،
التسليم بهذه الفرضيات به العديد من التسرع،
ذلك لان دول العالم الثالث (وبشكل خاص الدول العربية) ليس لديها نظام توثيق فعال،
وتفتقر للشفافيه و للاحصاءات الدقيقة،
وربما لديها حالات انتحار اكثر مما نعرف،
ولكن يتم التستر عليها،
او اهمالها،
حيث فعديد من الاحيان يتم اخفاء سبب الوفاة,
او يتم دفن الميت (بحجه اكرامه) دون تشخيص اسباب الوفاه الحقيقي و بحضور طبيب شرعي.

الخلاصة

الانتحار ممارسه غير مسؤوله من شخص فقد القدره على المواجهه و اختار الهروب،
لكن هذي الظاهره المؤسفه موجوده فكافه المجتمعات الانسانيه على حد سواء.
الارقام التي تزعم بان معدلات الانتحار فالدول الصناعيه هي الاعلي غير دقيقة،
ذلك لان دول العالم الثالث تفتقر لنظم الاحصاء و التوثيق،
وبالتالي فان المقارنة غير موضوعية.

الفرق بين الدول المتقدمه و المتخلفه لا يكمن فنظام التوثيق و حسب؛
بل و الاهم من هذا فطريقة التصرف تجاة ظاهره الانتحار و غيرها من الظواهر السلبية،
فمثلا يستفيد المختصون من تلك الاحصاءات فالبحث عن سبل معالجه هذي الظاهرة،
وبشكل علنى و فعال،
علي عكس ما يحدث فالدول المتخلفة.
وحتي ردود افعال المجتمع تكون مختلفة.

فى الدول المتحضره (وفى مقدمتها السويد) سرعان ما يلحظ الزائر حسن التنظيم و دقتة فالشوارع و المؤسسات و فسلوك الناس،
وفى اداء الحكومة و خدماتها،
وتعاملها مع المواطنين،
فمثلا لا تري جنديا بسلاحة و لا حتي شرطى المرور،
ومع هذا فان النظام و القانون يطبق بكل احترام.
بينما فالدول المتخلفه (ومن بينها بلداننا العربية) فان مظاهر الفوضي و العنف و القذاره و غياب القانون تجدها بكل و ضوح بعد خمسه دقيقة من دخولك لاى بلد عربي.
واذا ما تعمقت اكثر فحياة الناس الاجتماعيه ستسمع جميع ما هو عجيب و غريب من قصص واحداث و مشاكل مجتمعية،
وستصدم بما تراة من امراض نفسيه و سلوكيات غير سويه و ظواهر سلبيه و عقليات متخلفه … و حتي افرازات النظام الراسمالى و سلبيات المجتمعات الصناعيه ستجدها فالدول العربية مع فارق بسيط،
انها مجتمعات استهلاكيه غير منتجة،
اخذت من الغرب اسوا ما فيه،
وتركت جميع ما ممكن ان يصبح مفيدا و صالحا.

وهذا لا يعني ابدا ان كل الناس فالبلدان العربية على نفس الشاكلة،
وهذا ليس جلدا للذات،
او ترفعا عن المجتمع،
او الادعاء باكتشاف ظواهر غير معروفة .
.
كل من يعيش فالبلدان العربية يعرف تماما كم نحن متخلفون.
وفى نفس الوقت ذلك الكلام لا يعني ابدا ان المجتمعات الغربيه خاليه من العيوب و المشاكل،
وان الانسان بها يحيا حياة سعيدة.

لا شك ان من يبحث و يتعمق فالمجتمعات الغربيه عامة (بما بها السويد) و بعد ان يتخلص من تاثير المفاجاة،
ومن حالة الانبهار بالتنظيم و النظافه و جمال المناظر … سيجد بها العديد من السلبيات و المساوئ و العيوب،
ليس لانة لا يوجد مجتمع مثالى فالعالم،
وحسب؛
بل لانها مجتمعات صناعيه راسماليه يختبئ فو سطها نظام متوحش،
وقد ازدادت هذي الانظمه توحشا فظل نظام العولمة،
فى هذي المجتمعات يعانى المواطن من ازمات عديدة،
ومن شعور بالاغتراب الذاتي،
وحتي الحريه التي طالما تغني فيها النظام الراسمالي،
سرعان ما يتكشف و جهها الحقيقي،
فاذا فيها عبوديه لمعظم طبقات المجتمع؛
عبوديه ناجمه عن استغلال الطبقات لبعضها،
وعن صراع الفرد مع المجتمع،
المجتمع الذي يشعر به الانسان بضالتة امام الالة،
وامام المدينه التي تبتلعة دون ان يشعر فيه احد.

المفارقه (اذا كانت فعلا مفارقة) ان الهاربين من جحيم بلدانهم (المؤمنة) و من نيران حروبهم الاهليه ليس عليهم سوي دخول الحدود السويديه (الكافرة) و تسليم انفسهم لاقرب مخفر شرطة،
ليعرفوا حينها (وربما لاول مرة) المعني الحقيقي لاحترام الانسان.

  • الانتحار في السويد
  • ظاهرة الانتحار في السويد
  • الانتحار فى السويد
  • نسبة الانتحار في السويد
  • هل هو صحيح أن معدلات الانتحار في السويد


الانتحار في السويد